علي الربيعي – إنهم يرجمون البحيرة

portrait of grandmother ana sewing علي الربيعي - إنهم يرجمون البحيرة Portrait of Grandmother Ana Sewing

على سبيل العزاء
سأفترض
بأنه كان يكره الرماية
فيما أَحبّ السباحة وركوب الخيل
وبأنه كان حرًا
كالبغل في البريّة
أو كهر أبله لا يكترث لأمره أحد
وبأنه كان يحلم على الدوام
بأن يسبح في “لاغو ديغاردا ”
على أطراف جبال الألب
أو في بحيرة “وان” الباردة
حيث هواء الأناضول النظيف
يفتح وجهة رائعة نحو السماء
..
سأفترض
بأن عينيه
تلمعان كالفضة
حين تعثر للمرة الأولى بموسيقى الجاز
وهي تنداح من إحدى العربات البطيئة الغامضة
فيما أترابه مشغولون بالضحك الرحيم
وهم يتدافعون نحو أبواب المدرسة
في أيامها البكر
..
سأفترض
بأنه لم يكن يبول في الفراش
أو على الغسيل
المنشور على الأسلاك القصيرة
الفاصلة بين القمامة وأكواخ التنك
وبأنه لا ينام بحذائه طيلة الوقت
ولا يرتاد الأماكن المقفرة البعيدة
لتدخين لفائف التبغ الرديء
ولعب الورق
المزين بعارضات عاريات
رفقة الجند والعاطلين
..
سأفترض أيضًا
بأنه كان مولعا بالرقص
وبأن يغمض عينيه
ليتتبع بفمه حبّات المطر
الذي يتسرب من السقف قطرة قطرة
ويشيّد في الخارج البرك
حيث الأزقة المظلمة
الغارقة في الوحل والتأوهات والحشيش
..
سأفترض
بأنه أخلص لقطاع طرق الصحراء
أكثر مما أخلص للبحر
وللزوارق الخشبية القديمة
التي رآها ذات ظهيرة
تئن معبأة بالخوف
والحمقى والهراء الجميل
وبالزنوج المتعبين
الذي يزعجون الآلهة
على الطرف المقابل من اليابسة
..
سأفترض كذلك
بأنه لم يغادر الأسوار
قبل أن يُقرع الجرس
وبأنه لم يرشق في طريق عودته
العربات والمصابيح
..
وفضلًا عن كونه وادع ولطيف
فقد كان ينحني بوقار
للمعلمة النحيلة
التي ينهض من شفتيها الكرز
ومن عينيها تبزغ الشمس والسكاكين
حين تضبطه يتلصص من ثقوب الصفيح
وتشده من أذنه
..
تلك العاشقة المَهَبْ
التي لا تملّ من النوم خفية
مع الحمّالين والبحّارة القدامى
..
سأفترض
على سبيل العزاء كذلك
بأنه في سكينة ليالي الخريف
كان يستلقي سعيدًا
على ظهره فوق أسطح بيوت الصفيح
يتأمل انطفاء النجوم الزُرق
ويديه المتشابكتين خلف رأسه
يحلم بأن يذرع قطار بواجهات لامعة
الباحة الفسيحة
الملأى بالكلاب والقهقهات والسكارى
وبأنه كان يحرس عن غير قصد
فتيات الحي الرشيقات
الشبيهات ببجعات “تشايكوفسكي”
كسائس نبيل
يردع الذئب عن الخيل
****
عند عودته من الغابة
إقتنى نظرة حادة
والكثير من ربطات العنق المشجّرة
..
ودون أثر في عينيه لزوارق أو نجوم
أخمد ضحكات جارته
التي طالما رآها في حلمه
تهديه الطعام والمواويل
تلك التي أهدرت وردها
تنتظر بحارًا من موانيء الثلج والضباب
يستقل ذات القطار
..
وكجندي في ذروة المعركة
افرغ كل جنون الذخيرة في أعناق الأحصنة
واستراح
يُردي البجعات
..
ويرجم البحيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى