الجدار – قصة قصيرة لعبده خال

كانَ نائماً و رأى فيما يرى النائم : زنزانة ضيقة نتنة ،كان يقف فيها بصعوبة ، و المسامير تأكل من جسده ، فتهطل دماؤه سوداء ، و يصرخُ فلا يسمع لصوته من صدى ، و رأى حية رقطاء تلتفّ حول عنقه ، وتهمّ بغرس أنيابها بحبل الوريد ، وقبل أن تفعل ذلك استيقظ من نومه فزعاً ، ودفعَ غطاءه لكنّ الغطاء استحال الى جدار .

الجدار مرّة أخرى. أحبُّ البرد بهذه العادة التي درجتُ عليها منذ الصغر حيث أغلق منافذ غرفتي و التحف بغطاء سميك ، و ارتشفُ كوباً ساخناً من الشاي بينما عيناي تركضان بين سطور إحدى الروايات ، و لم يطرأ أي تغيّر على هذه العادة سوى علبة سجائر استجلبُ منها دخاناً يُنعش هاتين الرئتين ويزيدهما ضيقاً ، و لا زلتُ أستلذُّ بهذه الجلسة مع كلِّ موسم شتاء .

كان من الممكن أن تنندثر هذه العادة مع كثير من الأحلام التي كنتُ أعيشها وتصبحُ جرحاً في الذاكرة يطيبُ لي استرجاعها بين الحين والآخر بحنين متدفّق راوياً أعماقي المُجدبة بقطرات دمع شحيح وفاء لذلك العهد القديم.

ها هو البرد يأتي في موعده قارساًيحيلُ الأشياء الى جمر بارد ليصبح لمس أي شيء مُخاطرة بفتح منافذ جسدك لإستقبال وخزات البرد الحادّة لذلك كنتُ أحرصُ دائماً على جمع عظامي بغطائي السميك وعدم لمس أي شيءٍ يجاورني ، وقد ضحك مني أحد الأصدقاء حينما اخبرته على هذه العادة عندما عاتبني : – جئتك ليلة البارحة لتُقلّني للمستشفى إلاّ أنّ الطرق أوهنني و لم تخرُج . واقترحَ عليّ شراءَ مدفأة ، ونويت شراءها بالفعل و لكنّني تراجعتُ حينما خشيتُ افتقاد لذّة الإنغماس داخل الغطاء وذهاب تلك الرعدة الخفيّة لذلك استبدلتُ المدفأة بشراء “بطّانية ” صنعت من وبر الضأن الجبلية ، وعدتُ الى غرفتي حا ملاً قرص “تميس طائفي ” وفولاً وحزمة بصل خضراء ، كانت الغرفة تعيشُ فوضى مرعبة فقد تناثرت الجرائد و اعقاب السجائر في كل مكان ، و ثمّة كؤوس فيها بواقي لبن أو عصير أو شاي وقد استقام بعضها واندلق البعضُ الآخر و مشت الفطريات بقاع بعضها ، و ثمّة “سفر” ممدودة تبقّت عليها كسرات خبز و أجبان و فول و عظام دجاج أو رؤوس أسماك و غيارات ملابس ، و ملاعق تيبّست عليها “إيدامات” متنوّعة ، و كانت الغرفة مُغلّقة النوافذ مستبقية رائحة ممزوجة لا يمكنُ عَرفها ، وقد انبثّ فراشي القابعُ في الزاوية اليسرى من مدخل الغرفة ن فبرز منه قُطنٌ مضغوط بعشوائيّة و قد نكث رتقه من الأطراف و ظهرَ حتّى تساوى بالبلاط الذي لا يستره شيئاً ، كنتُ الومُ نفسي على هذا الإهمال المريع و في كلِّ ليلة أعزم على تنظيف الغرفة و رشّها برائحة زهور جلبتها منذ أسبوعين وفي كلّ مرّة أتقاعسُ عن ذلك و اجزمُ على إنجاز تنظيفها في وقتٍ لاحق و كللت من من لوم نفسي حينما اكتشفتُ أنني لا أستمتعُ بوقتي كما أنا عليه الآن . حيثُ كنتُ أجدُ النمل و الذباب يشاركني الغرفة بعنوة ولولا مضايقتها لارتضيتُ البقاء على ذلك الوضع . تناولتُ عشائي ونهضتُ تاركاً البقايا كما هي ، و غسلت برّاد الشاي – البرّاد هو الوحيد النظيف في هذا البيت حيثُ أغسله يومياًَ – و أصلحتُ الشاي و قفزت الى فراشي متدثراً بـ”البطانية” الجديدة في حين كان الريح البارد يهبُّ دافعاً نوافذ الغرفة و مُحدثاً أزيراً خفيضاً . الليلة كنتُ أتابع تفاصيل رواية ” الفراشة ” باستغراق تام ، و ثمّة خاطر يتضخّم في مخيّليتي ، فأهجس بين لحظةٍ و أخرى : – حتّى فرنسا تغتال الأحلام ، فلا عليك . و ابتلع هذه الجملة برشقة شاي معتّق ، جاعلاً دخان سيجارتي يملأ تجويف صدري بما فيه الكفاية و أقرض شفتي السفلى بحسرة ، مستجمعاً أطراقي بينما يكونُ البردُ يتغلغلُ بداخل غرفتي و عظامي ، و أتابع عذابات ” هنري شارير” بتعاطف كسيح ، لم يكن أمامي إلاّ قذف الشتائم و تخيّل كلّ الشقاء الذي يلحق بإنسان يبحثُ عن مكان يوزّع فيه أحلامه بدون خوف . كان من الممكن أن أمضي الليل كلّه ، و انا أقرأ لولا ذلك الأنين المكتوم الذي انبثق خارقاً مسامعي بحدّة ، كان أنيناً ثقيلاً يخرجُ من نفس ضيقة مجهدة و كأنّ جبلاً ما مغروساً بأنفاسها ، لينداح الأنين بطيئاً ثقيلاً ينتهي بقنوت صاخب ، أنصتُ له مليّاً .. لم يكن مبعثه مكاناً محدّداً ، فتارة يأتي من بعيد وتارة أخرى أحسُّ بهِ يتصاعدث مع زفراتي ، توقّفت عن القراءة و أخذتُ أنصتُ لأحدّد من أي الجهات ينبثق الأنين ، و لم أستطع التيقّن من جهة انبثاقه ، و كانت نفسي تحدثني عن أولئك الشباب المقذوفين في الخارج و الذين يستخدمون أسلحتهم للتحدّث بدل ألسنتهم معلّلاً نفسي أنّ أحدهم غرس سكينة بظهر خصمه و تركه يسفحُ دماءه ، و حين قرّرت أن أخرج للتعرّف على صاحب ذلك الأنين خشيتُ أن أكون ضحيّة اخرى ، فتراجعتُ و ضللتُ ألوك هواجسي حين ارتفع الأنين : – أغيثوني . و بدون تمهّل أشرعتُ باب غرفتي و أطليت للخارج فاجتاح وجهي هواء قارس وعجزت عيناي عن اختراق عتمة طاغية كانت تقفُ أمام الباب ، فعدتُ الى داخل غرفتي والتحفتُ بشال ، وحملت كشّافاً صغيراً ، وانطلقتُ باحثاً عن صاحب هذا الأنين الثقيل ، و كلّما مضيتُ سبقني الصوت إلى الإمام ،كانت الأزقّة نائمة والقطط والكلاب تعبثُ بمحتوياتها كيفما شاءت بينما الهواء القارس يهبُّ بزئير مُتقطّع ،سرى خدر خفيف في أوصالي حينما لمحت شبحاً يركضُ في تلك الظلمة باتجاهي ، فخبّأت جسدي في إحدى الأزقّة الملتوية . حين عبرني بانت ملامحه وهيئته الرّثة و عرفت من خلالها أنّه مجنون الحارة ذلك الذي قذفَ به أبناؤه للشوارع خوفاً من أن يلحقهم العار حين يلمحوه زوّارهم في “فلتهم ” التي انتقلوا اليها ، و لكي يقطعوا صلتهم بالماضي قذفوا به في هذه الشوارع .. أيكونُ هو صاحبُ الأنين !؟ تبعته من على بعد فرأيته يدسّ بجسده داخل أكوام من الكراتين ويغطُّ في نوم عميق ، بينما الأنين لا يزالُ حاداً ثاقباً سكون هذه الظلمات الغامقة ، فترت همة فضولي و فضّلت الدفء على الركض بين منحنيات هذه الأزقّة و قد تسرّبت بداخلي فكرة جعلتني أسرع بالعودة ، فعدتُ أدراجي قبل أن يكتشفني أحد ، و انا انيرُ جنبات تلك العتمة وأنقب جنباتها كلصًّ محترف .

عدتُ الى غرفتي وتكوّمتُ داخل ” البطانية ” ، و عدتُ الى وضعي السابق ، وقبل الشروع في القراءة عاد الأنين صاخباً و مستغيثاً : – أخرجوني . فارتبكتُ ونهضتُ مفزوعاً لخاطر لعين أخذ يجوب مخيّلتي : –

” لا شكّ أنّك جُننت أم ان انين أبطال ” الفراشة ” أخذووا يجوسوا في أعماقك”.

و للهروب من هذا الخاطر أطفأتُ نور المصباح ودسستُ جسدي بين أغطيةٍ ثقيلة ، و اغمضتُ أجفاني بكلِّ قوّة ن و لم أتمكّن من النوم حيث نهضت أشباح كثيرة بداخل الغرفة تتراقصُ بفزع على نغمات ذلك الأنين ، مما زاد من خوفي ، فنهضتُ و اشعلتُ المصباح و قرّرتُ ألاّ أتوجه الى العمل. في الليلة التالية نهض الأنين صاخباً ومدوياً وعبثاً ذهبت كل محاولاتي للوصول لصاحب ذلك الصوتُ المُثقل بالأنين . ساءت حالتي واقتربت من الجنون خاصة بعد أن شاركني بعض الأصدقاء غرقتي و خرجوا متحسرين مما آلت اليه حالتي و نفى جميعهم سماع أي صوت حتّى عندما كنت أمسكهم صارخاً : – أنصتوا هاهو الأنين يرتفع . فيتطلّعون اليّ بحسرة ، و يمضون بعد أن ييأسوا من تهدئتي .. و قد تطوّر الأنين ، فأمسيتُ أسمع أصواتاً تلاحقني ، و كانت ثمّة استغاثة ثابتة يرددها صاحب ذلك الأنين بصوت متواصل لا يعرفُ الكلل : – ساعدني .. أخرجني ! فكنت أستعيذ بالله و أظلُّ الليل بأكمله أقرأ السور الطوال طارداً خوفاً عظيماً ترسّب بأعماقي .. جاءني أحد الأصدقاء ، و أقتربَ منّي ملاطفاً : – انت تؤمنُ بوجود الجن وربّما سكنك احدهم . و قبل أن يواصل حديثة ، كنت قد تشاجرتُ معه و أخرجته خارج غرفتي ، فظلّ لوقت طويل يعيد اليّ نصيحته بضرورة الذهاب الى أحد المشايخ لأحراق هذا المارد بجسدي قبل أن يصل الى عقلي ، و قد انبرأ يقسم بأنّه رأى شبخاٌ يخرج جنيّة من جسد رجل كانت تبعده من زوجته ، و عندما أحسستُ بأنّي على وشك أن أفقد عقلي واققته ، و طرقتُ أبواب المشايخ ، وو قفت أمامهم واحداً واحداً ، فذهب بخورهم و ” مروخهم ” يؤجج ذلك الأنين حتى ان أحد المشايخ صاح بي : – أرضك قاحلة لا ماء يجري فيها فمن أين تأتيك المردة .. اليوم كان الأنين صاخباً أكثر مما مضى ، ولأول مرة أتنبّه بأن الصوت قادم من خلا الجدار الذي يجاور مرقدي ، أتصتُ ملياً ، كان أنيناً متهاوياً يمتد ويتراخى و يهوي بأسى قاتل : – أخرجني . فزاد يقيني بأنّ صاحب الأنين قريب جداًّ ، و بدون تفكير حملتُ معولاً و هويت به على الجدار.  

***

*عبده خال روائي وكاتب سعودي من مواليد إحدى قرى منطقة جازان(المجنة ) عام 1962 حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية جامعة الملك عبد العزيز عام 1982 واشتغل بالصحافة منذ عام 1982 وهو حاليا يشغل مدير تحرير جريدة عكاظ السعودية يعتبر أحد أبرز الأسماء في المشهد العربي للرواية الحديثة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى