فلسفة العود الأبدي في فيلم “سولاريس” للمخرج الروسي آندريه تاركوفسكي – أوس حسن

يعتبر المخرج الروسي آندريه تاركوفسكي شاعر السينما والصورة بامتياز،وتتسم أفلامه برمزية عالية وكثافة في المعنى ،إضافة لاعتماده على اللقطة الطويلة في أفلامه والمشاهد الصامتة الباعثة على التأمل والتفكير ، تتميز أفلام تاركوفسكي أيضا بعدم اعتمادها على الحبكة الدرامية التقليدية وتفردها بعنصري الإيقاع والزمن إضافة لوجود فكرة عليا نابعة من تمازج مذاهب فلسفية تؤكد على إشكالية الهم الإنساني العميق وصراعه في هذا الوجود المتناقض والمرعب.

سولاريس ..1972 فيلم مقتبس من رواية للكاتب البولندي ستناسيلاف ليم

تدور أحداث الفيلم حول عالم النفس كريس كلفن الذي يكلف بمهمة إرساله إلى محطة فضائية تدور حول كوكب تم اكتشافه حديثا يدعى سولاريس،يظهر الكوكب وكأن له سطحا سائلا ويتخذ أشكالا وهيئات بشرية مختلفة،يرسل كيلفن للتحقيق في أسباب وفاة الطبيب “جيربيان”، الذي مات منتحرا ومخلفا ً رسالة يشرح فيها هذه الأحداث والظواهر الغريبة على سطح هذا الكوكب.يتفاجأ كيلفن بالتصرفات والسلوكيات الغريبة لأفراد طاقم الفضاء وهذياناتهم وما يرافقها من أحداث غامضة وعبثية،ويصاب بحالة من الاضطراب النفسي تجعله فريسة للهذيان والهستيريا،فيشك بوجوده ككيان مادي وحسي،عندما يرى زوجته هاري المتوفاة قبل سبع سنوات ويعيش معها اليوميات والتفاصيل الدقيقة مع أفراد طاقم الفضاء، لنتبين فيما بعد أن سولاريس هي رحلة إلى أقصى المناطق عمقا في الذاكرة البشرية،أو مكان لامتناهي في كون يعيد تكوين نفسه،فهو قادر على استخضار أي كائن حي عن طريق الهواجس والذكريات والرغبات المكبوتة وفيه تجسيد رمزي لفكرة المثالية التي ترى أن العالم موجود في أفكارنا وتصوراتنا فقط ،وهناك حضور وتأكيد على الحرية المرتبطة بالإدراك العميق لجوهر الذات،وعلى صراع التناقضات كالخير والشر ..السعادة والبؤس ..العلم والأخلاق ..الحقيقة والوهم..القلق الوجودي النابع من العدم المطلق ..والبحث عن مسار حتمي لخلود النفس البشرية .
استخدم آندريه تاركوفسكي في السيناريو لغة نابعة من اللاوعي يمكن أن يتكلم بها النائم في حلمه،إضافة إلى براعة استخدامه للكاميرا وزواياها في التركيز على الأشياء الدقيقة من خلال المشاهد الطويلة والخطاب البصري المؤثر وهي بحد ذاتها رموز عميقة يراها أي شخص في أحلامه . بعد كل هذا المشاهد والأحداث النفسية الأليمة التي يمر بها كيلفن أثناء فترة إقامته في المحطة الفضائية “سولاريس”،يعود مرة أخرى إلى الأرض هناك حيث الكوخ والشجيرات الملتفة حوله وأناشيد الطيور وسكون البحيرة المطلق؛يرى أن والده في البيت وما زال في انتظاره ( الطبيعة وعناصرها تعاود الظهور مجددا كما في المشهد الأول من الفيلم).

كلما زاد تركيزنا في أحداث فيلم سولاريس ولغته الغريبة؛سنشعر أننا مسافرين عبر الزمن وسنلتقي بأنفسنا في أمكنة وأزمنة مختلفة،ستتراءى لنا أيضاً فكرة العود الأبدي بدلالاتها ورموزها الساحرة،والتي تطرق إليها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كتابه”هكذا تكلم زاردشت”،ولهذه الفكرة جذور قديمة في الأساطير الهندية المقدسة حول الأبدية والخلود وإمكانية التقاء الماضي بالمستقبل في نقطة مركزية هي الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى