السندباد الذي يريد أن يجد اسمًا لمدينته المتخيلة – قيس مصطفى

كنت أودّ أن أخرج إلى شوارع أوروك مثل أي بشريّ صياد ليبكي طرائد الزَّمان والمكان. أو أن أعيش في غفلةٍ من ذاتي فأقول للحزن: لا أراكَ حتَّى لو جئتَ ممتطياً ظهرَ بغلٍ وعلى جنبيك أسنَّة وحراباً وكلَّ ما ينفع لإهراق الدَّم والحب. ثم أحبُّ أن أفصفص قليلاً من البزر على تخوم تدمر. متسلِّياً بعجاج المعركة التي أثارها أورليانو الأحمق بلا مبرِّر.. أو أن أخرج من أحد شوارع دمشق ضاحكاً كدومريّ وجد سعادة غامرةً في آخر الليل: كلُّ الأزقّة لي ولي كل الفناءات الخلفية.

ما الذي يعنيه إن أنا اقتحمتُ قلاع المستحيل ثم سكبَ عليَّ جنودٌ مقدَّسون زيتاً حارقاً وقطَّعوا أوصالي لأكون عبرة ومدعاةً لفخرهم في ليالٍ ماجنةٍ يسكرون فيها ويقولون: كان فارساً ويصلح لامتطاء الريح. ما الذي يعنيه إن خلعت نعليَّ ومشيت في «ماكوندو»- مدينة ماركيز الاستثنائية- ثمَّ نسيت اسمي مثل سكانها، ثم علَّقوا لي ورقة في عنقي ليعرفونني: أنت لا أحد.. لكنتُ عدتُ بعدها إلى حلب وأسرْتُ نفسي إلى جوار أبي فراس الحمداني وبكينا الحريَّة والثُّغور معاً. لكنني وجدتُ نفسي ابن بريَّة ومفازات قفراء.. ومع ذلك، لم أقتل غزالاً ولم أجرحْ عصفوراً، وبالكاد آكل إذا اجتمعنا على مائدة الله..

إلهي: ألم يكن هذا اللّحم يسير على سيقان في براري الجحيم، ألم يكن لهذي الطّيور أعشاشٌ تأوي إليها، فكيف أنهش دمها بأسناني وكيف أمدُّ يدي إلى صحنٍ فيه ذبيحةٌ كانت تضجُّ بالحريَّة والهواء الطَّلق؟!.

أنا إذا جئتُ من بعيد فلأنني لستُ قريباً، أجول مدن الحلم فكل «مدن الملح لي» ولكني أفضِّل ضفاف بحيرة طبرية- التي لم ألمحها قط- حين خرجت منها عرائس بأثواب مزركشةٍ. غير أنني متوافر حالياً في كل ضواحي الأرض وعشوائياتها. وبالأصل، لا أجيد الحياة خارج نطاق هذا التوصيف!

ما الذي تحتاج إليه حكاية لتكتمل عن مدينة لم توجد بعد؟ وما الذي يحتاجه قلب ليستمرَّ في الخفقان؟ وما الذي يلزم كاتدرائيَّة، لتصدح أجراسها كلَّ يوم بلا آحاد. ومن بعد، إذا غنَّى المغنِّي وكنا ثملين لدرجة لا نفهم فيها، ثم جاءت سيدات فاضلات ورقصنَ على تخومِ أحلامنا، فما الذي نقوله لهنَّ بعد أن نصفِّق ككلِّ الأغبياء. ليس هناك سوى الصَّمت الذي نبذخه على عتبات أرواحنا التي تجمَّدت من صقيع الآخرين. فهل يقول لي أحد كيف نبني مدينة هدَّتها زلازل وجيوش؟..

في بغداد، أنازل هارون الرشيد، أو يقاسمني سماع الغناء والتمتُّع بالجواري- قسمة على الطريقة الاشتراكية-.. وفي القاهرة، أمدُّ يدي سداً آخر على النيل، فيما أدخِّن سيجارة بيدي الأخرى.. وأيضاً تجدونني في مراكش، وفي صحراء الأمازيغ… أريد مدينة أدخل فيها كلَّ بيت وكأني ألبس قبعة الاختفاء.

المدن والصّحارى والبلدان والمِلل والأعراق، تتداعى أمام مخيلة عاجزة لا ترى إلا أمواج البحر الأبيض المتوسط. لذلك أخفي نفسي كقزم في جيب السندباد، علّه ينقلني إليك لأهمس:

أنت مدينتي التي لم أجد لها اسماً حتى الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى