استراحة الموتى – محمد بدر

طاهر البني – سوريا

رسالة إلى الأرض والتي لن تصل أبدًا: لقد انتحرت، كان اللقاء رائعًا مع الموت بعكس ما كان يتصور معظمكم عن أهواله، كان لطيفًا، حنونًا وجميلاً، أخذ بيديّ بكل عاطفة وحب، قبلني ومن ثم احتضنني حتى دلفت في جسده.

في البداية كانت هناك ظلمة حالكة ثم خرج نور صغير بالمنتصف وبعد دقيقة انتشر النور وحاوطني ببياضه الباهر من كل الجهات مثل السماء ورأيت كل البشر الذين ماتوا، وقابلوني بفضول، وأخذوا يسألون عني، أرادوا أن يعرفوا كل شيءٍ حيالي وعن العالم.

أخبرتهم عن كل ما استطعت تذكره، فالذكريات تصبح ضبابية بعد الموت وكل شيء تحاول استرجاعه عن الحياة أشبه بحلم متقطع، ذلك النوع من الأحلام الذي يجعلك تستيقظ وأنت تتصبب عرقًا وتنسى غالبية تفاصيله عدا ما أثر فيك بقوة.

كان هنالك طابور كبير من الرجال والنساء والأطفال الذين يتناوبون في سؤالي، وفئة منهم كانوا غير مبالين بوجودي ولم يتكلفوا حتى النظر إليّ، وفئة أخرى كانوا ينظرون إليّ من البعيد.

أجبت على ما استطعت الاجابة عنه حتى فرغوا مني، ولا أعلم تحديدًا كم قضيت من الوقت لأجيبهم، ربما شهر أو شهرين ولكن لم يتملكني النعاس أو التعب إطلاقًا.

سألتهم عن الجنة والنار وأخبروني أنهم لم يشاهدوها ولا علم لهم إذا كانت حقيقية أم لا، سألتهم عن الله وقالوا أننا لم نشاهده ولا علم لهم إذا كان حقيقياً أم لا، سألتهم عن الحيوانات فقالوا أنهم لم يشاهدوا حيوانًا واحدًا منذ أن أتوا إلى هذا المكان الذي كان يطلقون عليه: “استراحة الموتى”.

سألتهم: “إذن كل ما تشاهدونه هنا هو البياض هذا؟” قالوا نعم منذ أن متنا وهذا كل ما نشاهده، ونحن لا ننام ولا نشتهي الأكل ولا نمارس الجنس ولا نموت وليس لدينا شيء نفعله سوى سماع قصص القادمين الجدد ونسألهم عمّا حصل في الحياة وعن أشخاص معينين.

كنت سأكمل حديثي لكن جميعهم تركوني وذهبوا ليستقبلوا أمواتًا جُددًا ولم يعودوا يهتمون بي، حينها مباشرةً وقفت بالصف وانتظرت دوري للسؤال، وبعد شهور من الانتظار أخيرًا جاء دوري.

سألت الوافدة الجديدة عن أمور عديدة تتعلق بالبشر وطريقة عيشهم ثم أخذت أسأل القادمين الجدد ذات الأسئلة واكتشفت في كل مرة، وفي كل زمن مختلف؛ أن البشر لم يتغيروا أبدًا، وأن الحياة لا زالت بشعة، ظالمة، كريهة وفي حرب دائمة.

في النهاية أصبحت مع تلك الفئة التي تنظر من البعيد للقادمين الجدد ثم تطور الأمر وأصبحت مع الفئة الأخرى التي لا تبالي بأي شيء.

ومع مرور الوقت أصابني اليأس ولم أعد أتحدث مع أحد، وانتحرت لأكثر من مرة في الموت لكنني أجد أنني أعود إلى ذات المكان مرةً أخرى لذا توقفت، مَن كان يفكر أنه من الممكن أن ينتحر المرء في الموت؟ الأمر مضحك جدًا، الموت لم يحمني أو ينقذني بل زادني بؤسًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى