قمرٌ أزرق – هيرومي كاواكامي – بثينة الإبراهيم .

أعود بذاكرتي أحيانًا إلى أحداث بعينها وأجد نفسي محتارة حول الوقت الذي بدأت فيه بالضبط.

لقد كان يومًا جميلًا بسماء صافية، وقد منحني المبني ذو الطوابق السبعة –في الضواحي الغربية من طوكيو- إطلالة واضحة على جبل فوجي. جعل مكيف الهواء الغرفة باردة على نحو عذب، ورغم ذلك فقد بدا الاثنا عشر شخصًا تقريبًا، الذين يرتدون ثيابًا بيضاء بانتظار إجراء فحوصاتهم الطبية، كأن لديهم أمورًا أفضل للقيام بها.
لكوني شخص يقضي معظم وقته في الكتابة في مكتبي، بدأت أعتبر فحصي الطبي السنوي تغييرًا للمشهد أكثر من كونه أمرًا يتعلق بصحتي. كنت قد فقدت السمع بأذني اليمنى منذ حوالي عشرين عامًا، وكان تعداد كريات دمي البيضاء أقل من المعدل بقليل لنحو عشر سنوات. “إن حدث تغيرٌ كبير في تعداد الكريات لديك فقد نكون بحاجة لإجراء فحوصات أكثر، لكن لا داعي للقلق” كان هذا ما يقال لي عادة. كانت مسائل صغيرة كهذه، كما بدا لي، طبيعية لامرأة في منتصف الخمسينيات، وقد يكون من المحرج قليلًا ألا أشكو شيئًا على الإطلاق.
بعد أن أنهينا الفحوصات، استدعينا واحدًا تلوا الآخر للتحدث قليلُا مع الطبيب. كيف تشعرين؟ مثلما كنت أشعر المرة الماضية تمامًا. جيد، حافظي على ذلك، أراك العام القادم، ربما تحاولين ممارسة بعض التمارين الرياضية. كانت المحادثات عادة تمضي على هذا النحو، وظننتها اليوم ستكون كذلك أيضًا، لذا حين قال لي الطبيب بصوت ناعم “لديك ورم في البنكرياس، لا بد من إجراء فحوصات فورًا”، وجدت صعوبة في فهم كلماته لوهلة.
أخذت موعدًا بعد ظهر ذلك اليوم في مستشفى الجامعة، ودونت الموعد في تقويمي بشيء من الدوار. لم يكن هنالك وسيلة لأعرف إن كان هذا الأمر بداية لتغيير حياتي. لم أكن أشعر بشيء، فلم يكن هنالك مؤشرات، وكانت شهيتي للطعام جيدة، لم أكن أتألم، وبدوت على ما يرام. لكن الأورام الخبيثة هي الأورام التي ليس لها أعراض غالبًا. بنكرياسي، جزء مني يستحيل علي رؤيته أو لمسه، حتى لو كان عضوي شخصيًا، ووجدت ذلك غريبًا على نحو رهيب.
أجريت لي عدة فحوصات، وبعد مراجعة تقاريري من العيادة قال الطبيب “هناك احتمال كبير أن يكون الورم خبيثًا، لا بد من إجراء المزيد من الفحوصات، لا بد أن تدخلي المستشفى، متى يمكنك القدوم؟”
لمَ يتحدث كل الأطباء بهذا الصوت اللطيف الناعم؟ أحسست برغبة خفيفة بالضحك لكني لم أفعل.
وهكذا أدخلت إلى المستشفى في الأسبوع التالي لمزيد من الفحوصات. تخدير، محلولات وريدية، أشعة. بيكريل: وحدة قياس عرفتها للمرة الأولى إبان انهيار مفاعل فوكوشيما للطاقة النووية[1]. كم عدد وحدات البيكريل التي تمر عبر جسدي في هذه اللحظة؟ أخذت أتساءل بهمس. استلقيت على السرير بانتظار النتائج. قال لي الطبيب بصوته الناعم “من المحتمل بنسبة 90 بالمئة أن يكون الورم خبيثًا”. يا للضغط الذي يرزح تحته هؤلاء الأشخاص الذين يتعين عليهم نقل أخبار كهذه للمرضى كل يوم. إن كان خبيثًا، فما هو احتمال النجاة؟ احتمال البقاء على قيد الحياة لخمس سنوات ليس أكثر من 10 بالمئة. يفترض بي السفر إلى روسيا الأسبوع القادم في رحلة عمل، هل أستطيع ذلك؟ نعم، ولكن عليك التوجه إلى المستشفى فور عودتك، سنجري عملية جراحية. هل علي اتباع تعليمات معينة، هل هناك أمر لا يتعين علي القيام به، هل أتجنب تناول طعام ما أو شراب ما؟ لا، لا شيء، تابعي حياتك كالمعتاد.
كالمعتاد، بهاجس الـ 10 بالمئة. كان احتمال كون الورم حميدًا واحتمال العيش لخمس سنوات إن كان الورم خبيثًا متكافئان، 10 بالمئة، رقم واضح جدًا. لا بد أن الجو بارد في روسيا، يجب أن أتذكر أخذ قبعة دافئة.
حين وصلت إلى موسكو، وجدت أنني نسيت جلب دفتر صغير. كلما سافرت خارج اليابان، كنت أحرص على الذهاب إلى المكتبة لشراء دفتر أدون فيه كل تفصيل: رقم تذكرة الطائرة، مصروفي اليومي، جداول المواعيد، الأشخاص الذين ألتقي بهم، الطعام الذي أتناوله، لون السماء في يوم محدد. كانت رحلة تدوم أسبوعًا تعني عادة أنني سأملأ دفترًا ذا خمسين صفحة من الغلاف للغلاف، رغم أنني في بلدي لا أحتفظ بمفكرة على الإطلاق.
ترددت، كنت محتارة إن كنت سأقتني واحدًا في المطار، لكن قفزت الفكرة في ذهني عندها: لم أتكبد العناء؟ ما الغاية من تسجيل كل شيء على هذا النحو؟ حين أعود من أسفاري لم أكن أفتح هذه الدفاتر لقراءة ما دون فيها إلا نادرًا. كل هذه الذكريات، أسطر وأسطر منها، تملأ حوالي اثني عشر دفترًا أو أكثر. وهكذا اخترت ألا أشتري واحدًا، ولوحت للشخص من “جابان فاونديشين” الذي جاء للقائي. هذه المرة الأولى التي يهطل فيها الثلج بغزارة هذا العام، وقد نستغرق بعض الوقت للوصول إلى المدينة. حقًا؟ في اليابان ما يزال الفصل أول الخريف، ما يزال الطقس حارًا. تجاذبنا الحديث في السيارة. كنت متوترة وأرتعش قليلًا، إما بسبب العشرة بالمئة أو بسبب عتمة المدينة التي أزورها للمرة الأولى.
لكن النسيان من طبيعة البشر، ربما عليّ ألا أعمم، النسيان من طبيعتي أنا. ألقيت محاضرة في معرض موسكو الدولي للكتاب، واستمتعت بها، لقد فعلت حقًا. وفي سانت بطرسبرغ، صدق أو لا تصدق، تمكنت من الاستماع لغناء لودميلا بيتروشيفسكايا. لقد حدث ذلك بالصدفة؛ في رحلة القطار من موسكو إلى سانت بطرسبرغ كان الأستاذ ميتسويوشي نومانو، الذي كان عضوًا في مجموعتي، يجلس بجانب بيتروشيفسكايا، ودعته إلى حفلة موسيقية لها في اليوم التالي وسألها إن كان باستطاعته اصطحاب ضيف فقالت طبعًا! وهكذا، بكلمة واحدة من الكاتبة الشهيرة، كنت أجلس هناك مع الجمهور. لقد حظيت بوقت طيب. استمعت في مقهى للكتب إلى قصائد هايكو كتبها بعض الروس، وألقيت بعضًا من قصائدي، لقد كان الأمر ممتعًا؛ ممتعًا حقًا.
ربما كنت مشغولة بالموت طوال الوقت، هذا ما تفعله حقًا عندما تكتب الأدب؛ أن تفكر بالموت. الأمر الوحيد الذي لا يمكن لأحد، لأي أحد على الإطلاق، تجنبه، الأمر الوحيد الذي يحدث لكل البشر، بلا استثناء. لقد فهمت ما يعنيه الموت بعد أن بدأت بكتابة الأدب فقط. كان علي أن أعرفه، لكني لم أفعل. لقد عرفته فقط حين بدأت العيش مع الشخوص في قصصي، وقد أدهشني ألا أعرفه من موت أحد في حياتي، بل من موت الشخوص الذين لم يموتوا بعد، الذين يعيشون في رواياتي.
أمضيت في موسكو وفي سانت بطرسبرغ ما مجموعه ثلاث وأربعون دقيقة ربما في التفكير في الموت. في سيارة الأجرة وهي تنتظر أن تشق طريقها في الشوارع المسدودة بسبب الثلج، على السلم المتحرك الذي يهبط إلى أعماق المترو، في لحظات الصمت تلك أثناء الاستراحة في جلسات النقاش، في الدقائق التي تسبق خلودي إلى النوم في وقت متأخر من الليل، لقد كانت أطول بقليل من الوقت الذي أمضيته في التفكير في الموت في الأيام التي سبقت معرفتي بالعشرة بالمئة. على نحو غريب، كنت كلما فكرت بموتي كان يحدث ما يعرقل ذلك. كنت أفكر فيه بشكل مجرد فقط.
مشيت على الطرق المثلجة ووصلت إلى مقهى الكتب، كنت سألتقي بجماعة هايكو روسية. كانت المرأة التي ستترجم قصائدي قد وصلت قبل الموعد وجلست في زاوية من المقهى في أعلى طابق في المبنى. يتضمن شعر الهايكو مفردات فصلية (كيجو)[2]، مفردات تصف شيئًا ما في السماء أو النسيم أو الطيور أو الحشرات أو النباتات أو القمر والنجوم في فصل معين، وكنت أتساءل ما هي المفردات “الفصلية” التي سيستخدمها الروس حين يكتبون الهايكو؟
بدأ الناس يتوافدون في جماعات من شخصين أو ثلاثة وبدأ اللقاء. كانت اليابانية تُترجم إلى الروسية والعكس صحيح، وكانت المعاني في ظاهرها صحيحة لكني لم أكن متأكدة من ظلال المعاني، فالتباينات الدقيقة للكلمات لصيقة بالثقافة التي تستخدمها. راودني الشك حول استطاعة أحد نقل الفروقات الدقيقة في لغة ما إلى نظيرتها في اللغة الأخرى، وهما لغتان مختلفتان كثيرًا، كنت أراقب المترجمة وهي تنقل اليابانية إلى الروسية والروسية إلى اليابانية. كل ترجمة هي ترجمة خاطئة، كما يقول موتويوكي شيباتا المترجم والباحث في الأدب الأمريكي الذي أثق به، أعرف أنه كان يقول هذا كنوع من الدعابة، لكن هناك جانب صحيح في قوله أيضًا.
ترجمت لي المترجمة قصيدة هايكو من الروسية إلى اليابانية:
يتساقط ثلج ناعم. تلقيت معطفًا من أخي الميت.
كان الشخص الذي كتب القصيدة يجلس أمامي، رجل في الستين من عمره تقريبًا.
حاولت أن أحولها إلى قصيدة هايكو يابانية:
ثلج ناعم، يتلقى معطف أخي الميت.
دهش الرجل وحدق بي.
أُلقيتْ بضع قصائد هايكو أخرى بالروسية، وكان كل واحد منا يقول رأيه. كلمات مثل هش، أشياء صغيرة. أخذت أتساءل إن كان الرجل أيضًا يواجه احتمال الموت. كلمات، حياة…. هشة جدًا، ضئيلة جدًا وتافهة. أدركت أنني أصبحت عاطفية بعض الشيء. في البدء نكون خلايا بنصف مجموعة من الكروموسومات دون أي صفات مميزة، وفي لحظة ما نصبح كائنات بشرية، ثم نصبح لا شيء على الإطلاق، ما الذي قد يفاجئنا في هذا؟
انتهى اللقاء وتقدم الرجل الذي كتب قصيدة هايكو عن الثلج الأملس ومد يده نحو يدي، صافحها و ضغطها بشدة.” لم أكن أعرف شيئًا عن الشعب الياباني، لكن اليوم بلقائك تعرفت إليه للمرة الأولى، أنا سعيد”. تنقل لي المترجمة باليابانية ما قاله الرجل بالروسية، وصارت الظلال الدقيقة للمعاني خلفي، ابتسم الرجل، كانت عيناه رماديتين. كيف كان أخوك؟ سألته. لقد كان شخصًا صالحًا، أجابني. كنت أتذكر الرجل ذا العينين الرماديتين في ليالي الأرق.
أنا لست امرأة متدينة، لقد خطر لي أن الأمر سيكون صعب الاحتمال حين أموت لأنني لست متدينة، لكن ربما لأنني كنت متعلقة بنسبة العشرة بالمئة لم أعد أخشى الموت.
بعيدًا عن الموت نفسه، كان اختفاء الأثر هو ما يبدو مزعجًا وحزينًا، أن تختفي كل العلامات التي تدل على أنني عشت، الآثار التي سكنت معطفًا امتلكته يومًا، ذلك الذي سيصبح عندها ملكًا لأخ لي… حين يصبح المعطف قديمًا ومهترئًا، ستذبل ذكراي أيضًا ثم ستتلاشى في النهاية. ستسكن آثاري في الصور العائلية القديمة، أو على رفوف متاجر الكتب المستعملة، ربما للحظات قليلة، مثل تلكما العينين الرماديتين اللتين تجثمان داخلي للحظة. إننا نولد في لحظات قصيرة، ويجب ألا يفاجئنا كل هذا.
عدت إلى اليابان وأجريت العملية. إن الورم في بنكرياسك حميد، أخبرني الطبيب بنبرة لطيفة ناعمة.
وهكذا مرت الأيام. كل ترجمة هي ترجمة خاطئة، لكن لا بد أن يكون لتلك العبارة جزء آخر، كل محادثة هي سوء فهم. كنت أفكر في التناقضات التي ستكمن في الثغرات بين اللغات كلما سافرت خارج اليابان، إلى أي مكان لم تكن اللغة اليابانية –لغتي الأم- لغة مألوفة فيه. ولكن حتى عندما أتحدث بلغتي الأم تحدث الأمور نفسها، كل اللغات يساء فهمها، بدرجات.
قبل شهرين من رحلتي إلى روسيا في بداية الخريف، سافرت مع موتويوكي شيباتا وزوجته وآخرين لقضاء ليلة في منزل ريفي لتيد جوسين الباحث في الأدب الياباني خارج تورنتو. لم يكن لدي أدنى فكرة في ذلك الوقت حول العشرة بالمئة التي سأعلم بها بعد شهرين.
أوقدنا نارًا تحت القمر المكتمل، وكان هناك صوت ارتطام ضعيف لتفاحة تسقط على الأرض بين الحين والآخر.
“هناك مفردة فصلية (كيجو) للقمر المكتمل في الخريف”، أخبرت تيد، “الليلة الخامسة عشرة (جوغو-يا).
“لدينا في الإنجليزية كلمة مختلفة؛ قمر أزرق”، قال تيد وهو ينظر للأعلى.
حين يحدث اكتمال لقمرين في شهر واحد، يسمى الثاني قمر أزرق، إنه حدث نادر. حين عدت إلى اليابان، بحثت عن العبارة. لقد شاهدنا القمر الأزرق في أغسطس عام 2012، وسيحدث ذلك تاليًا في يوليو عام 2015.
يقدر البشر دومًا مرور الوقت بالنظر إلى السماء، فهل سأكون قادرة على النظر إلى القمر الأزرق التالي؟ قد يبدو أن الموت قد انحسر بعيدًا، لكنه لم يفعل حقًا، لم يفعل مطلقًا. أعرف ذلك الآن، ولم أكن أعرفه قبلًا.
يقال إن الكون تشكل من انفجار هائل قبل 13.7 مليار سنة، وإن الأرض خلقت قبل 4.5 مليار سنة، وخلق الإنسان الحديث قبل مئتي ألف سنة فقط. لم يشهد أحد بدايات هذه الأحداث ولم يسجل أحد ملاحظات مفصلة عن تطورها. والأمر نفسه ينطبق على كل الوجود، صغيره وكبيره؛ الكون، أنا، الطيور المحلقة في السماوات، رقائق الثلج المتساقطة في موسكو…. لم يشهد أحد بدايات هذه الأشياء، ولا يمكن لأحد التنبؤ بنهايتها. يا له من أمر نفيس، يا له من أمر محفوف بالمخاطر أن تكون على قيد الحياة. كانت السماء مكفهرة طوال الوقت تقريبًا أثناء رحلتي إلى روسيا التي دامت أسبوعًا ، لكن هناك يوم كانت فيه السماء صافية وزرقاء وقد لمع ضوء الشمس على قبة كاتدرائية القديس إسحاق في سانت بطرسبرغ، في تلك اللحظة خطر لي أنني على قيد الحياة، وهذا كافٍ، هذا كل ما أحتاجه.

1- كارثة فوكوشيما حدثت بعد زلزال عام 2011، أدت مشاكل التبريد إلى ارتفاع في ضغط المفاعل ثم مشكلة في التحكم بالتنفيس نتج عنها زيادة في النشاط الإشعاعي.
2- Kigo كلمة أو عبارة مرتبطة بفصل معين، تستخدم في الشكل التقليدي للشعر الياباني للإشارة إلى الفصل الموصوف في القصيدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى