محمود درويش – ليس للكرديّ إلا الريح

من محمود درويش إلى أفضل من كتب باللغة العربية منذ عقدين من الزمان، إلى سليم بركات

يَتَذكّرُ الكرديُّ، حين أزورُهُ، غَدَهُ…

فيُبٍِْعدُهُ بمُكنسة الغبارِ: إليكَ عنّي!

فالجبالُ هي الجبالُ. ويشربُ الفودكا

لكي يُبقي الخيالَ على الحياد: أَنا

المسافرُ في مجازي، والكراكي الشقيَّةُ

إخوتي الحمقََى. وينفُضُ عن هُويَّتِهِ

الظلالَ: هُويَّتي لُغتي. أنا… وأنا.

أنا لغتي. أنا المنفيّ في لغتي.

وقلبي جمرةُ الكرديِّ فوق جبالِهِ الزرقاء…

نيقوسيا هوامِشُ في قصيدته،

ككل مدينةٍ أخرى. على درّاجةٍ

حمل الجهاتِ، وقال: اَسْكُنُ أَينما

وَقَعَتْ بيَ الجهةُ الأخيرةُ. هكذا

اختار الفراغَ ونام. لم يَحْلُمْ

بشيٍ مُنْذ حَلَّ الجِنُّ في كلماتِهِ،

(كلماتُهُ عضلاتُهُ. عضلاتُهُ كلماتُهُ).

فالحالمون يُقَدِّسون الأمسَ، أَوْ

يَرْشُون بوّابَ الغد الذهبيِّ…

لا غَدَ لي ولا أمسِ. الهُنَيْهَةُ

ساحتي البيضاء…/

منزله نظيفٌ مثلُ عَين الديكِ…

منسيٌّ كخيمة سيّد القوم الذين

تبعثروا كالريش. سَجَّادٌ من الصوف

المجَعّد. مُعْجَمٌ مُتآكلٌ. كُتُبٌ مُجَلَّدةٌ

على عَجَلٍ. مخدّاتٌ مطرَّزَةٌ بإِبرة

خادم المقهى. سكاكينٌ مُجَلَّخةٌ لذبح

الطير و الخنزير. قيدو للإباحيات.

باقاتٌ من الشوك المُعَادِلِ للبلاغةِ.

شُرْفَةً مفتوحةٌ للإستعارة: ها هنا

يتبادَلُ الأتراكُ و الإغريقُ أدوارَ

الشتائم. تلك تَسْلِيتَي و تَسْلِيةُ

الجنود الساهرين على حدود فُكاهةٍ

سوداء…

ليس مسافراً هذا المسافرُ، كيفما اتَّفَقَ…

الشمالُ هو الجنوبُ، الشرقُ غَرْبٌ

في السراب. ولا حقائبَ للرياحِ،

ولا وظيفةَ للغبارِ. كأنه يُخفي

الحنينَ إلى سواهُ، فلا يغنّي… لا

يُغَني حين يدخُلُ ظِلُّه شَجَرَ الاكاسيا،

أو يبلِّلُ شَعرَهُ مَطَرٌ خفيفٌ…

بل يُناجي الذئبَ، يسأَله النزالَ:

تعال يا ابن الكلب نَقْرَعْ طَبْلَ

هذا الليل حتى نوقظ الموتى. فانَّ

الكُرْدَ يقتربون من نار الحقيقة،

ثم يحترقون مثل فراشة الشُّعَراء…

يعرفُ ما يريد من المعاني. كُلُّها

عَبَثٌ. وللكلمات حيلَتُها لصيد نقيضها،

عبثاً. يفضّ بكارةَ الكلمات ثم يعيدها

بكراً إلى قاموسه. ويَسُوسُ خَيْل

الأبجدية كالخراف إلى مكيدته، ويحلقُ

عانَةَ اللُغةِ: انتقمتُ من الغياب.

فَعَلْتُ ما فعل الضبابُ بإخوتي.

وشَوَيْتُ قلبي كالطريدة. لن أكون

كما أريد. ولن أحبَّ الأرض أكثر

أَو أَقلَّ من القصيدة. ليس

للكرديِّ إلاّ الريح تسكنُهُ و يسكُنُها.

وتُدْمِنُهُ و يُدْمنُها، لينجوَ من

صفات الأرض والأشياء…

كان يخاطب المجهولَ: يا ابني الحُرّ!

يا كبش المتاه السرمديّ. إذا رأيتَ

أباك مشنوقاً فلا تُنْزِلْهُ عن حبل

السماء، ولا تُكَفِّنْهُ بقطن نشيدك

الرَّعَوِيِّ. لا تدفنه يا ابني، فالرياحُ

وصيَّةُ الكرديِّ للكرديِّ في منفاهُ،

يا ابني… والنسورُ كثيرةٌ حولي

وحولك في الأناضول الفسيح

جنازتي سريَّةٌ رمزيّةٌ، فَخُذِ الهباءَ

إلى مصائره، وجِرَّ سماءك الأولى

إلى قاموسك السحريِّ. واحذرْ

لَدْغَةَ الأَمَلِ الجريحِ، فانه وَحْشٌ

خرافيّ. وأنت الآن… أنت الآن

حُرّ، يا ابن نفسِكَ، أنت حُرٌّ

من أبيك ولعنة الأسماء…

باللغة انتصَرْتَ على الهُوَيَّةِ،

قُلْتُ للكرديِّ، باللغة انتقمتَ

من الغيابِ

فقال: لن أَمضي إلى الصحراءِ

قُلْتُ: ولا أَنا…

ونظرت نحو الريح

– عِمْتَ مساء.

– عمت مساء!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى