نحن المصابين بداء الأبد-عبده وازن

*عنصرية
كلما نظر الرجل الأسود في المرآة
عاتب الله قائلاً:
ما دمتَ أجهدتَ نفسك وخلقتَني
فلماذا جعلتَني قاتماَ كالليل
بوجهٍ كالح
وأسنان بيضاء؟
كلما وقف الرجل الأصفر أمام المرآة
سأل الله بصوتٍ خافت:
لماذا خلقتَني أصفر
مثل زهرة دوّار الشمس
بعينين مستطيلتين؟
الرجل الأحمر يحدّق عابساً في المرآة
ويسأل الله بلا كثير عتب:
لماذا ولدتَني بحمرة الدم
ونسيتَني تحت الشمس؟
ينظر الرجل الأبيض في المرآة
بابتسامةٍ مبتورة
ثم يعاتب الله قائلاً:
لماذا خلقتَني يا الله؟

*انتظار
الغيوم قليلة هذا المساء، لكنني لن أبارح هذا الكرسي. الشمس برتقالة في آخر السماء، حمرتُها المعتكرة تتلاشى بهدوء. سأنتظر صديقي الذي سيأتي بعد قليل، فنشرب كأس نبيذ في هذا الهواء الطلق ونعدّ النجوم كما في كل ليلة لنعلم ما حال كوكبنا وهل يوافق الفلك، هذا الخريف، برجنا المشترك، القوس. ولدنا معا في تشرين الثاني، في ربعه الأخير، ما يعني بحسب كتب الأبراج أننا نحبّ الموسيقى ونهوى الجمال ونألف العيش بحرية وبساطة، وأنّ أنظارنا ترنو الى البعيد، الى الماوراء. سيأتي صديقي حتماً. قد يتأخر قليلاً، لكنه آتٍ لا محالة. إننا غالباً لا ندع هذا المنظر يفوتنا. نحتسي كأس نبيذ ثم نفتح كتاباً كلٌّ بحسب ذائقته ونقرأ. قد يخطر في بالنا أن نكتب أيضاً. كلٌّ منا يملك دفاتره وأوراقه، قد نكتب قصيدة أو مقطوعة نثرية أو شذرات أو قصة نعرف أن ليس في وسعنا ان ننهيها. إننا نعيش وفق مزاجنا، يضطرب حيناً من غير سبب ويتجلى حيناً من غير سبب أيضاً. سيأتي حتماً ولو أن وقتاً مرّ، ساعة ربما، ساعتين. سيأتي مهما تأخر. سينظر الى القمر الذي يكتمل بهدوئه الملكي ويدرك أن الليلة يجب ألاّ نطويها مثل صفحة بيضاء. فضة القمر تنتشر على السطيحة أمامنا، بين أشجار الحديقة المجاورة. لا خفافيش هذه الليلة. فقط نقيق ضفادع تقفز في الساقية الكبيرة معلنةً أن الطقس سيكون جميلاً غداً. خرير الماء هادئ. الهواء نديّ نداوة أول هذا الخريف. سيأتي لا محالة، مهما تأخر. هذه الليلة يمكنني وصفها بـ”ليلة القديس يوحنا”، وهذا عنوان قصيدة كتبها ستيفان مالارميه. ليلة الإشراقات روحاً وحواسّ. مَن يجلس هنا تحت ضوء القمر وسط هذا الهبوب اللامسموع، قد يُخيَّل إليه أن ما يراه لم يره من قبل. فضة القمر كأنما تختلج والسماء كأنها سقف ستهطل منه كائنات مجهولة. لا بد أن يأتي ليشاركني هذا المنظر الذي بدأتُ أتلاشى فيه، لا يمكنني وحدي احتمال هذا الدفق الساحر. لكنني شرعتُ أبصر أول خيوط الضوء تتراخى في السماء. لا أدري كم من ساعة مرّت. سيأتي حتماً لا يمكنه أن يفاجئه الفجر على الطريق. الفجر يشتد بياضاً وآخر قبسات الظلام تنسحب شبه مهزومة. حلّ الفجر. سيأتي. نهضتُ عن الكرسي أنا كائن الليل بعينين ناعستين يلوح في أعماقهما قليل اضطراب، وفي أوج الضوء نظرتُ فإذا بي أبصره. ها إنه أتى أخيراً. لم أبصره بوضوح لأن عينيَّ كانتا مغمضتين.

*متسوّلو الأبد
الغرباء نحن، الذين لا يملكون ما يلقون عليه أسمالهم، متسوّلو الأبد الذين لم يحظوا بنظرة تملأ قعر كأسهم. عندما يأخذ بنا التعب لا نجد حجراً نلقي عليه رؤوسنا. الجنة التي طُرد منها أسلافنا لم تعد تلمع في منتهى شوقنا. نحن الذين هزمهم ناسوت الأرض ولم يبقَ لديهم ما يروون به عطش عيونهم. إننا نرفع أيدينا مثل جنود مهزومين. لقد خذلتنا أحلام الخروج ولم يبق أمامنا إلا أن نستسلم ولكن لا لأحد ولا لإله. صخرتُنا انحدرت الى الأسفل وضجرْنا مثل سيزيف. تركناها ترقد في أعماقنا. لم يبق لنا دربٌ نمشيه، نحن المصابين بداء الميتافيزيق، ننظر الى ما لا نراه وفي ظنّنا أن ما لم يحدث سيحدث. لم يبق للإنتظار معنى في دخيلائنا. نحن المصلوبين مثل عصافير القدر، السماء أُغلِقت من فوقنا وليس وراءنا غيمة. نحن الذين حملنا جسد الإله الى الوادي لم نجد إكسيراً نمسح به جروحه. أيتها الأرض حان موعد هبوطك في أوقيانوس الخلاء. إننا حفظنا ظلالاً كثيرة قد تكون هي دليلنا في هذا السديم الذي لا نهاية له.

*المسرنمون
الخفّاش يحشرج قرب النافذة. بعد قليل يلفظ الليل آخر أنفاسه. وعندما يرسل الفجر أول خيوطه ينهض الحالمون من نومهم ليدركوا أنهم غفوا طويلاً وأن أياماً فاتتهم وعليهم ألاّ يناموا بعد الآن. لكنّ أناساً آخرين يسمّونهم الساهرين سيكتشفون أنهم سهروا طويلاً وأن أياماً كثيرة فاتتهم لم يناموا فيها بعدما جرّح الأرقُ عيونهم. أما نحن المسرنمين، كما نُسمّى، فلا نمضي الى نومنا لأننا نيام وليس علينا أن نسيقظ لأننا ساهرون. نحن المسرنمين ننام ونحن ساهرون، نسهر بينما يحلّ النعاس على أرواحنا.

*أبناء الشمس
الضوء المنبثق من وراء الجبال
أبيض كالعماء
شاحبٌ كوجه رجلٍ مات للحين
باردٌ كجثة في النار

الضوء المريض نغلق أمامه نوافذنا
لئلاّ يدخل غرفة نومنا
وينتشر كالجليد فوق أسرّتنا

هذا الضوء ليس ضوءنا
نحن أبناء الشمس
الذين يلوّح غبارها جلودهم
نحن أبناء الزرقة الممزوجة بالذهب
الأصفر الذهب
أبناء الشمس المستيقظة منذ الأزل
عندما ينهمر ثلج الأعالي
ننام مثل أهل الكهف
نغمض عيوننا لئلاّ تجرحها
حشرجةُ البياض
إننا نخاف ذئاب الخواء البارد
نحن رفاق هواء الصيف
أصدقاء النسائم التي تهبّ من البحر القديم
نجلس على الشواطئ
لنبصر أشرعة السفن
لنسمع أغاني القراصنة وصليل سيوفهم
نحن أبناء المتوسط
لا نجيد الحياة في الظلّ
إننا وُهِبنا لإله النار منذ أن فتحنا عيوننا
البروق لا تغادر سماء صيفنا
النجوم تتناثر على بيادرنا في أوج الظهيرة
ليلنا يقطنه قمر
لامعٌ كوجه قديس.

*العرّاف
ولدتُ بعينين زرقاوين
لكنّ السماء عندما أبصرتهُما
خشيتْ أن أسرق قلبها اللازورد
وأخطف قبّتها العالية
أمطرت السماء برقاً
أحرق عينيّ
ولكن بدل أن أُمسي أعمى
رحت أبصر
ما لا تراه العينان عادةً
أرمق النجوم وراء الغيوم
أشاهد أطيافاً على صفحة القمر
وإذا حدّقتُ في مرآة
ألمح وجهي قبل أن ولدتُ
الحجر اذا صادفه ناظراي
أُبصر ناره تخفق
الغابة اخترقُها برفّة جفن
الأسوار أجتازُها بومضة
في أحيان
لا أفتح عيني لأنظر
الضوء يشقّ طريقاً أمامي.
ولدتُ بعينين زرقاوين
لكنّ السماء غارت منهما
فأمطرتْهُما برقاً
جرح سماءهما
إنهما عينا عرّاف
يُسمّى سارق الإله.

*حبر أبيض
تطفئ الضوء وتجلس فلا يراك أحد ولا ترى أنت نفسك. تقف أمام المرآة فتلفاها بيضاء ثم يلوح من ورائها ما لا تقدر على تذكره. تغمض عينيك فتبصر سماء يحلّق في أرجائها سرب يمام. ترمي في النهر سمكة سقطت للتوّ بين يديك. تصفع الهواء فتقطر نقطة دم.
تبصر الشمس تغيب خطأ عند الفجر والقمر يسقط في شباك العائدين من نومهم.
تبصر امرأة فتظنّها سراباً في صحراء القديسين.
كأنك طيف يفتح ورقة بيضاء ويكتب بحبر أبيض.

*نفس جبران
استيقظي يا نفسُ، قال جبران، جالساً في مقهى في أحد شوارع بوسطن. لكنّ النفس ظلّت هاجعة مثل شجرة لم يطلع عليها ضوء. شرب فنجاني قهوة، عسى النفس تستيقظ، لكنها عاندته. خشي جبران أن يحل الليل قبل أن تستيقظ هذه النفس، فهو سيكتب قصيدة عنه بأشباحه وأجراسه اللامرئية. ظلّت نفس جبران نائمة على غير عادة. لم يعد قادراً على احتساء مزيد من القهوة لئلاّ يقع في هوة اليقظة التي تحدث عنها صديقه بودا. هذه الليلة سيظل جبران سهراناً حتى أول الفجر. سيتأمل الليل بأسى فهو لن يكتب عنه قصيدته الموعودة ما دامت النفس نائمة.

*هذه ليست سماء
لا يحدث النعاس الاّ في جهة مجهولة من العين. التثاؤب خفقُ جناحين في عمق السريرة. أغمض فقط، كي تغفو تحت شعاع شمس، في ظلالها التي لا تُرى. أطرق باباً لا تعرف البيت الذي يفضي إليه. هناك يحلو الرقاد ولو بلا سرير. خط النعاس أعبره لتقع في خوائه، في اليقظة الفاقدة حواسها. أنت ستنام ما دامت نجمة تلتمع في أسفل ناظريك. لا يهمّ أن تحلّق، بل لعلّك تقع عن رابية كنت ظننتُ أنك ارتقيتها. هذا الخدر الذي يشيع ملء أطرافك سيفتح لك نافذة في سماء بلا كواكب. هذه ليست سماء، إنها أرض الأديم الأول.
………………………………………………..

عن ملحق صحيفة النهار اللبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى