فلنؤمن بحلول الفصل البارد – فروغ فرخزاد – ترجمة: ناطق عزيز وأحمد عبد الحسين

وهذه أنا‏

امرأة وحيدة‏

على عتبة الفصل البارد،‏

في بدء إدراك الوجود الملوث بالأرض‏

ويأس السماء البسيط الحزين‏

وعجز تلك الأيدي الإسمنتية.‏

 

مضى الزمن‏

مضى الزمن ودقّت الساعة أربع مرات‏

دقت أربع مرات‏

اليوم أول شهر دي(1)‏

أنا أعرف سرّ الفصول‏

وأفهم كلام اللحظات.‏

المنقذ يرقد في لحده‏

والتراب، التراب المضياف‏

علامة السكينة.‏

 

مضى الزمن ودقت الساعة أربع مرات‏

تأتي الريح في الزقاق‏

تأتي الريح في الزقاق‏

وأنا أفكر باقتران الزهور‏

وبالبراعم ذات السيقان النحيلة، فقيرة الدم‏

وبهذا الزمن المتعب المسلول‏

والرجل العابر من جنب الأشجار الرطبة‏

الرجل الذي حبال شرايينه الزرق‏

كالأفاعي الميتة، تزحف من طَرَفِيْ حلقومه‏

إلى الأعلى، وبصدغيه الهائجين يكرّر ذلك‏

اللفظَ المدمى:‏

 

ـ سلاماً‏

ـ سلاماً‏

وأنا أفكر باقتران الزهور.‏

 

على عتبة الفصل البارد.‏

في محفل عزاء المرايا‏

والحشد المعزي لتجارب باهتة اللون‏

وهذا الغروب اليانع بحكمة الصمت‏

وهذا الذي يعبر هكذا‏

صبوراً وقوراً‏

حائراً‏

كيف يؤمر بالوقوف؟‏

كيف يقال له: أنت لست حياً؟‏

إنه لم يكن حياً أبداً.‏

تأتي الريح في الزقاق‏

غربان العزلة، وحيدة‏

تدور في الحدائق الشائخة الكسلى‏

والسلّم… يالارتفاعه الحقير.‏

لقد أخذوا معهم كلَّ صفاء القلب‏

إلى قصر الحكايات‏

والآن، مرة أخرى،‏

مرة أخرى كيف ينهض شخص إلى الرقص‏

ويحلّ ضفائر طفولته في الماء الجاري،‏

والتفاحة التي اقتُطِفَتْ في النهاية‏

وشُمّتْ‏

ستدحرجها الأقدام.‏

حبيبي يا حبيبي الأوحد‏

 

كم من غمامة سوداء تنتظر يوم ضيافة الشمس‏

كأنها في مسير على هيئة التحليق‏

يومَ تجلّى ذلك الطائر‏

كما لو من الخطوط الخضراء للتخيّل،‏

هذه المستنقعات الجديدة التي تستنشق شهوةَ النسيم‏

كأنما الشعلة‏

الشعلة البنفسجية التي تلتهب في ذهن النوافذ الطاهر‏

لم تكن سوى صورة بريئة للمصباح.‏

تأتي الريح في الزقاق‏

هذا أول الانهدام‏

يومها أيضاً عندما انهدمتْ يداك، هبّت الريح.‏

أيتها النجوم العزيزة‏

أيتها النجوم الورقية العزيزة‏

عندما يعصف الكذبُ بالسماء،‏

كيف اللجوء إلى سُوَر الأنبياء الخجلين؟‏

نحن مثل موتى آلاف آلاف السنين‏

سنلتقي‏

وعندها ستحكم الشمس على أجسادنا بالفساد.‏

بردانة أنا وكأني لن أدفأ أبداً‏

حبيبي، يا حبيبي الأوحد كم هو عمر هذا النبيذ.‏

أنظرْ فهنا ما أثقل الزمن‏

وكيف الأسماك تمضغ لحمنا‏

لمَ، دائماً ، تتركني في قعر البحر؟‏

بردانة أنا وبي ضيق من الأقراط الصدفية‏

بردانة وأعرف‏

أن من بين كل الأوهام الحمر الوحشية للشقائق‏

لن يتبقّى سوى‏

بضع قطرات من الدم‏

سأهجر الخطوط‏

سأهجر عدّ الأرقام‏

ومن الأشكال الهندسية الضيقة‏

سألجأ لمساحة الحس الواسعة‏

أنا عارية، عارية، عارية،‏

عارية كالصمت بين كلامي عن الحب‏

وجروحي كلها بسبب الحب‏

الحب، الحب، الحب،‏

أنا التي أنقذتُ تلك الجزيرة من انقلاب المحيط‏

وانفجار الجبل‏

ومن فناء سرّ ذلك الوجود المتحد‏

الذي وُلدت الشمس من أحقر ذراته.‏

سلاماً أيها الليل المعصوم‏

سلاماً أيها الليل، يا من تستبدل عيون ذئاب‏

الصحراء‏

بحُفَر من عظام الإيمان والثقة،‏

وعلى ضفاف أنهارك، ثمة أرواح الصفصاف‏

تشمُّ أرواح الفأس الرؤوم.‏

 

أنا آتية من عالم تستوي فيه الأفكار والكلام والأصوات‏

عالم مثل جحر الأفاعي‏

عالم مليء بأصوات أقدام أناس‏

في لحظة تقبيلهم إيّاك‏

ينسجون في أذهانهم حبل إعدامك.‏

سلاماً أيها الليل المعصوم‏

بين النوافذ والرؤية‏

دائماً ثمة فاصلة‏

لِمَ لمْ أنظرْ؟‏

مثل الزمن الذي عبر فيه رجل من جنب الأشجار الرطبة..‏

لِمَ لمْ أنظر؟‏

كأن أمي بكت تلك الليلة‏

تلك الليلة التي بلغت فيها وجعي‏

وانعقدت النطفة‏

تلك الليلة غدوت عروس عناقيد الأكاسيا‏

تلك الليلة كانت أصفهان ملأى بإيقاع البلاط الأزرق‏

وهذا الذي كان نصفي عاد إلى نطفتي‏

وأنا أراه في المرآة‏

كالمرآة طاهراً ومضيئاً‏

ناداني‏

فصرت عروس عناقيد الأكاسيا.‏

 

 

كأن أمي بكت تلك الليلة‏

ياللضياء العبثي المتلصص في تلك الكوّة الموصدة‏

لِمَ لمْ أنظر؟‏

كلّ لحظات السعادة تعرف‏

أن يديك ستنهدمان‏

وأنا لمْ أنظر‏

إلى أن انفتحتْ نافذة الساعة‏

وغرّد الكناري الحزين أربع مرات‏

غرد أربع مرات‏

والتقيتُ بتلك المرأة الصغيرة‏

التي كانت عيناها مثل عشين خاويين‏

من السيمرغ(2)‏

وكانت تروح هازّةً فخذيها‏

كأنها تقود بكارة أحلامي العظيمة إلى سرير الليل.‏

ترى هل سأمشط ضفائري في الهواء ثانية؟‏

ترى هل سأزرع البنفسج في الحدائق ثانية؟‏

وهل سأضع الشمعدانات في المساء وراء النافذة؟‏

هل سأرقص فوق الكؤوس ثانية؟‏

وهل سيأخذني جرس الباب ـ مرة أخرى ـ إلى‏

انتظار الصوت‏

قلت لأمي: أخيراً انتهى

قلت: دائماً قبل أن تفكري يقع الحادث.‏

يجب أن نبعث التعازي إلى الصحيفة. 

الإنسان الأجوف‏

الإنسان الأجوف ممتلئ بالثقة.‏

أنظرْ، كيف، عند المضغ، أسنانه تقرأ النشيد،‏

وعيناه، حين يحدّق تمزّقان.‏

أما ذلك، فهو يعبر من جنب الأشجار‏

صبوراً‏

وقوراً‏

حيران‏

في الساعة الرابعة‏

في اللحظة التي كانت حبال شرايينه‏

كالأفاعي الميتة من طرفي حلقومه إلى الأعلى،‏

وبصدغيه الهائجين يكرر ذلك اللفظ المدمى:‏

ـ سلاماً‎‏

ـ سلاماً‎‏

وأنت…‏

ترى هل شممتَ يوماً‏

الشقائق الأربع الزرقاء…؟‏

مضى الزمن‏

مضى الزمن وأرخى الليل سدوله على أغصانِ‏

الأكاسيا العارية،‏

الليل يتزحلق على زجاج النافذة،‏

وبلسانه البارد‏

يمتص إلى داخله ما تبقى من اليوم الذاهب‏

من أين أتيت أنا؟‏

من أين أتيت أنا؟‏

هكذا مدهونة برائحة الليل؟‏

لمْ يزلْ تراب ضريحه طريّاً‏

أعني ضريح تينك اليدين الخضراوين الفتيتين.‏

كم كنتَ رحيماً أيها الحبيب ـ يا حبيبي الأوحد.‏

كم كنتَ رحيماً عندما تكذب‏

كم كنتَ رحيماً عندما تغلق جفون المرايا‏

وتقتلع القناديل من سيقانها السلكية‏

وفي الظلام الظالم تأخذني إلى مراتع الحب‏

إلى أن يجلس ذلك البخار الدائخ من حريق العطش‏

على مرج النوم.‏

تلك النجوم الورقية‏

تدور على اللامنتهى‏

لماذا قالوا الكلام بالصوت؟‏

لماذا استظافوا النظر ببيت الملتقى؟‏

لماذا أخذوا الرغبة إلى حياء الضفائر العذرية؟‏

انظرْ‏

كيف يحيا ذلك الشخص الذي يتكلم بالكلام‏

ويعزف بالنظر‏

وبرغبة الرهبة نام مصلوباً على أعمدة الوهم‏

وكيف بقي على خدّه‏

أثر أغصان أناملك الخمس‏

التي تشبه الحروف الخمسة للحقيقة‏

ما هو الصمت، ما هو، ما هو يا حبيبي الأوحد؟‏

ما الصمت سوى كلام لم يُتَكلّمْ به.‏

أنا أتأخر عن الكلام، لكنْ لغة العصافير.‏

لغة الحياة، جُمَل فرح الطبيعة الجارية،‏

لغة العصافير، تعني: الربيع، الأوراق، الربيع.‏

لغة العصافير، تعني: النسيم، العطر، النسيم.‏

لغة العصافير، تموت في المصنع.‏

مَنْ هذا، هذا السائر على جادّة الأبدية‏

نحو لحظة التوحيد‏

يوقّتُ ساعة الأزلية مع منطق رياضيات التكامل والتفاضل؟‏

مَنْ هذا‏

هذا الذي لا يرى في صياح الديكة‏

بداية قلب اليوم‏

بل بداية رائحة الإفطار؟‏

من هذا الذي على رأس تاج الحب‏

يتفسخ في ثياب الزفاف؟‏

وأخيراً لم تشرق الشمس على القطبين اليائسيين‏

في زمن واحد،‏

أنت خلوتَ من إيقاع البلاط الأزرق‏

وأنا ـ لفرط امتلائي ـ على صوتي يصلّون…‏

الجنائز السعيدة‏

الجنائز الملول‏

الجنائز الصامتة المتأملة‏

الجنائز المرخيِّة، الأنيقة ، الأكولة في‏

محطات الأوقات المحددة،‏

وفي قاع الأنوار المقرَّرة الضبابية‏

وشهوة شراء فاكهة اللاجدوى العفنة.‏

آه….‏

كمْ من الناس في تقاطعات الطرق‏

تقلقهم الحوادث‏

وأصوات صفارات الوقوف‏

في اللحظـة الـتي يجب‏

يجب‏

يجب‏

أن يُسحق رجل تحت عجلات الزمن،‏

ذلك الرجل العابر من جنب الأشجار الرطبة،‏

من أين أتيتُ أنا؟‏

قلتُ لأمي: لقد انتهى.‏

قلت: دائماً قبل أن تفكري، يقع الحادث،‏

يجب أن نبعث التعازي إلى الصحيفة

سلاماً يا غرابة العزلة.‏

أستودعك الغرفةَ.‏

لأن الغمام القاتم رسول آيات‏

التطهير الجديدة،‏

وفي استشهاد الشمعة‏

سرٌّ مضيء يعرف أنها آخر وأطول شعلة.‏

بعدك التجأنا إلى المقابر‏

والموت يتشمم تحت عباءة جدتي‏

الموت ـ هذه الشجرة العظيمة‏

الأحياء ـ في المبتدأ- يستغيثون بأغصانها الملولة‏

والأموات ـ في المنتهى ـ يتشبثون بجذورها الفسفورية.‏

والموت جالس على الضريح المقدس‏

في زواياه الأربع، وفي لحظة واحدة‏

أضاءت أربع شقائق زرق…‏

فلنؤمنْ‏

فلنؤمنْ بحلول الفصل البارد‏

فلنؤمنْ بحطام حدائق التخيّل‏

وبالمناجل المقلوبة العاطلة‏

والبذور السجينة‏

أنظر…ياللثلج الهاطل‏

لعلّ الحقيقة كانت تينك اليدين الفتيتين،‏

تينك اليدين الفتيتين‏

اللتين دُفنتا تحت هطول الثلج المديد.‏

في العام القادم‏

حين يضاجع الربيعُ السماءَ‏

وراء النافذة‏

ويغليان ملتحمين،‏

النوافير الخضر ـ السيقان الخفيفة‏

سوف تزهر يا حبيبي‏

يا حبيبي الأوحد.‏

فلنؤمن بحلول الفصل البارد.‏

______________

(1) ذي: الشهر العاشر في السنة الإيرانية ويقابله الكانونان من السنة الميلادية.‏

(2) السيمرغ: طائر أسطوري معناه بالفارسية الثلاثين طائراً، استخدمه الصوفية رمزاً دالاً على الذات الإلهية، كما في كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار.‏

 

*نص: فروغ فرخزاد 
*ترجمة: ناطق عزيز – أحمد عبد الحسين

زر الذهاب إلى الأعلى