ليلة في ليما – فرناندو بيسوا

79640622 7B1F 4FBA 8BE4 16FD85420B7D ليلة في ليما - فرناندو بيسوا

ألاّ تحوز هنا في دُرج،
ألاّ تحوز هنا في جيب،
مختوما، متبلورا، مكتملا،
هذا المشهد كله.
ألاّ تتمكن من أن تنتزع
من الفضاء، الوقت، الحياة
و أن تحتجز
في مكان ما
من الروح حيث ستبقى مذخرة
للأبد
حية، ساخنة،
هذه الصالة، هذه الساعة،
العائلة بأسرها، السلام و الموسيقى هناك
لكن حقيقية كما لا تزال تتواجد في المكان
حتى هذه اللحظة
عندما كنت ماما، ماما، تعزفين
ذات ليلة في ليما.

أين مكمن الساعة، البيت، الحب؟
عندما كنت تعزفين ماما
ذات ليلة في ليما؟
و في زاوية من المقعد المريح
أختي،
صغيرة و منطوية،
لا أعرف إن كانت نائمة أم لا.

و على الرغم من الدموع، لا تخطئ
الذاكرة التي أحملها
خط الميدالية الرفيع
لهذه الجانبية الأكثر من رفيعة
قلبي، فيما يتذكرك، رومانية و رمادية فعلا
يبكي، قلبي الذي لك دائما، و الذي دائما طفلا
أرى أصابعك على لوح البيانو و ثمة
ضوء قمر بالخارج للأبد بداخلي،
أنت تعزفين على قلبي، بلا نهاية،
ذات ليلة في ليما.

لكن حبك كان يطفو على كل شيء.

الصمت الفادح للأشياء المنتهية
يداك الصغيرتان و الجميلتان جدا
في براعة متهللة و مألوفة
في ابتسامة لا تسع شيئا
سوى سرمدية الإنسان
كنت تسحبين السكينة من البيانو
ذات ليلة في ليما.

لم أكن أعرف وقتها أنني كنت سعيدا.
اليوم بعد أن لم أعد الذي أنا، أعرف جيدا أنني كنته.

“هل نام الصغار على الفور؟
– لكن أجل، لقد ناموا على الفور.
– هذه تقريبا نائمة.”
فيما أنت مبتسما و متجاوبا تكمل
ما كنت تلعب –
كنت تعزفين بتأنّ
ذات ليلة في ليما.

كل ما كنت عندما لم أكن شيئا
كل ما أحببت و الذي لا أعرف حقا
أنني أحببته إلا من انسداد الطريق اليوم
إلى أدنى تحقق
من فراغ يدي إلا من لوعة الصوداد –

كل هذا يعيش داخلي
عبر الأضواء، الموسيقى، و رؤيا
لا تتناهى
من هذه الساعة الأبدية في قلبي،
التي كنت تقلبين فيها
الصفحة الخيالية للموسيقى الملعوبة
بينما أنا أنصت إليك، و أراك
تتابعين
اللحن الأبدي
المتواجد
في العمق الأبدي لهذا الحنين إلى الماضي
عندما كنت أمي، تعزفين
ذات ليلة في ليما.

“هذه أيضا مستغرقة في النوم…
– لا إنها ليست نائمة. ”
ثم أخذنا جميعا نبتسم
و بشرود تابعت
الاستماع في ضوء القمر
الذي يشع في الخارج عنيفا و مفردا،
ما جعلني أحلم من دون انتباه،
ما أحلم به اليوم من أسفي على نفسي،
هذه الترنيمة من دون صوت، مختومة و هادئة
التي كانت أمي تعزفها –
ذات ليلة في ليما
ذات ليلة في ليما.

أنا كنت كثيرا من الأشياء الدنيئة
خنت كثيرا ما أنا
الروح الظمآنة
لهذا الجدلي المثالي الذي أنا
لطالما تمادت في التوهان
لطالما أجمعت المشاعر جميعها
على خداعي –

لأنني لا أملك مآوى
دعيني آوي
إلى رؤيا
هذا المنزل القديم،
دعيني أتابع الاستماع بلا انقطاع –
أنا في النافذة
من المكان الذي لا نتوقف فيه عن الشعور،
في الصالون، صالوننا، الدافئ
من إفريقيا المترامية حيث يكون ضوء القمر
في الخارج فسيحا و لامباليا،
ليس ثمة شر و لا خير
و أين إذاً، في قلبي
ماما، ماما،
تعزفين بشكل مرئي
تعزفين إلى الأبد
ذات ليلة في ليما.

أمي كانت تجلس على البيانو
و تعزف…
بإمعان.
ذات ليلة في ليما.
إلهي، إنه بعيد جدا، بائد جدا، كل هذا !

ماذا عن صوتها المضياف باستمرار!
ماذا عن ابتسامتها المتماسكة الدافئة !
ما يحدث اليوم
و الذي ينمنح للذكرى؛ أنني أستمع الآن
ذات ليلة في ليما
التي تذاع على الراديو
هذا اللحن، الذي لنا، ملكنا،
ليس سوى.. ذات ليلة في ليما
خصلات شعرها الرمادي كانت جميلة للغاية
تحت الأضواء
و أنا الذي لم يكن يفكر يوما أني سأفقدها
و تتركني رهينة لما أنا
ها قد رحلت، غير أني دائما طفلها.
لا أحد يصير رجلا في عين أمه.

ينبعث الصوت من الراديو
متلكئا بلا داع في إعطاء الخبر:
“و الآن
ذات ليلة في ليما”…
أتوقف عن الابتسام…
يتوقف قلبي…

و فجأة
هذه الأغنية المحبوبة و الملعونة
تتدفق من الآلة الجامدة…
في ذاكرة فجائية و فورية
تاهت روحي
ضوء قمر إفريقيا الفسيح يُغرق
تلالا تكسوها الأشجار في بياض نقي

كان الصالون في منزلنا فسيحا، و موجها
من حيثما يمتد، حتى البحر، كل شيء ينفتح
على الهالة السوداء للقمر العملاق…
لكن أنا فقط، في النافذة.

و في هذا الدفء،
في هذه السعادة،
حيث كان ثمة روح
(إلهي، ما أقسى هذا الصوداد !)
حيث تحت الضوء الذهبي
(أين ذهب اليوم كل هذا؟)
بعيدا عن المكان الذي كان فيه القمر فضيا،
كانت أمي تعزف،
ميداليةً متأنية و إنسانية على البيانو،
ذات ليلة في ليما.

منذ ذلك الوقت
عبرتُ
كثيرا من الحيوات،
معظم الأوقات متاهاتٍ.
قلبي
ينوء بالأشياء المتروكة.
كم مضى من الوقت،
في عذوبة رغد منزلنا القديم، و أنا
في النافذة، أنصت، حالما متسمرّا،
منفردا، خفيا،
ما الذي تحوي
كل هذه الموسيقى الحسية و الفطرية،
كل ما تركته يتلاشى
في قلب من رغبت أن أكون،
كل ما تركت ورائي،
فقط لمجرد التفكير فيه،
كل ما كان، كل ما كان
بالنسبة لي مجرد حلم،
السحر
البهيج بصورة محزنة
لأني حلمته،
من يدري ما إذا كان هذا الصوداد
الذي تحول إلى حلم نصف إنساني
من بين كل ما في هذه الليلة يوجد،
بعيدا، حيث كنتِ ماما الصغيرة، على البيانو
تعزفين، تحت فيضان ضوء القمر
ذات ليلة في ليما.

زوج أمي
( أي رجل ! أي روح ! أي قلب !)
يتكئ بجسده الممتلئ كرياضي معافى يستريح،
على المقعد الكبير
فيما يستمع، مدخنا و حالما،
و عيونه الزرقاء انمحى أزرقها
و أمي، طفلة،
في زاوية مقعدها المريح،
ملفوفة، تستمع نائمة،
و مبتسمة…
كان ثمة عزف في مكان ما
ربما كانت رقصة…

فيما أنا، واقف، أمام النافذة،
رأيت كل ضوء قمر أفريقيا كلها يُغرق
مشهد حلمي.

أين مضى كل هذا؟
ذات ليلة في ليما.
فلتنفطر يا قلبي.

إنها محطة إذاعة لامبالية
من خلال آلة جامدة
في الموسيقى، في الموسيقى فقط، منحتني
القلق العميق الذي يراودني
عند رؤيتك، لأنني أتذكر
ماماي، ماماي،
الهادئة جدا، تعزف
ذات ليلة في ليما.

بيد أني أشعر بغيبوبة
لا أعرف إذا ما كنت أرى، أم أنني نائم،
لا أعرف ما إذا كنت أتذكر، أم أنني أنسى،
ثمة ما يشبه الغموض، يتدفق،
بين الذي أنا و من كنتُ،
مثلما نهر، أو ريح، أو حلم،
شيء ما لامتوقع أجهله تماما
يتعطل بغتة
ثم، من القاع حيث يتلاشى،
ينبعث، أكثر وضوحا دائما،
في هالة من الصفاء
و الحنين،
حيث لا يزال قلبي قائما…
البيانو، صورة العازفة، الصوداد،
أنام مستندا إلى هذه المعزوفة –
و أسمع أمي، تعزف،
أسمع، ملح الدموع في الفم يسبقني،
ذات ليلة في ليما.

برقع الدموع لا يعمي.
أنا أرى، فيما أبكي،
ما تعيده لي الموسيقى –
الأم التي كانت لي، المنزل القديم،
الطفل الذي كنت،
رعب الزمن، لأنه يمضي،
رعب الحياة، التي ليست سوى قتل،
أنا أرى و أغفو،
في غيبوبة حيث أنسى،
أنني ما زلت موجودا في هذا العالم…
أشاهد أمي تعزف.
و هذه الأيادي البيضاء، الصغيرة،
التي لن تداعبني أبدا لمستها،
تعزف على البيانو، متفانية و هادئة،
ذات ليلة في ليما.

آه، أنا أرى كل شيء بوضوح
أنا مرة أخرى هناك.
عن الضوء الشحيح للقمر في الخارج أشيح
بعيوني التي رأت.

لكن ماذا؟ أنا أهذي فيما توقفت الموسيقى …
أهذي كما كنت هاذيا دائما
من دون التحقق من أنا في أعماق روحي
من دون إيمان حقيقي أو قانون ثابت.

أهذي، أخلق أبديات تخصني وحدي،
في أفيون من الذاكرة و الهجر،
أنصّب ملكات رائعة،
دون أن أكون قادرا على تتويجهن.

أحلم لأنني أستحم
في النهر المتخيل للموسيقى السابقة،
روحي طفلة ترتدي خرقا
و تنام في زاوية مظلمة.
لا أملك مني
في صرامة الواقع الفعلي
سوى رثاثة روحي المهجورة،
و رأسي الذي لا يزال يحلم مقابل الحائط
أمي، أليس بالإمكان وجود
إله يحول دون أن يصير كل شيء باطلا،
عالم آخر حيث يستمر كل هذا في الوجود؟
ما زلت أهذي: وهم كل شيء…
ذات ليلة في ليما.

انفطرْ يا قلبي…

ترجمتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى