عباءة من جلد وعروق – ميثم بولند

مرت ساعة على تحولي.. بدأت عملية التحول بعدما فرغت من قراءة ملحمة جون ميلتون..الفردوس المفقود.. في هذه الليلة.. ليلة الحكمة.. ليلة الحماقة.. ليلة الايمان.. ليلة الجحود.. في هذه الليلة.. ليلة النور.. ليلة الظلمة.. ليلة في ربيع الامل.. ليلة في شتاء القنوط.. ليلة رسمت كل شي.. ليلة لم يكن فيها شيء.. ليلة عرجت بها الى الجنة.. ليلة هبطت فيها الى الجحيم..

إنني ابليس.. أرقص على أنغام أغنية كريس ايساك..(حبيبيتي اقترفت ذنبا عظيما – Baby Did A Bad Thing)، مستمتعًا بذيلي الجديد.. و قرنيني المتقوسين.. و سواد عيناي الحالكين.. بدأ الخُبث الدفين بالتبرعم و التولد.. من الواجب عليّ ان اكون خفيا.. و هذه هي مهمتي العظمى.. ان اكون بين الجميع و بهم.. و من دون ان يشعر بي احد.. سأبدا لياليّ المتوشّحة بالسادية.. سبعة و عشرون ليلة.. همست في اذن ذلك التافه الوضيع : ”هل تستطيع ان تتكلم بحرّية مطلقة عن النعم الربانية؟ و خصوصا عن نعمة ”حرية الاختيار“ التي خصّصت لكم يا بني البشر؟ و هل تعلم ان من يُهمل النعم يجازى بفقدها؟“.

اكتملت شيطانيتي بعد الليلة السابعة و العشرين.. أخذت دواتي و قلمي و نيف وسبعون ورقة و رحلت إلى قرية يزرع النساء فيها الحصى ليروونها بالنار.. بعدها يقمن بارضاع أطفالهن من العلقم.. وصلت إلى دار عبادة في تلك القرية.. دفنت أوراقي و قلمي و الدواة عندها.. باغتني راهب معروف بخيانته.. فسألته عن مكان قصر السلطان المتكفل بالقرية و من فيها و ما عليها.. رد الراهب : ”يا بني.. ان هذا هذا السلطان الذي تسأل عنه قد اعتزل الناس لأكثر من سبعة سنين.. اتخذ سردابا رطبًا كملجأ له.. يعمل على ملهاته العظمى.. يصنع تحفته الفنية.. نطرق بابه يوميًا.. و لا جواب.. ندعوه لقضاء حوائجنا.. يسمع و لا يلبي أحدًا.. بني.. هل تعرف الفرق بين الحب و الهوس؟“.

”لا..“.

”حسنا.. هل تعرف الفرق بين الهوس و الرغبة؟“، هززت ذيلي و رأسي نافيًا.. أشر الراهب إلى جهة الشرق بتخاذل.. اختفيت من عنده و ظهرت عند باب سرداب السلطان.. فتحته و دخلت خلسه.. سمعت قهقهته.. من ثم رأيت بأم عيني خياله الرهيب.. و خلفه امرأة فائقة الجمال.. عينيها خضراوتان و يتخللهما اللون الكستنائي.. شفتان مرسومتان برحيق زهرة جبلية نادرة.. نهديين نديين.. جلد ابيض من الثلج و يبدو لي انه انعم من ريش الطواويس.. امرأة لا يمكن لعين ان ترى غيرها.. تطمح كل النساء بان تكون بكمالها.. صرخ السلطان : ”اوفيليا..“، اختبأت بزواية مظلمة.. شهقت المرأة.. ”خذي هذه الافكار و الايديولوجيات.. ليكن لك رأي يميزك..“، تساءلت بيني و بين نفسي.. لا يمكن ان تكون الايديولوجية ذات معنى فريد و مطلق فقط.. و لكنها ايضا قد تكون كالإناء الفارغ.. قابل لاستيعاب اي معنى محتمل غير معناه الاساسي.. نفث السلطان بغبار ذهبي من كفه على انف اوفيليا البديع.. صحت و فتحت عينيها الساحرتين على اتساعهما و سجدت لخالقها.. مسح السلطان على رأسها.. ”ستكونين محبوسة هنا حتى نهاية الايام.. تقدسينني و تعبدينني..“، ظلت ساجدة حتى خرج السلطان لقضاء حاجة تخصه.. ظهرت من مخبئي و همست في أذن أوفيليا : ”هل من دواء لداء الوعي يا معبودتي؟ هل من دواء له غير صرف النظر عنه.. و دسه في طيّات النسيان؟“

قامت من سجودها و رمقتني بنظرة ساذجة.. لعبتُ بذيلي العذري.. و نامت هي على قدماي.. اكملت الهمس لها في سباتها.. فكرة خبيثة تلي اختها الاكثر منها خبثا.. سمعت صوت خطوات السلطان الثقيلة و هي تقترب.. غصت في الطين لاتوارى عن انظاره.. و ايقظت مشاعر الكره اوفيليا.. تفوّهت – و البغض واضح تجاه خالقها – لاول مرة : ”انني انكرك..“، غضب السلطان و قيّدها بسلسلة حديدية ضخمة.. و ضع قدرا اسودا على حومة بركانية لجمة.. ملأه بحديد منصهر ليضع اوفيليا فيه.. ظهرت انا.. ابليس.. من الطين اسفل السلطان.. اختل توازنه فسقط في القدر.. نعم قتلت السلطان.. فككت قيد اوفيليا و اخرجتها من السرداب.. و اختفيت بعدها.. اجتمع اهل القرية حولها.. هبطوا برؤوسهم و سجدوا لاوفيليا انبهارا بجمالها الاخاذ.. انه مولد الهة جديدة..

حفرت بالقرب من دار العبادة لاخذ قلمي و الدواة الورق.. اشعلت سيجارة و كتبت:

”سلام على الذي انهدّ جدار روحه و لم يطلب من احد ان يقيمه.. سلام على الذي اخفى ما يتقلّب في صدره و بحرقة.. سلام على الذي اقبل بابتسامة كي لا يريهم نعيّه.. سلام على الذي انزوى و اعتزل حينما جزع و صمت حيثما عزّ الكلام.. و ضحك حينما اشتعل البكاء.. سلام على الذي زرع و اجتهد و لم يكن له من الحصاد شيء.. سلام على الذي مشى ساعيا للنصر و لم يحالفه.. سلام على الذي قامت امامه حظوظ الآخرين و سقط حظه.. سلام على الذي قاوم يوما و بكى ليلا.. سلام على الذي امضى عمره يستدعي قوّته و يرجوها.. سلام على الذي سكت عنهم خشية ان يحرجهم.. على الذي كف اذاه و بلغه اذاهم.. على الذي حفظ وفاءً لهم و لم يحفظوا له وفاء.. سلام على الذي اتاهم بنوره و ذهبوا عنه تاركين له الظلام.. على الذي بقي ابيضا بين السواد.. على الطيب الرقيق.. على الذي اختار له لونا واحدا و ذيل و قرنين و خُبث يقيه من شرور العالمين.. السلام على الشامخ.. على الثابت.. على الحقيقي بين الزيف..“ الى آخر كتابي الذي اسميته ”الآلهة و المخلوقات الحديثة“.. و هو يعكس افكار جاك كيرواك.. و وليام بليك.. المهم.. نعم.. سلّمت الكتاب لأوفيليا المرتاحة على عرشها.. لتقرأه على عبادها.. سألتني و هي ترتعد : ”ماذا تفعل يا سيدي من الصباح الى المساء؟“، اجبت : ”أتحمل نفسي يا اوفيليا..“، قبّلت يدي.. فاصبحتُ بعدها في مكتبتي.. (الفردوس المفقود) ملقى الى جانبي.. رجعت إلى ماضيي الذي احاول الهرب منه.. ابكي.. و اذا بالماضي ينهار علي انا.. ابليس جون ميلتون المسكين..

نهاية بديلة.. تذكرت كلمة إدغار آلن بو بعد تحولي الشيطاني:

”مقتل امرأة جميلة هو – و بدون أية تساؤل – اكثر الأمور شاعرية في العالم..“.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى