محمد المطرود – أنا ذئبة نفسي

تربضُ الآنَ ذئبةٌ كَهلةٌ في رأسي، تَتَرصّدُ الإبلَ والخرفانَ والثعالبَ والصيادينَ والبَدو، لاتَصيدُ أمراً مما ترىَ، ولاتفتكُ بأحدٍ يمرُّ أمام شاشةِ الدمِ، مهدوراً علىَ نطعِ المرضِ والاحتمالِ الضئيلِ بالنجاةِ، سوىَ أنّها تُعمِلُ مخلبَها في اللحمِ النيّءِ مشغولاً بالفكرةِ، ومستوياً أخيراً مَوضعاً ليّناً للحرب والحبِّ والاعتذارِ والندَم. الذئبةُ أحدٌ قريبُ، ولها وشمُ حيلةٍ أسفلَ القلبِ، تصطادُ بهِ العشَّاقَ والناجينَ بالأحلامِ منَ الأوهام، كأنْ يتَدَلوا بلا حبالٍ من سابعِ سماءٍ إلى جوفِ الهاويةِ، معلّقينَ كما لو أنّهم يملكونَ الجنّةَ والجحيمَ معاً، ويتأرجحونَ مخيّرينَ بينَ النقيضينَ!..
أقدّم اعتذاراً شبيهاً برثاءِ النَفسِ، كأنيَّ أحدٌ سوايَّ مشطورٌ إلى نصفين مختلفين، تتقاتلُ ظلالهما، ويتصالحانِ في النسيانِ، لأنسىَ هل دفنتُ روحي في مكان ما معتمٍ من أمنياتٍ لاتتحققُ، أمْ دفنتُ طفلي، حتى رأيتُ القبرَ فضفاضاً عليهِ والدودَ عَجولاً إلى هشاشتهِ، فهلتُ جسدي مع الترابِ إلىَ جوفِ النسيان الذي حسبتهُ مقبرة، وحسبتُني أُعيدُ ماضاعَ مني، وأحمي بضعفي الغنيّ ما لا أستطيعُ ردَّهُ وقد أخذتهُ المنونُ وروحُ الفقدِ المستذئبةُ، فصكّتْ دونَهُ أبوابٌ وغلِّقتْ عليهِ مصاريعُ، وما اعتذاري من كلّ أحدٍ قتلتهُ أو نويتُ قتلَهُ إلّا تكفيرٌ وجهرٌ بالذي سكنَني وأخذني عنوةً إلى ما لا أشتهي، فأنا الآنَ بينَ وهجِ نفسي المتوثبةِ كذئبٍ فيما مضى وبينَ ذئبةٍ تَثبُ متثاقلةً على روحي، بعدما فتيّةً كانت وطويلةً، وإذا انحدرتْ من جبالٍ قريبةٍ، تجيء ومعها قبائلُ تفتكُ بالزرعِ والحيوانِ والآبارِ، وتوطِدُ علاقاتِ حبٍّ معَ الجسورينَ. كنتُ ضحيةَ هذا السحر، وعسايَ هنا لا أعتذر، حَسبي نطقتُ بلسانِ الذئبةِ التي تذرعُ رأسي، مُتَرجِلاً عن حصاني في فلاةِ السَبقِ الفسيحةِ، داخلاً دائرةَ النارِ الشديدةِ، حابساً فيها جسارتي، ومتنازلاً بكلّ طواعيةٍ عن فارسٍ كنتهُ، عَلْمتهُ الرمايةَ وطِرادَ الطرائد، فلما اشتدَّتْ حيلتُهُ تركتهُ للحبّ يفتكُ بهِ، ويرميهِ مثلَ شاةٍ عليلةٍ في يومٍ مظلمٍ وباردٍ والطريقُ مَمشىَ ذئابٍ جائعة. أقدِم اعتذاراً لكلّ من أكلَني في ليلِ المكاشفةِ وفوّتَ عليَّ الدهشةَ بأنْ أرانيَ ” ونفسيَ اللوامةَ” مسحولاً في أرضٍ ليست لي، ومن أجلِ أحدٍ كانَ يرشي الأقدارَ، ويقدمُ النذورَ ليشهدَ موتي أو بالذي يشي بانطفائي!..
حينَ لم أتحدّثْ بما أحسستُ، وأشرقتُ في نصفيَّ الحيِّ المحرَّرِ من أنثىَ المرضِ، فقد جررتُ نصفيَّ الميتَ خلفي، وتعايشتُ مع نصفِ جثةٍ، ليس كما يفعلُ مشلولٌ معَ عاهتهِ، إنّما كما يفعلُ عاقلٌ صَحيحٌ معَ أحدٍ ذي عاهةٍ لابرءَ منها، أفعل هذا لأنَّ ذئبةٌ كهلةٌ تلبّستني ونطقَتْ باسمي، وهي تعتاشُ في رأسي، تأكلُ أحاسيسي الثريةَ شيئاً فشيئاً، قطعةً تلوَ الأخرى، هي تتَضخَمُ، وأنا أضمرُ وطريقي إلىَ النهايات واضحٌ، حيثُ لا اسمَ ولا قوامَ ولارأياً خاصّاً لي في هذا الكون، وأعترفُ أنيَّ نكّلتُ بأفكارٍ كثيرةٍ، وجرّبتُ أنْ أكونَ معافىَ وأنطقَ بالهوىَ ومايوحىَ إليَّ من قوةٍ طيَّ الخفاءِ لا أتبينها، وليسَ ماتقولهُ ذئبةٌ عجوزُ أنيابُها تشتغلُ بدأب في رأسي ومخالبُها تهرشُ دمي، وتحدثُ ضوضاءً عارمةً، أنا الآنَ مجردُ صوتٍ أو جلجلةٌ أو طرقٌ لجوجٌ علىَ بابِ السجنِ أو ارتطامُ غيمتينِ ببعضهما، أو نحاساً أصدرَ أنيناً بمحضِ الصدفةِ، أو جنيّاً صرخَ في وادي الظلماتِ، فردّت عليهِ جميعُ الجنيّات:وااااه!..
وأنا الآن الذئبةُ الكهلةُ استوطَنَت رأساً كانَ عنيداً، يفكرُ بامتلاكِ العالم، الذئبة سَتحيا بي، تأكلُ ما آكلُ، تحِبُّ ما أحبُّ، وتعتادُ ما اعتدتُ من الهوانِ والسيادة، وتموتُ أخيراً في جسدي، لستُ ابنَ هذهِ الذئبة ولازوجَها ولا ظلّها، ولو جاز لي أنْ أفسّر هذا الرباطَ لفسرتهُ، غيرَ أنيّ مشغولٌ بالأسْرِ والدائرةُ تضيقُ أكثرَ فأكثرَ، ليسَ بعيداً عن نافذةٍ تطلُّ على حديقةِ النجاةِ، إنّما قريباً من حبلِ الأنشوطةِ.
وإذا امتلكتُ يوماً ما مخالباً وأنياباً، واكتسبَ جلدي وبراً لَهُ مَلاسةَ حَجرَ الصوّانِ الذي تَدَحرجَ عليهِ وعطراً من صنوبرٍ أنثوي حينَ أنزلُ جبلاً صوبَ سهلٍ مشغولٍ بالحربِ وناسهُ ينجونَ بالنارِ من النارِ، سأنتصرُ لي من ذئبةٍ صارت أنا، وسأموتُ سعيداً بما تبقىَّ من مرضٍ اسمهُ حبُّ الحياه.

زر الذهاب إلى الأعلى