أميمة موليف _ كآبة الألوان

الكتابة على علاقة جدلية مع الألم و الإضطراب..لا أعني أن هذه قاعدة عامة ، بل الأمر كذلك فقط بالنسبة لي..لم أعد على تواصل بما أشعر به ، خصوصا ما يضرب جدوره في أعماقي ..معظم الفن صار مجرد خربشات ضعيفة تافهة..لم أظنني يوما سأراه بهذا الشكل الهلامي ، بعد أن كان بر الأمان الذي كانت سفينتي ترسو عليه كلما عصفت بها الرياح مهددة كيانها الهش..نعم ظننتي بنيت صرحا عاليا حول كل ما اعتدت على دعوته بال”ثمين” داخلي..خلتني استجمعت ما يكفيني من القوة من مواطن ضعفي لأستمر بالعيش..لكني بدأت أحس بأظافره الحادة تخدشني من كل جانب ، مرة أخرى..هو ليس هنا بعد ، لكني لازلت اتذكر جيدا عبق رائحته النفاذة التي كان يتركها بصدري بعد كل زيارة..هو ليس هنا بعد ، لكني أحس بوجوده بشدة..أتراني صرت مهووسة به؟ ..ربما !..لكن حدسي عادة لا يخونني..و المرعب في الأمر أنني لم أعد أملك الطاقة لأضيفه بشكل جيد خاصة و أنه ضيف ثقيل صعب الإرضاء..ياليتني استطعت قطع صلتي به مذ آخر مرة تواصلنا بشكل مباشر..كانت ليلة ربيعية دافئة..ثملة كنت بالأزرق و الأسود .. و محاطة بالأحمر..حاولت أن أودعه و بدل أن أودعه عانقته عناقا حارا ، و بالمقابل أهداني 50 حبة صغيرة وردية اللون..سألته بكسل و بعينين نصف مغلقتين : “ما هذه ؟ “..قال بابتسامة مغرية : “إنها لذيذة و إنها الخلاص”..قبل أن ينهي كلماته كنت قد بدأت أرسل الحبات الصغيرة إلى معدتي..الواحدة تلو الأخرى..وأذكر أنه-لحنانه- ساعدني بذلك ،لأني كنت ثملة و واهنة..
انتهيت..انتهى الأحمر..انتهى الأزرق..بقي الأسود و رافقه الرمادي ..غادر ضيفي كذلك ، أو ربما خرج في نزهة..بقيت وحدي في الظلام لمدة يومين و نصف..علمت بهذا بعد أن فتحت عيني في غرفة مشعة مع رجل ببذلة طبيب ينظر بعيناي و يقول متعجبا :” أنت بخير!”..ذرفت دمعتين ساخنتين..ثم فجأة لمحت صديقنا في زاوية الغرفة ينظر إلي بابتسامة محبطة..شعرت فجأة بالغضب و أردت القفز من على السرير نحوه و صفعه بقوة ، عقابا له على كذبه.. و على كل شيء..لكني كنت عاجزة تماما عن الحركة ، فجسدي كانت تلصقه قيود جلدية بالسرير..تبا ما هذا!..ما الذي يحدث هنا؟..أين أنا؟…أسئلة كثيرة كانت تمطر بغزارة و دون توقف داخل رأسي..حاولت الحراك مرة أخرى لكن دون فائدة ، ثم استسلمت أخيرا و حاولت أن أهدأ ثم فعلت..فكرت مطولا بعد أن أدركت كل ما حدث و يحدث..فجأة نهض صديقي من مكانه..تحرك نحوي..وقف يحملق بوجهي لدقائق ثم ارتمى بجانبي على السرير بجثته الضخمة..تبا ماذا الآن؟..أتراه هو ايضا منهك مثلي؟..لا يهم..سأتجاهل وجوده..لا يمكنني طرده على كل حال…و هكذا ظل الحال لشهور ، مع تغيير غير مهم في الأماكن و الشخوص..تجاهل..لامبالاة..تجاهل..لامبالاة..حتى بدأت ألاحظ أنه بدأ يتخفى عني معظم الوقت..حتى أنني بدأت أنساه تماما في بعض الاوقات..لوقت طويل لم أعد أبالي أين تراه قد يكون ، أو كيف عساي سأمضي الليلة التالية من دونه..في الواقع هذا أعطاني شعورا مغلفا بالإرتياح..و بدأت أخلق لنفسي ملهيات تافهة من لاشيء..ضحكات و قهقهات عالية..صداقات مزعومة سرعان ما تنطفئ..ثم مجددا بدأ الاحساس بالوحدة يتسلل إلي من كل جانب..استخدمت معه نفس النهج : تجاهل..لا مبالاة..لكن اللاجدوى و اللامعنى دائما تصيحان بي أن هيهاااات!…أنا الآن مرعوبة و متشوقة في آن واحد !..فأنا لم أعد أحسن قواعد الضيافة..و ليست لدي الطاقة الكافية لأتعلم من جديد …كيف تراها ستسير الأمور هذه المرة؟..
في الواقع ، ليس مقدار اهتمامي أكبر من مقدار لااهتمامي بهذا…رغم أني أتظاهر بالعكس..
لم أستطع الكتابة لشهور..ثم استيقظت فجأة من نوم مضطرب و مزين بالكوابيس ، لأجد نفسي أكتب الآن دون حتى أن أفكر فيما أكتب..
ألا تبا لي و لضيفي و لكوابيسي و لصراخ جارتنا الذي لا ينقطع و يكاد يصم أذني الآن! ألا تبا للكتابة و لكلماتي المهترئة و لابتسامة الطبيبة النفسية الخرقاء! و ألا تبا للنهار الذي صار ليلا و للمبتذل الذي صار مهما و لله الذي صار كلمة! و أخيرا تبا لي بعد أن كنت لي و لم أعد لي ! .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى