أيام مستعملة وقصص أخرى – عبد الله ناصر

-١-

كان شكه إذن في مكانه الصحيح، هذا اليوم مستعمل فعلاً، بدا صباحه مجعداً وعلى الظهيرة الآن تظهر بعض البقع الداكنة. لا بد أن أحداً استخدم اليوم قبله وأفسده، هذا اليوم ليس جديداً، هذا أمس أحدهم. لقد أخذ أجمل ما فيه وترك له هذه الأسمال. ترك الخرائط وأخذ الطريق، ترك الأبوين والإخوة وأخذ العائلة، ترك البيت وأخذ السكينة أو الوطن أو من يدري ماذا أخذ أيضاً. لعل هذه السنة مستعملة، بل قد تكون حياته المهترئة مستعملة أكثر من مرة.

-٢-

لفّ حوله السجاد حتى ما عدنا نرى منه إلا الرأس والقدمين، وارتمى على الأرض ثم صاح لا لكي نخلّصه بل لندفعه بأقدامنا فيتدحرج بعيداً مثل اسطوانة. رفضنا بالطبع فأخذ يتوسل إلينا ويستحلفنا بأغلى ما نملك حتى نركله في المنتصف تحديداً فلا ينحرف عن وجهته. اجتهدنا عبثاً لنقنعه، قال أحدنا: ولكن كيف ستعود؟ فأجاب بثقةٍ إنه لن يعدم أهل الخير هنا وهناك، لا بد أنهم سيركلونه حتى يعود إلى البيت.

دفعناهُ أول مرة فابتعد قليلاً، دفعناهُ مرةً أخرى فابتعد أكثر حتى غاب عنا وإن لم تغب ضحكته الهادرة. أشفقنا عليه في الأيام الأولى ولما انتبهنا إلى سعادته كلما ارتطم بحجرٍ وطار في الهواء، تملكنا الإعجاب والحسد، فلم يمضِ الأسبوع الأول حتى شرعنا في تقليده فتحسرنا على العمر الذي أهدرناه وقوفاً على أقدامنا.

صار الكل يلف نفسه بالسجاد حتى كدنا نعدم من يدفعنا بقدميه، عوائل بأكملها باتت تتدحرج مسرعة، آباء وأمهات يتقدمهم أجدادٌ وجدّات – إن وجدوا – وفي الخلف أبناؤهم وأحفادهم. قطيع من السجادات السعيدة يجوب البلدة. كنا ندور حول كل شيء وكل شيء كان يدور حولنا حتى وقعت حادثة الارتطام المشؤومة في إحدى التقاطعات، وخلفّت عشرات الجرحى، حالة بعضهم حرجة، فتوقفنا على الفور.

أما أنا فخسرت في تلك الحادثة ثلاثة من أسناني الأمامية، ارتطمت بفتاة أحلامي – قبلّت فمها بالأصح – وكسرتُ بعض أسنانها بطبيعة الحال. لم تغفر لي حتى الآن، حتى عندما أنحبنا طفلاً رائعاً كلما أفلت من المهاد أخذ يتدحرج في أرجاء الشقة فلا يمكننا الإمساك به.

-٣-

ما لم يتداعَ العالم الجديد ويغدو قديماً، سيظل عاطلاً عن العمل، ولن يكون الموسيقار الذي يجب أن يكونه، رغم أنه، حتى الآن، لم يؤلف مقطوعةً موسيقية، بل ولم يتقن العزف على أيّة آلة. كلما أوشك على ملامسة البيانو انعقدت أصابعه واشتبكت مثل أسلاك الهاتف، حتى يصبح الإبهام مكان السبابة، والخنصر مكان الوسطى، ولكنها بالطبع مسألة وقت، لا أقل ولا أكثر، فالموسيقى هنا، يشير إلى رأسه ثم يغمض عينيه ويبتسم.

– اسمع هذه المقطوعة ( ويشرع في ترديد بعض النغمات )
– أليس هذا فالس الدانوب الأزرق لشتراوس؟
– بلى، تقريباً. أنوي تسميتها ” الدانوب الأبيض ” أو حتى الأسود. حسناً، ما رأيك في هذه؟ ( يترنم بمقطوعةٍ أخرى )
– ولكن هذا بيتهوفن ” إلى ليزا “.
– بالضبط، سبقني إليها كما سبقني إلى السيمفونية التاسعة أيضاً.

طالما لكل بلدٍ نشيد وطني -كما هو الحال الآن- لن يحظى بأي فرصة عمل، لأن موهبته الموسيقية تنحصر فقط في ذلك الشكل من الموسيقى، ولهذا يتوقف مصيره المهني على سقوط هذه الدول وقيام دولٍ جديدةٍ أو سيظلّ يشكو من البطالة.

-٤-

الذي يتلفت بين الفينة والأخرى، ويدفع قدميه كل مرة لتغدو خطوته أكبر، فلا هو يمشي مثل مطمئن ولا هو يخُب مثل هارب، ولا يتوقف أبداً. ويذوب مثل الملح ليعبر نقاط التفتيش، ويتحلل مثل الهواء فلا تراه كاميرات المراقبة، وفي اللحظة الأخيرة يخرج من المصعد ليصعد السلالم، ويحجز على الطائرة فيركب الباص، ويقفز من النافذة قبل أن يصل. ويتنقل مثل البرق فلا يقيم في مكانٍ واحد أكثر من مرة. وإذا عاد فلِكي يمحو أثره، وقد يضطر للعودةِ مرةً أخرى ليمحو أثره الآخر، يغير اسمه وشكله وذكرياته باستمرار. ويفرّ في الصباح من الأوراق الحكومية وفي المساء من ألسنة الناس وفي الليل من أحلامهم وكوابيسهم. الذي يفعل كل هذا وأكثر، فلا هو يفلت من مطاردة الآخرين، ولا هو يفلح في الإمساك بنفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى