بهاء إيعالي – سوريا

Ivan Milev
Our mothers are always dressed in black
Ivan Milev

للسماءِ أصواتٌ
للأرضِ أصواتٌ أيضاً
والشجرةُ، الخفيفةُ أكثرَ من هذه الأصواتِ، تخبركَ عنِ الذين ناموا تحتَها ولم يستفيقوا
فلا تقتربي منّي في هذه اللحظةِ
بثوبِك الليلكيَّ الذي أحاولُ ألا يقذّرَه الدخانُ
ولا تعانِقي جسدِي
المنفى الذي اخترتِه فيما كنتُ أحاول النومَ؛
هذا النوم الذي يلتقِطهُ الصبيةُ في فراشِ الموتى
هو النومُ المعلَّق كيفما أرادَ أن ينظرَ
والمتروكُ حيثُما علِّق لأنّ أبي لم يشَأ أن يصطحبَه معهُ إلى السريرِ
حيثُ الأرضُ الثقيلةُ تحضنُ أجساداً خفيفةً
وحيثُ تتركُ أكياسَ التبغِ وأوراقَ السجائرِ-علّ أحداً استفاقَ.

الثقوبُ بينَ وجهي ووجهِك يا صديقتي: رصاصٌ، هواءٌ ثقيلٌ، حجارةٌ، أمطارٌ متعفنةٌ… كلها تحدث ثقوباً في هذه الأرضِ
الناظرونَ لهذه الثقوبِ كائناتٌ تخافُ من وجهِ سوريا
وأطفال اعتقدوا أنّها صالحة لتثبيتِ الحشائشِ التي سرقوها منَ الحديقةِ
أما الباقونَ
من بسبب نومهِم بكى الإلهُ على هذه الثقوبِ الكثيرةِ
محضُ حراسٍ لهذهِ الأرضِ، غير أنّهم جبناءُ فلم يلتقطوا المتساقطاتِ.

وجهُك الآن يا صديقتي ينقّبُ عن ساعةٍ
يستريحُ بها الكونُ من الدخانِ
الآنَ-أو كانَ…… لا فرق
لا زالَ وجهُك ينقِّب عنها
فيما الأرضُ تقول لورداتِها ألا يستيقظنَ
وهيَ تركضُ نحو وجهِكِ صارخةً: أسرعي، يكادُ “سوريا” أن يغفو؛
ما النومُ إن أتانا؟
إنه لا زال معلّقاً أيتها الأرض: القتلى، الشهداءُ، الخونةُ، الأطفالُ، الشيوخُ، الفتياتُ الجميلاتُ، العاهراتُ، أصحابُ الباراتِ، بائعو العرقسوسِ، أئمةُ المساجدِ، شماسو الكنائسِ، تجارُ الأسواقِ القديمةِ، العمالُ المياومونَ، العقلاء، الحمقى، الشعراء، الأطباء، اللصوص، رجال الشرطة، الجنودُ…..
جميعُ هولاءِ يشهدون أنّه لا زالَ معلقاً ولا يريدُ أن ينزلَ
وأنا، وأنتِ، كأحد هؤلاءِ
علينا أن نشهدَ أيضاً على ذلك
وداخلَنا إيمانٌ لا يقولُ إنّنا مستسلمونَ
بل يقفُ أمامَه وهو يئنُّ صارخاً: يا لارتفاع قدمَيّ.

هل عليّ أن أفصح كيف نامت العاصفةُ على وجهِك؟
وجهُكِ متجعّدٌ
ممتلئٌ بالدماءِ. كل هذا أعرفُه
فقط لأنّ الدمَ الذي يملأُ وجهَك لطالما انشقَّت الأرضُ بسببِه
فقط لأنّهم يدركون أنّ الرصاصةَ التي تعوي فوق رأسِك لم تستطِع حتى خدشَك
فقط لأنّ الأرضَ أيضاً لم يستطِعِ انشقاقُها أن يبتلعَ وجهَك
فقط لأنّك ترينَ الوردةَ كما أراها
أيّتها الوردةُ
يا جثّةً تحملُها قصبةٌ خضراءُ لنبتسمَ
كأنّما نحن حمقى أو دونَ ذلكَ بقليلٍ
وكأن الأرضَ لم تقل لنا إنَّ الورودَ هي آخرُ وجوهِ الموتى
أيّتها الوردةُ
يا دماً يفرحُ لرؤيتهِ الحمقى
إبقي نائمةً كي يستريحَ من خرجتِ من جثثهم.

أرتطمُ خفيفاً بحائطٍ قديمٍ لم يعد فيه مكانٌ لزراعةِ الرصاصِ
بينما كان الهواءُ يحاولُ أن يدفعَ الموتَ دونَ انتظامٍ
هذا الهواءُ الذي جعلني عديماً كصورةٍ فوتوغرافيّةٍ نسيَها العجوزُ فوق السريرِ لألفِ عامٍ
حين أسقطُ ما في داخلِي من وحشةٍ
المرتدية لقميصِ شهيدٍ سلقَه دخانُ الحربِ
يسقطُ الهواءُ معي
ويسقط الموتُ الذي لطالما ارتفعَ عن وجهِك
الذي يرقّعُ نفسَه المتهالكةَ بمكياجٍ محلّيِّ الصنعِ؛
في سقوطي، اللاإراديِّ
يخرجُ وجهُ سوريا وهو يكفكفُ دموعَه
حابساً ملء عينيهِ صراخاً لا يريدُ أن يصلَ أسماعَ ال “كو كلوكس كلان ”
هو يصرخُ بي وحدي: سر حيث تجدُ السماءَ باستقامتِها
فأرى السماءَ باستقامتِها واعوجاجِها وانكسارِها وانعكاسِها وهدوئِها واضطرابِها وصحوِها وتلبدِها، ووجهِها الذي يكسو جلديَ بسائلٍ شفافٍ يقالُ إنه المطر
هو دمُها الذي تحاولُ ألا تريهُ لوجوهِنا
بل هو العدمُ نفسُه في عيونِ الحمقى
العدمُ الذي ينامُ فوق الترابِ الذي تلتحفُهُ الأرضُ كغطاءٍ قديمٍ غيرِ مرقّعٍ
هنا أجلسُ بين الموتى قليلاً
لربّما أرتفعُ بعضَ الشيءِ نحو هذه السماءِ وتسقطُني عدماً.

في “سوريا” يولد “سوريا”
في “سوريا” يموت “سوريا”
فلتحاولي ألا تنامي
كي تري ما يفعلُه الدمُ للمارّةِ الكثرِ فوقَ ذاك الرصيفِ المتكسّرِ
كي تهدئي قبل أن يخرجَ الحمقى مجدداً نحو أحلامِهِم الميتةِ كجرذونٍ شتويٍ
كي تتفرّجي عليهم
وهم يحاولونَ رميَ قمصانِهم على وجهِك ظنّاً منهُم أن الضبابَ سيختفي عن عينيكِ
الهواءُ؟ فوق “سوريا” وتحت “سوريا”
الدمُ؟ على “سوريا” وحول “سوريا”
الحياةُ؟ وراء “سوريا” وأمام “سوريا”
الموتُ؟ بين “سوريا” و”سوريا” أيضاً
كل الأشياءِ “سوريا”
ووجهُ “سوريا” يقظٌ بينَ كافةِ وجوهِ الآلهةِ
هكذا تحاولينَ ألا تنامي، كيلا يستيقظَ الدمُ وروداً حمراءَ؛
كقفازِ الأطباءِ ينخلعُ الموتُ عن وجهِكِ
كلذّةِ صورةٍ قديمةٍ تدخلينَ إلى وجهِي لتستريحي
وأنا
قفزةً تلو قفزةٍ
بوجهِي نفسِه-وجهُك كنحاسةٍ معتّقةٍ في غرفةِ صديقيَ العجوزِ
بصراخيَ الأخرسِ الذي لا أريدُ للموتى أن يسمعوهُ
أجمعُ ريقي في كأسٍ لأغسلَ به الغبارَ العالقَ في الطريقِ
أضعُ آخرَ أشجارِكِ رأساً لي لأفكّرَ كيفَ يقدرُ العصفورُ على النومِ
ريثَما تنتهي حكايةُ النومِ الطويلِ-الموتِ الطويلِ
حينَها سأرسمُ وجهَينا
رصاصةً رصاصةً
في “سوريا” يموت “سوريا”
في “سوريا” يولد “سوريا”….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى