إلى يد – فرناندو بيسوا – ترجمة:عبدالله حمدان الناصر

هات يدك.
سأرى بعيوني الجريحة أسرار تلك اليد.
يا له من عالم آمالٍ وأحاسيس
يا له من عالمٍ من شكوك وأوجاع يستلقي في يدك.
وأفكر أن هذه اليد هي سر الأسرار.

في هذه اليد معنى لا نعرفه.
معنى أكثر عمقاً من مخاوف المرء.
هذه اليد ربما عاشت قبلك
ربما مسحتْ دموعاً غريبة وغير طبيعية منذ الأزل.
ربما كانت إيماءاتها مليئة بالسخرية، وانقباضها معجوناً بألم سحيق.

ثمة شيء لا أعرفه في يدك تحلم به الروح،
وثمة أيضاً ظلال غامضة تتلبس العقل
في يدك تعوي الريح وتجري المياه
في يدك تجري المياه وتعوي الريح
في يدك أشياء داخل الأشياء
وكل ما هو فظيع وغير محدد

حين أنظر إلى يدك يمتلئ عقلي بأفكار وذكريات أكثر عمقاً من الشِعر.
يدك جانب من الحياة العميقة لروحي
لقد عرفتُ يدك قبل أن يولد الوقت
وأعلم أنها في زمنٍ قديم
قادتني إلى القتل

رأيتُ في يدك عالماً من تنهدات وخوف وأوجاع
رأيتُ حُباً كان من الأجدى أن يكون كراهية
ورأيتُ حروباً وجرائم وانتصارات
وسقوطاً مؤلماً للعديد من الدول
كل ذلك وأكثر تكشّف للروح
في يدك التي تشبه صلاة غامضة
وحروباً صغيرة تندلع داخل قلعة في الليل

في ممرات يدك، حيث يفقد الفنان جنونه، ويستعيد العبيد عيونهم، أصابتني رعشة الفرح، واحتلني كل الخوف الذي لا يمكن لعقل تصوره، حين تخيلتُ شفتي تُقبّلُ فراغ يدك السرمدي.

يدك المعنى الذي لا يصل إليه أحد
المعنى الأكثر عمقاً من مخاوف المرء
في يدك شيء من البحر والمواسم والشهور
في يدك ما يشبه لمعة الشمس، واللون السري للدمع
وليدك: هيئة الألم.

**************
كانت يدك فيما مضى منزلاً فارغاً في المرتفعات
لهذا تعرف يدك كل الأفكار التي تطوف في الكون.
يدك قلادة من لؤلؤ، وبرج منيع داخل قلعة.
يدك الموسيقى العميقة الخالدة
التي نوّمتْ روحي قبل أن أولد
في قصر عتيق ذي قبة غامضة

**************

يا للدقة التي صُنعتْ بها يدك
بأصابعها الرفيعة المستدقة البيضاء
بدفئها الشاحب الممزوج بالنعومة
وكأن في يدك شيئاً من الليل والنهار!
لو أنني فقط
أستطيع بشكل صحيح
قراءة النص الإلهي العميق النائم أمامي
في تلك اليد
**************
فوق يدك تنوس حقيقة ثابتة
مثلما يلوح نقشُ في لوحٍ قديم
وكأن يدك فكرةُ دفنتْ أنيابها في جهةٍ مجهولة من الروح
كأن يدك جرسُ يدق في مكانٍ سري لا يمكن الوصول إليه
وقلبي يئنّ مثل حيوان
كلما أصابه الرنين
**************
هناك شيء وحشيٌ وجديد وغير واقعي في يدك
نظرتي تتألم داخل يدك
لأن ليدك عيوناً تبصر كل المخاوف التي في الأرض
وكأن هناك شخصاً يكمن في يدك
يقطف الفزع كما تفعل قبضة قاتل
وحين أضع يدي داخل يدك
لا أستطيع فهم الشيء الأبدي الذي أشعر به
ولا كيف يلف شريط عقلي بجنون، وكأننا سنلمس الخلود

**************
لا يد في يدك!
لكن من أين تتسلل لي هذه الفكرة المريعة عن يدك؟
ثمة ما هو أكثر من اليد في يدك
حتى إنني حين أرى يدك
أرى تلك الأشياء المحذوفة التي تكمن بشكل مربك بين الحواس والأشياء

**************
مباشرةً، بلا عينين ولا حواس
هاجسي يرى يدك
وأمام يدك يتهدم العقل
فينشأ فيّ خوفٌ مكللٌ بوجعٍ سعيد
خوفٌ يجعل اللاوعي مستيقظاً
وأحلامي خاليةً من أيدي الناس
**************
وأحدق أكثر في تلك اليد
أنفض عني حلم الزمان وحلم المكان
وأحلم بالغرائب مثل غريق يرى كل شيء
ثمة شيء فاتنٌ وحشيٌ ووديع
شيء لا أستطيع الإمساك به في يدك.
وخوفاً من أن تلتهمني فكرة النار
أكتفي بنظرة خاطفة حين تنفرج بوابة يدك
فأرى المطلق بلمحة واحدة
لكن البوابة الصامتة ليدك تُفتح مرة أخرى
وتنفرج بشكل مفاجئ
عن جنة مرعبة.

يدك كالموسيقى
بها أتجاوز مرارة الألم وضراوة الخوف.

كل الأشياء تحدج عقلي بنظرة غامضة
حين أحدق في يدك
لكن يدك السكرى بصمتها الغامض الطويل
يدك التي تتجاوز المحبة والحواس
يدك المكتظة بأفكار تجعل الروح عمياء
تأخذ بيدي إلى النسيان

**************
أين هي الروح التي تشف عنها يدك وتجعلها محروسة بالخوف؟
أية أجراس في كلمة (يد) يسافر رنينها إلى المستحيل
ما الذي يملأ الليالي ببروق اليدين
كي يتخثر في دمنا الذهول؟

**************
أبعدوا هذه اليد كي أستطيع أن أحلم:
ببلادٍ غريبة، تُسقى بأنهارٍ مؤلمة، أمواجها أيدٍ وضفافها أيدٍ
بحدائق تنبت في أشجارها أيدٍ بدلاً من الأوراق
ويدٍ بيضاء قوية تحجب الشمس.
أبعدوا هذه اليد:
كي أحلم بجيوش من الأيدي المدججة باللمسة والعطر والصوت
جيوش لا يمكن هزيمتها
ولا تفقد شكلها المنتظم مهما أسرعت
جيوش تبهر بتشكيلاتها البصر
وتمزج الرقص بالعواء.

**************
لكن يا له من رعب عظيم!
لقد صارت تلك الأيدي المحلومة حقيقية
وبدأت تتلوى وتتشنج وتقبض بضراوة
فنقضتْ كل ما نسجتُ من أفكار!
وشعرت روحي برغبة في التقيّؤِ من شدة الخوف.
أما ما تلا ذلك فلا أستطيع البوح به
لكن بدا الأمر كما لو أنني ركضت وحيداً كمجنون في غابات شاسعة تحترق
وبدت صرخة العابر المجنون بالنسبة لتلك اليد
كما يبدو الليل بالنسبة للنهار
أو كما يبدو ظهور مهرج في موكب جنائزي مهيب.

*كتبت هذه القصيدة باللغة الإنجليزية في يناير 1906 باسم اليكساندر سيرش وهو أحد الأنداد الشعريين الذين اخترعهم الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا (1888-1935)، ونشرت القصيدة لأول مرة عام 2014 بواسطة نونو ريبيرو وكلوديا سوزا في (كتاب التحول/ كتاب المهام).
————————–
**المترجم: عبدالله حمدان الناصر.
– شاعر ومترجم سعودي. دكتوراه الفلسفة من جامعة مانشستر بالمملكة المتحدة. صدر له مجموعة (جثث في ثياب الخروج) عن دار الفارابي-2012 ، ويصدر له قريباً كتاب مترجم بعنوان (ملك الفجوات- شذرات فيرناندو بيسوا).

تعليق واحد

  1. تقاطع كبير بين القصيدة وبين رواية خوسيه سارماغو ( سنة موت ريكاردو ريس ) .
    عشيقة ريكاردو ريس واسمها ميرساندا، تعاني من إعاقة في اليد اليسرى.
    علما أن القصيدة لا توحي بالإعاقة في اليد.
    ريكاردو ريس هو أحد وجوه أو أقنعة فرناندو بيسوا . وتتخيل الرواية عودته إلى البرتغال بعد وفاة بيسوا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى