مِنَ النُّزْهَةِ إلَى الَّثورَةِ

خطوات صغيرة ومسيرات كبيرة

النزهات شائعة والرحلة سيراً على الأقدام تسمح باسترجاع الآثار البشرية التي محتها السيارات. فحيث الطريق المفروشة بالإسفلت تدفع إلى التسابق، يفضل الجوالون الدروب الترابية والقادوميات وهي محاور للتضامن. ويحدث أن يكون السير على الأقدام سياسياً، فنسير لكي نعبّر عن اعتراضنا. السير هو التجانس مع الآخر في إيقاعه والتجول بحرية إعادة اكتشاف للذات أولاً بأول.

يرجع بنا السير على الأقدام إلى أم الهجرات. فقبل الربط بين الحركة والكلام “بدأ الإنسان بالرجلين” كما يقول عالم الاناسة لوروا غورهان. فالسير يذكّرنا بالوقوف على القدمين وما قدمه لنا، أي حضاراتنا… التجوال بغيته المتعة. وكل رحلة تختصر إذا افتقد صاحبها المتعة حتى في العذاب. ومجهود الجوّال بركة في الغالب أكثر منه ألما ولو أن المتنزه يتحول في نظر البعض إلى شهيد بإرادته!

في الأساس هناك البحث عن متعة غير متوافرة وانسجام غير مضمون، يسعى إليهما الجوّال ـ الحاج. السير على الأقدام بسيط ومعقد، يؤكد الحياة التي تنطلق مهما كان الثمن، مغامرة الحياة البشرية حوالى عمر السنة. الطفل يتعثر بداية لأن السير أسلوب أيضاً وإغراء. خطوة كبيرة توفرها عتبات الحياة بين نقل الأقدام في البيت والصعود إلى أعالي جبال الهملايا.

السير على الأقدام مقاومة فردية يشوبها الحنين وخطوة دائمة في اتجاه الآخر. لقاء يتطلب جهداً. علاج نفسي وجسدي في آن واحد. على الضمان الاجتماعي تعويض الجوال، ربما يوفر على الدولة… بعد أحلام اليقظة عند روسو ونعال الشاعر رامبو جاء ستيفنسون، تورو، لاكاريير، بوفيه، لانزمان وغيرهم ممن دفعونا ونحن نقرأهم إلى انتعال أحذيتنا لننطلق. من اجل متعتنا وصحتنا. تحدّ للسرعة والضجيج، دعوة إلى التواضع وتشجيع للفضول والصمت وحافز للتأمل. كذلك دعوة للانطواء والحميمية، للصمت من اجل إصغاء أفضل.

يمكن للسير على الأقدام أن يكون مقدمةً لتعلم الحرية وان يكون الخطوة الأولى على طريق المقاومة… إذ أن المسير دعوة أيضاً للوحدة بين الجمع. السير حركة وبالتالي فعل. إذا تحرك المجتمع كله وليس الفاعل وحده، نصل إلى الحركة الاجتماعية. السير على الأقدام مسيرة سياسية أيضاً.

من يمشي فهو كائن واقف. النحات السويسري البرتو جياكوميتي المعروف بشخوصه النحيلة كان يعتبر الرجل الواقف رجلا يمشي بكرامة وإحساس. الراجل هو المتظاهر بامتياز، المعترض على الظلم، الواقف على قدميه والواقف ضد، أو المناضل من اجل، أي من يتقدم ويرفض السكوت والانزواء. مسيرات كبيرة أو خطوات صغيرة، التاريخ يحفظ آثارها والاستعراضات السياسية ومسيرات الحج الدينية تساهم في هذه الحركة الواسعة النطاق.

الثورة هي إحدى الدروب. فبالنسبة للفوضوي الروسي كروبوتكين، “إن الثورة الاجتماعية درب نسلكها والتوقف في منتصف الطريق يعني التقهقر. لا توقف قبل اتمام المسيرة وتحقيق الهدف: إنسان حر وبشرية حرة”[1]. أكثر من قرن مر وكل شيء يدعو للاعتقاد أن الطريق طويلة جداً أو أننا أخطأنا الطريق! المسير يفرض نفسه عندما تضيق القدرة على الاحتمال. من يمشي فهو بالضرورة واقف غير متخاذل أو مكسور يرفض الاستعباد، وهذا ما يعطي غضب الماشي كل قوته.

السير من اجل التظاهر، قطع الطرق، إقامة المتاريس أو الاعتصام في الطرق. اضرابات سائقي الشاحنات خير دليل. عندما نوقف حركة السيارات يختنق الاقتصاد التجاري. من دون نقل لا بضائع ولا أشخاص يمرون. ومع كل هذه الطرق المقطوعة كيف يمكن للمواطن أن يستهلك على هواه؟ إن مرتكز النظام معرض للانهيار ومعه عدد من أوهام السعادة التجارية. وهي غير سعادة الجري على الأقدام.

لكن كيف نقارن السير مع السوق والجوال مع التاجر؟ البائعون المتجولون اختفوا أو طردوا لكن من وقت إلى آخر نشاهد تجارا غاضبين يقررون السير في تظاهرات أو تظاهرات مضادة.

أم المسيرات الاحتجاجية لها تاريخ، الأول من أيار/مايو. الموعد الأسطوري للمسيرة الاجتماعية التي تدفع بالشعوب إلى الأمام وبأرباب العمل إلى القهقرى. أن تسير يعني أن يصغى إليك. الطقس ينطلق، الجمهور الغاضب يلبس اللون الأحمر ويرفع اللافتات مرددا الهتافات وصادحا بالأغاني الثورية. أول أيار/مايو في التاريخ كان في شيكاغو عام 1890 حيث تحول إضراب بسيط إلى مسيرة جماعية منظمة. الطريق مفتوح للسير ما أن تتردى أحوال العالم والسير يصبح فعل نضال وهمّا يضاف إلى هموم السلطات القائمة. المسير يعني التمرد وهذا ما يزعج الأمن العام: بداوة متمردة ضد نظام حضري.

المسيرات تذكر بالتظاهرات وبالنضال والاعتراض والاستنكار. لكنها تفتح الباب أمام العروض العسكرية وتؤكد حضور السلطة. مسيرة هنيبعل ضد روما ويوليوس قيصر على بلاد الغال وجيوش نابوليون (وبعده هتلر) على روسيا الخ… أمثلة المسيرات الحربية كثيرة. تحركها روح الغزو أولاً. “السير إلى روما” بقلم موسوليني عام 1923 ليس “المسيرة الطويلة” لماو تسي تونغ بين 1934 و1935 لكنهما توطئتان للسير نحو السلطة.

نمشي لنتسلق ذات يوم درجات السلطة والمجد. ففي عام واحد، بين خريف 1934 وخريف 1935، نجح ماو تسي تونغ في ضربة معلم سياسية لكن كلفة الملحمة كانت عالية بشكل رهيب. مشى 100 ألف رجل ما بين 8 و12 ألف كيلومتراً بين جويشين في الجنوب ووشيشان في شمال الصين وهم يقاتلون أعداء أكثر عدداً وأفضل تسلحاً في طول الطريق. لكن المثابرة والاندفاع تفوقا على القوة وكان الإنجاز شاسعا على قياس البلاد. سيحفظ التاريخ الطريق الذي مشاه الرجال من اجل الصين وخفف من حجم العذابات.

يجب أيضاً الإشارة إلى المسيرات السلمية الشهيرة، مسيرة غاندي من أجل الملح عام 1930 أو مسيرة مارتن لوثر كينغ من أجل السلام عام 1963 وهما تمثلان شهادتان كبيرتان على قوة اللاعنف. مسيرة الملح التي قادها المهاتما امتدت على طول 400 كلم بين 12 آذار/مارس و6 نيسان/ابريل 1930. وكان الانطلاق من قبضة ملح في يد غاندي المعترض على الاحتكار المفروض من بريطانيا على الشعوب المستعمرة. وتحولت المسيرة من اقتصادية إلى سياسية لتدفع بتاريخ الهند المعاصر إلى الأمام.

هناك أيضاً مسيرة مارتن لوثر كينغ أولاً في الاباما من اجل إلغاء التمييز العنصري في وسائل النقل المشترك ومن ثم في غيرها من ولايات الجنوب ضد كل أشكال التمييز (لا سيما المدرسي) وصولاً إلى التجمع الكبير في واشنطن يوم 28 آب/أغسطس 1963 والجملة التي لا تنسى “إني أرى حلما”. ومن المهم التذكير كيف كان يزود المشاة “تعليمات اللاعنف وصلا إلى تحاشي سد الطرق والاكتفاء بالأرصفة والمنحدرات الجانبية”[2]. مسيرات بطيئة، صامتة، مسالمة على أمل أن يتقدم الحق. تراجع التمييز ببطء شديد لكن هذه الوسيلة الهادئة لم تمنع اغتيال مارتن لوثر كينغ.

في فرنسا، من مسيرة الـ”بور” من الجيل الثاني المغاربي إلى “مسيرة النساء” لا يزال الكفاح ضد التمييز يمر عبر فعل السير على الأقدام وتحقيق نتائج مرضية في نهاية المطاف. هناك أنواع من المشي، بين السير المنتظم والتراجع الاضطراري ومسيرة التحرير…

من حقنا الشعور بالقلق ما أن يتحول الشارع إلى طريق أو جادة لان ذلك يعني المزيد من الرقابة والأقل من الحرية. فالجادات الواسعة تفتح الرؤية إلى البعيد وتسهل مرور شاحنات شرطة مكافحة الشغب هنا أو المدرعات هناك. نتذكر صورة الدبابة التي أوقفها رجل في حزيران/يونيو 1989 في ساحة تيان أن مين في بكين. كم شخص سحق وديس واغتيل مقابل دبابة حولت مسارها؟

هناك مسيرات اقرب إلى المنفى كالغجر أو أجدادهم الذين قبل ألف عام فروا من شمال شرق الهند هربا من العبودية. “مسيرة طويلة” لا تزال مطوية حتى اليوم. المسيرات الإجبارية تتخذ مظاهر عدة، بعضها أكثر قتامة من غيره: مسيرة عبيد الماضي أو أطفال اليوم – العبيد وهم في الحالتين سود أفارقة يتقدمون جموعا بشرية مقيدة بعضها بالبعض عبر الأدغال وتحت رقابة تجار الابنوس.

مسيرات إجبارية أخرى تنطلق في سيبيريا أو آسيا الوسطى، تلك التي أحسن وصفها بمرارة فردينان اوسندوفسكي وسلافومير رافيكس[3]. الأول في سيبيريا، وشي به إلى البلاشفة الواصلين حديثاً إلى السلطة، عام 1920، لكنه تمكن من الإفلات من فصيلة الإعدام وفرّ عبر الغابات ليصل سيرا على قدميه إلى الهند ومنغوليا.

الثاني وصل بين الدائرة القطبية والهملايا خلال الحرب العالمية الثانية وهي “رحلة” خاصة بعد فراره في نيسان/ابريل 1941 من معسكر (غولاغ) اعتقال في شمال سيبيريا. مشى 6 آلاف كيلومتر في 15 شهرا وتمكن من اجتياز صحراء غوبي الرهيبة. مثابرته تثير إعجاب القارئ: “لم أصل إلى القعر أبداً، إلى نقطة الاستسلام. جزء صغير مني كان متشبثاً بان التخلي يعني القبول بالموت”. المقاومة أساس مشروع السير على درب الأمل.

تبقى “المسيرة النهائية”، الوهم الذي لا مفر منه والداعية في نهاية المطاف إلى عالم أفضل كما يوحي بها كتاب
“الملعونون في الأرض” لفرانز فانون المتوفي سنة 1961 عن 36 عاماً بعد أن سعى لبناء أول مداميك الأمل: “نريد السير من دون توقف، ليل نهار، صحبة الناس، كل الناس. (…) من اجل أوروبا، من أجلنا ومن أجل الإنسانية يا رفاق، يجب علينا أن نجدد جلودنا وأن نبلور فكراً جديداً وان نحاول تأسيس إنسان جديد[4]. آخر عبارات كتابه كانت أيضاً آخر كلمات فانون، هذا الطبيب المناضل الفذ الذي حاول من دون هوادة اقتلاع شعور الخوف من الآخر.

لا يمكن فصل المسير عن الحياة. ألا نقول عادةً: “ماشي الحال”؟ السير هو رفض للوقوف، للانطفاء، للموت. المسير رمز للحياة ونفي للموت. أليس الأشباح الذين يجولون في مقابرنا أو في أحلامنا أمواتاً يمشون، أمواتاً أحياء؟ النقاش لا يزال مفتوحا. يبقى أن السير على الأقدام هو على الأرجح نموذج لتسكع نشط، غني بالتجارب لم تكتشف دروبه كلها بعد. وفي صيف السياحة الجماهيرية الذي نحن فيه، فان السير على الأقدام رحلة ذات وجه إنساني.

_________________
فرانك ميشال*
Franck MICHEL
* عالم أناسة ورئيس جمعية Déroutes & Détours www.deroutes.com ، من مؤلفاته Voyage au bout de la route, éditions de l’Aube, Paris, 2004.

الهامش :
[1] وردت في Jean Préposiet, Histoire de l’anarchisme, Tallandier, Paris, 2002, p. 278
[2] ورد في André Rauch (ed.), La marche, la vie, Autrement, Paris, n° 171, mai 1997, p. 85.
[3] Ferdynand Ossendowski, Bêtes, hommes et dieux à travers la Mongolie interdite, 1920-1921, et Slawomir Rawicz, A marche forcée, à pied du Cercle polaire à l’Himalaya, 1941-1942, Phébus, Paris, respectivement 1995 et 2002.
[4] ورد في François Maspero, Les abeilles et la guêpe, Seuil, Paris, 2002, pp. 165-166

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى