الأعين القرمزية وصحن اللزانيا – تركي علي

استيقظت اليوم على نبض قلبي المضطرب والذي يسمع تدفق الدم منه كمجرى نهر. وطأت سجادتي التي وضعت دون أن تقابل القبلة. اقتربت من النافذة، نحيت جفنين من القماش عنها، وأمسكت بكوب ماء، وسقيت وردة على مشارف الموت. الحياة لا تزال نائمة.. والموت الذي استيقظ مرعوبًا من حلم سيء، مثلي تماما، يجوب الشارع أمام بيتي. بائع الجرائد يصرخ بأخبار أكثرها كاذب. الموت الذي لا يزال مرعوبًا، يهرب في زقاق خلفي تفوح منه رائحة البواليع. جف الماء عن تربة الوردة بسرعة رهيبة ولم يرطب إلا القليل. وضعت الكأس على الطاولة. غسلت أسناني بسرعة رتيبة. ودفعت بملابسي المتسخة لفوهة سلة الملابس، فغابوا في واد سحيق من الملابس. سرحت شعري بضربتين سريعتين عليه. ثم خرجت للشارع.
الناس يستيقظون بالتتابع، كعدوى التثاؤب. الحياة تستيقظ ناعسة. العمل في يوم عطلة كهذا يعد جريمة لا تغتفر، لدي على الأقل.
جلست على كرسي بالمقهى في آخر الشارع. أفتح جريدة اليوم. حروب متتالية، لا منتصر فيها سوى التاريخ، المتغير الوحيد. اختلاسات تظهر وراء جمل مزخرفة مثل “مشروع المطار الجديد يذهب لشركة …” أو “عمل خيري يتعدى المليونين دينار لمؤسسة …” أو “الجنسيات بالمجان، قضية مستحقة، يدافع عنها ….”
أقلب صفحات الجريدة بسرعة بحثا عن صفحة الكلمات المتقاطعة، ثم الممثلات البلاستيكيات.
نحيت ستارة أحد الشقق في الدور الثالث للبناية مقابل المقهى، ثم فتحت النافذة. أطل برأسه رجل في الاربعين من عمره، بشارب عظيم يقف عليه الطير، وشعر طويل ناعم، أما ملامحه فلم تكن واضحة كل الوضوح من مكاني البعيد. كانت يداه البيضاوين النحيلتين تتلمس جسده كله, ثم بدأ بنزع الملابس عن جسده. نزع صداره, فقميصه, وخرجت، رغم نخله، كرش صغيرة يخبئها خلف ملابسه. نزع بنطاله وسرواله الداخلي وبقي عاريًا، تحرك الرياح شعره الناعم فوق رأسه وبين فخذيه بحركة متزامنة.
شرع الرجل بتعداد أسباب لم نكن نعرف عنها شيئًا. فقد صرخ قائلا:
– لأن الحياة رائعة، نحن رجال.
كان البعض ينظر له باستغراب,وآخرين بتقزز، لكنهم اجتمعوا بالضحك حين قال الجملة التالية:
– لأن الرئيس سمين سيأكل حتى الفئران مع اللزانيا.
ضحكت أنا أيضًا حين قال تلك الجملة المنطقية. رفع الرجل يديه العاريتين، ورفع سبابته للسماء. كان اصبعه كعود أراك في مواجهة تلك السماء الزرقاء العظيمة. التفت حولي.. كانت الحياة التي دبت في البشر والشارع تنظر لهذا الرجل العاري، وكنت الوحيد الذي رأى حوله لرؤية أثر تلك الجمل التي يطلقها ببراعة وبلاهة. أنزل الرجل سبابته.. تبعته عيني، فتح فمه، تبعه سمعي. قال بصوته المتقطع الحاد:
– لأن الفتاة في زاوية الشارع تنظر منذ سنتين، سأضاجعها.
التفت الناس المتجمعون نحو الفتاة، التي انفجرت في وجنتيها الأوعية الدموية.. فتحولت للون دم يخالط لون بشرتها الحنطية. لم تستطع الفتاة الرفض، مشت كالمسيرة، فتحت باب بناية العاري ذو الأسباب ودخلت. كنا جميعًا ننتظر مدهوشين لقدرته على التحكم بإرادة البشر، إرادتنا أعظم ما نملك، يأتي هذا النحيل المضحك ويتحكم بها!
مرت خمس دقائق منذ دخلت الفتاة، غاب الرجل لبضع دقائق، وكنا نسمع صوت الفتاة مكتوم على حياء. مرت نصف ساعة منذ دخل الرجل، ونصف ساعة يصل فيها خبر من الصين إلى بلاد الخليج. اقتحم الحي رجال الشرطة بمركباتهم السوداء ذات الضوئين الأحمر والأزرق. صوت هدير سياراتهم يخبو. أطفأوا محركاتهم. وعلى نهيق بشري في مكبر الصوت:
– انزل يا لعين. ارتد ثيابك واترك الفتاة في حالها وانزل.
بعد أن أعاد الشرطي الجملة ثلاث مرات، وهدد بأن يقتحم الشقة، خرج الرجل العاري في حضنه الفتاة متلحفة بفراء ينزلق على كتفيها، كآلهة اغريقية قديمة, بوجنتيها الحمراوين، وصرخ بعد أن نزع يده عن ظهر محبوبته:
– لأن العري جميل، ستتغوطون على Hنفسكم.
ضحك أهالي الحي المتجمعين. شعر رجال الشرطة وبالتحديد الرجل الذي يمسك بيده مكبر الصوت، بالخزي والعار لما قاله الرجل العاري، وشعروا حقًا بأنهم سيتغوطون على أنفسهم، لكنهم تماسكوا بصعوبة.

علت ابتسامة وجه الرجل العاري، أما الفتاة فكانت تنظر له بفخر. قال الشرطي ذو مكبر الصوت:
– سب الرئيس جريمة وطنية، ستعاقب، ستحرق جنسيتك. وربما، إن سمح لي رئيسي، ستحرق أنت أيضًا.
أبى الرجل أن يتزحزح عن مكانه وعريه. اهتزت الأرض من وقع أقدام رجال الشرطة الغاضبين. اقتلعوا الباب بالسندانات التي يمشون عليها. وخطوا فوق رفات شيء كان بناية قبل قليل. كنا نتابع صوت مشيهم، فكانوا يتخطى الدور الأول. الدور الثاني، ها قد اقترب.. ثلاثة، اثنان، بوم، رأس الشرطي ذو مكبر الصوت يطل من النافذة وهو يعارك الرجل العاري, أما الحنطية الاغريقية فكان صوتها يتوسل في مكان ما.
خرج رجال الشرطة مع العاري، مبتسما رافعا رأسه، والريح التي هبت ببرودة لم تفترض أن توجد في يوم صيفي حار، تحرك شعره. مر رجال الشرطة بجانبي كما فعل الرجل العاري، كانت عينيه قرمزيتين تشيان بخبث رهيب وابتسامة فخر تعلو شفتيه الداكنتين، وبضع شعرات بيضاء تظهر في شاربه توحي بعمره الأربعيني المبكر. اقتلع انتباه عيني بعينيه القرمزيتين، وقال وهو ينظر الي مباشرة:
-لأن العري جميل، سيتغوط رجال الشرطة على أنفسهم.
وحين تركوا المكان، أورثوا رائحة خراء بشعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى