شتاء دافئ أحيا من أجله – عبد العزيز الجهني

لا أفعل شيئًا أُريده، مجرَّدٌ أنا حتى من نفسي، بلا رغبة ولا دافع ولا إرادة، ومثل قشَّةٍ في مهابِّ الأشياء التي تجري حولي، أستيقظ كل يوم أنتظر شيئًا يحدث، أي شيء ليأخذني، ليعبُر بي هذا اليوم.

لقد طالت الأيّامُ عليَّ واستطالت: يبدو لي اليوم في أوّله مثل جبل، جبلٍ أجردَ في قيظٍ غاضب، وأنا لم أعد أبحث فيه عن وَهمٍ مثل إرنست بلوخ، كان يدعو كل صباح أن يُمنَح وهمه اليوميَّ، أوهامي تحترق يا سيّد بلوخ، تعال وانظر، لا ظل ههنا ليتفيَّأه وَهم أو حُلم، يومي رماديٌّ مُحايد، مثل وجهي الذي تنقصه التعابير، أقطع يومي بتعبير واحِد من أوّله إلى آخره، لياقتي في الحفاظ على حالة اللاتعبير تُذهلني أنا نفسي. “سباق المسافات البئيسة” ربما كنت أفوز لو كان ثمة شيء من هذا القبيل، أحاول أن أبتسم، اخرجي أيتها الابتسامة، ولكنّها لا تحدث برغمِ أنني أحرك مالا أعرف كم وأربعون من العضلات، تبرز أسنان وترتفع شِفاه، ولكن لا ابتسامة، أعرف حتى قبل النظر إلى المرآة، والناس أيضًا تعرف، ثمة أناس لديهم قدرة غامضة على رؤية الابتسامة، هؤلاء يُخيفونني، أرتاح إلى مَن يسهل خِداعهم، أولئك الذين لا يهمّهم إن كنتَ تحرّك عضلات وجهك لمجرّد أنه الموضِع المناسب لذلك في الحديث، حاول ألا تكون فجًا في حديثك وحسب، ثم ستسير الأمور على أفضل حال، وإن ضافت بك المواضيع فاللغة، مُنقذنا الأبديّ، تطفح بالتعابير الفارغة والجمل الجوفاء، أحرف تصطدم بأحرف ويخرج كلام، مرحلة تتحوّل فيها أنتَ والذي أمامك إلى ما يُشبه الآلات، لا تعي ولكن تعرف كيف تجيب.

ولكن ما الحاجة إلى الوعي أصلًا؟ صدِّقني نحتاج شيء آخر غير الوعي، أمر لا يحثُّ على بحث يائس عن معنى لكل شيء أو هواجس حول الأسباب والغايات، الواجب الصارم مثلًا، ألا فتعال أيُّها الواجب، أنقذني من حيرة السؤال، تعال ولا تتركني فارغًا تقتلني الفِكرة وتحرقني الذِكرى، وما الفكرة والذكرى؟

لا شيء على وجه التحديد، محض شعور مبهم بالخواء، سمّيته ذكرى وفكرة لأنه مغلّف، مثل هذه الأشياء المجرّدة، بالضباب، ولأني لا أملك له اسمًا، ولكنِّي أحسُّه، هذا اللعين، لا، ليس مجردًا، أكثف من ذلك، شعور ضاغط وخانق، أعني ما أقول، يخنقني حرفيًا، تضطرب عملية تنفسي الفيزيائية، يلذعُني احتراق مّا في القصبة الهوائية، أتجرّع ألسنة من لهب، أحسّها مثل آلاف الخيوط التي تحفر آثارها على جدران حلقي،  ثمّة حريقٌ في داخلي، هذا يلسع يا رفاق، ولكنّي نسيت كيف أتنفّس، جُهدٌ ذهنيٌّ مزلزل هذا الذي أحاوله لكي أضبط تنفّسي، تنفّسي الذي نسيته، الذي كان يمضي دون أن أشعر به، كيف كان يحدث ذلك لي؟ نسيت كأنه لم يكن، كأنني أفعله للمرة الأولى، ولكنّي خائف وأرجف، ما هذا الرعب الذي نَفَض أطرافي وزلزل جسدي قبل أن أدركه؟

شيء مّا يلمع في ذهني، لقد وصل إلى دماغي، شيء مّا للتو أدركته: لن يكون بمقدوري النوم، لن أتنفس وقتها، سأموت، تبًا، إنني أنسحق تحت وطأة محاولة التحكم بالمعضلة المعقّدة هذه، ماذا؟ لم تفهم كيف أنني نسيت أن أتنفس؟ يبدو شيئًا مثل أن تنسى المشي وتذكر الطُرقات، ولكن لا تُكمل، فأنا في عزِّ التعب ولكن بلا حلم لأفتش عنه وأستند إليه، التنفس عملية صعبة يا رفاق، الحق أقول لكم، بهذا التعبير الدينيّ الصارم الذي وجدته في كتاب مقدّسٍ مّا، إنني مُتعب وأتعثّر في تنفّسي وأيّامي، الحقَّ أقول لكم، ثقيلٌ أنا على نفسي ولا أدري كيف كنتُ أحملني وأمضي بي طوال كل تلك السنين، لا شيء أفعله يخرج، كما السابق، من صميم ذاتي إلى العالَم، يخترقني الآن العالَم، يُملي نفسه عليَّ بصفاقة، ولكن لا، لا تظن أنني منزعج، فكل ما أتمنّاه في بداية يومي هو أن يأتي إليّ العالَم ويملأ هذا الفراغ الموحش في داخلي، عملٌ مّا مُكلّف به ولم أضطلع بعبء اختياره، تنقذني الجامعة في هذا الصدد، مؤسسة عظيمة تليق بعصرنا التافه، تضغطك بأشياء ثقيلة ومُجهِدة وبلا معنى، تستنزف وقتك وجهدك وأفكارك، الوصفة المثاليّة لمَن يُريد أن يَعبُر يومَه، أطمئن إلى تلك الأيّام حيث تأخذني الواجبات من فور استيقاظي وتستفرغ كل ما لديّ من طاقة، تُنهكني حتى أنام بلا أحلام، نومي مثل يومي، محايِد وساكن وبلا اضطرابات.

ولكن يُنقذني العالَم الخارجي. شيء مادّي جدًا، وشتويّ للغاية، مثل نسمة باردة تعبر الأنف، تذكّرني بأشياء جميلة، ومن دون أن أتبيَّن الرابط بالضبط، تطفو على صفحات ذهني فكرةُ مبهمة قِوامها أنَّ الشتاء أبيض، وتتداعَى سائر الأشياء البيضاء من ثمّة. “الشتاء دفء الحالمين” قُلت في نفسي وأنا أنحدر في مستويات اللونِ من أبيضِ الشّتاء إلى أحمرِ شعرها، توقّفتُ كأنّما أصطلي بذكرى تلك الشُعلات، تبدو أبدًا متقدةً في تحدٍ صارخ لكل الألوان والأشياء والأوقات، من بينها الشتاء نفسه الذي طالما ظهرَ في خيالاتي بلونٍ أبيضَ ناصِع، أي لونُ جِيدِها بالتَّحديد. ألوان ولكن أحلام أيضًا، تختلط في كُلٌ واحد يضطرب في داخلي، ولأسمِّي هذا الاضطراب شوقًا، نعم، يبدو مثل شوق مُمِضّ لا شك، رغبة لاذعة في الوِصال مع ألمِ انتفاء القدرة ومرارة العجز، رفضٌ يائس لكل أشكال العوائق والعقبات، ليس المسافة والسور والباب والحارس، كما قال شاعر ظريف ذات مرة، لا، أشدّ العقبات يا حبيبتي هو أمرٌ لا فَكاك منه، هو الحقيق بأشد عبارات الرفض المستحيلة:

أرفض أنك شيء آخَر غيري، أرفض أننا اثنان لا واحد، أرفض أنني لستُ أنتِ.

أنا الذي أريد أن أكونك وأتملَّاك وأمتلئ بك، وبأعمق رغبةٍ للرفض، هناك تحت طِباقٍ عميقة في دخائلي المعتِمة، ثمّة رفضٌ لنفسي مُجرَّدًا، أرفض أناي العارية الوحيدة، أرفضني يا حبيبتي، يا عنائي وهنائي، أرفضني بلاك، أرفضني لولا بسمتك وضحكتك، لولا لهب شعرك القصير وملمس جلدك الحرير، ولولا طعم الأيام الذي أذوقه في شفاهك وأسمعه في ترجيع ضحكاتك. ذكّرتني بك نسمة باردة، ذكَرني بك الشتاء. تعرفين أنه يتضاعف الدفء هذا الفصل؟

قلتُ لك هذا ذات مرّة وأنا أتأمّل شعرك الأحمر، لأنّهُ، ببساطة، يُعمِّق التباين دومًا قوّة الإحساس بالأشياء.

أجمل ما يحدث هو أنَّ كل اللحظات الجميلة الدافئة التي لم يعد المرء متأكدًا من وقتها وتاريخها تُنسَب، مباشرةً، للشتاء، يغدو الشتاء خزَّانًا لملَّذات الروح التي تتَّسم بالدفء، مما يجعلها تُستعَادُ، في انفجارٍ حُلُميٍّ ملوّن كالذي حَدث حين ذكرتك، مع أضأل نَسمة باردة، حيث تبدو ألوانُ المسرّات والمباهِج المتعالية على الزمان، مرآك أنتِ مثلًا وصُورة مّا من رواية أو فيلم، تبدو انطباعاتها اللذيذة تنتمي إلى شتاءٍ مّا، ولو أنّها كانت في غيره، الصيف، نقيض الشتاء والحُلم، واقعي على نحوٍ فَج، لا يُحضِر مثل تلك الذكريات لأنه لا يَليق أن تكون قد حدثتَ فيه، لا يُمكن، مثلًا، أن أجمعكِ والصيف في فكرة واحدة، أنت شتويّة، ذكراك باردة وبيضاء، ككل شيء جميل وحالِم، شيء مّا لا أزل أحيا من أجله، يشحن قلبي برغبة العيش، أن أواصل حتى شتاءات قادمة، فقط لأن نسمة باردة قد تذكّرني بك، وتنقذتني، ببرودة لطيفة، من لظَى نفسي حيث لا أود أن أبقى، تائهًا في قِفار أيّامي الحارِقة، وحيدًا بلاك، بلا نسمةِ شتاء باسِمة تذكّرني بك، ناسيًا، ولو لوهلة، أنني بلا رغبة ولا دافع ولا إرادة.

زر الذهاب إلى الأعلى