مارك ستراند – البَاصُ الأخير

(ريودي جانيرو، 1966)

*

الظَّلام.

مطرٌ خفيفٌ

يبلّلُ الشوارعَ.

لا شيءَ يتحرَّكُ

.

في حديقةِ لوتا

تتدلّى أشجارُ النّخيلِ

فوق العشبِ المجدولِ،

والأغصانُ المتشابكةُ،

.

المحزَّمةُ في رُزَمٍ،

تتموَّجُ بجوارِ الأرصفةِ.

العالمُ بعيدُ المَنال.

أشباحُ السابحينَ تنهضُ

.

ببطءٍ من الزَّبد

وترتفعُ عالياً في الرَّذاذ.

يتنزَّهونَ على الشّاطئِ

وعيونُهم تتوهّجُ

.

كالنّجومِ.

ورِيُو تنامُ: البحرُ حلمٌ

فيه تموتُ وتولدُ من جديد.

.

يسرعُ الباصُ.

تذوبُ غيمةٌ بنفسجيّةٌ

من خلْفِه

ساقايَ ترتجفان.

.

تمتلئُ رئتايَ بالبُخارِ.

يغطّي العرقُ وجْهي

ويتساقطُ على صَدْري.

يؤلمني عُنقي وكتفايَ.

.

غيرَ واثقٍ من

يقَظتي

أتشبّثُ بالحافةِ

السّاخنةِ لِلمقْعَد.

.

يبتَسمُ السّائقُ.

سِرْوالُه منزلِقٌ إلى أعلى ركبَتَيْه.

ورَبْلَتاه العارِيتانِ

تتوهّجانِ في الحرّ.

.

تحاولُ امرأةٌ أنْ تهدِّئني.

تضعُ يدَها تحتَ قميصي

وتكتبُ أسماءَ الأزهارِ

على ظَهْري.

.

تنّورَتُها سوداءُ.

على كلّ ركْبةٍ من رُكْبتيها رُسِمَتْ

جمجمةٌ صغيرةٌ وعظمتانِ مُتَصالبتان.

هناكَ حديقةٌ في عينيها

.

حيثُ صفوفٌ من شواهد قبورٍ بيضاءَ

باهتة تملأُ الهواءَ،

والنّاسُ واقفون،

يلوّحونَ بالوَداع.

.

أشعرُ بأنّي هناك.

تهمسُ عبر أسنانها،

وتضعُ شفَتَيْها

على خدّي.

.

يلتفِتُ السّائقُ.

عيناهُ مغلقتان وهو يمشّطُ

شَعْرَهُ للخلف.

يريدني أنْ أكونَ شُجاعاً.

.

أشعرُ بنَبْضِ قلبي

يزدادُ ضعفاً إذ يتحدّثُ.

تقبّلني المرأةُ ثانيةً.

فكُّها يصِرُّ

.

ويلتصِقُ نفَسُها

كضبابٍ بعنقي.

ألتفتُ إلى حافةِ

النّافذةِ المِصَّدَعَةِ

المخطَّطةِ بالمطرِ.

أين كنْتُ؟

أنظرُ صوْبَ ريو-

كلُّ شيءٍ مختلف.

.

لا يمكنُ رؤيةُ

المسيحِ الذي كانَ واقفاً

في برْكَةٍ من الضّوءِ الكهربائيّ

فوق أعالي تلَّتِه.

.

الخليجُ أسودُ.

والمدينةُ السّوداءُ

تغرقُ في قبرِها.

ولن أرجعَ أبداً.

.

أَكْلُ الشِّعر

يسيل الحبرُ من زوايا فمي.

لا سعادةَ كسعادتي.

أنا آكلُ الشّعرَ.

لا تصدّقُ موظفةُ المكتبة ما تراه.

عيناها حزينتان

وهي تتمشّى ويداها في ثوبها.

.

اختفتِ القصائدُ.

الضّوءُ خافتٌ.

الكلابُ على درج القبو، وهي تصعَدُ الآن.

.

عيونها تدورُ

وكأغصانٍ تحترقُ سيقانُها الشّقراءُ.

تبدأ الموظَّفةُ المسكينةُ بهزِّ قدَمِها والبكاء.

.

إنّها لا تفهمُ ما يجري،

فتصرخُ

حين أركعُ على ركبتيَّ لاحِساً يدَها.

.

أنا رجلٌ جديد.

أزمْجِرُ عليها وأنبَحُ.

ألْهو بمرحٍ في ظلامِ الكتبِ.

التَّخلّي عن نَفْسي

.

أتخلَّى عن عينيَّ اللّتين هما بيْضَتانِ زُجاجيّتان.

أتخلَّى عن لِساني.

أتخلّى عن فَمي الذي هو الحلمُ الدائمُ

لِلِساني.

أتخلَّى عن حَلْقي الذي هو كُمُّ صَوْتي.

أتخلّى عن قلبي الذي هو تفَّاحة تحترقُ.

أتخلّى عن رئتيّ اللّتين هما أشجارٌ لم ترَ

القمرَ قطّ.

أتخلّى عن رائحتي التي هيَ رائحةُ حجرٍ يسافرُ عبْرَ

المطر.

أتخلّى عن يديَّ اللّتين هما عشرُ أمنيات.

أتخلّى عن ذراعيَّ اللّتين تريدانَ تَرْكي بأيّ شكْلٍ.

أتخلّى عن ساقيّ اللّتين هما عاشقتان في اللّيل فقط.

….

أتخلّى عن ثيابي التي هي جدرانٌ تخفقُ في الرّيح

وعنِ الشّبح الذي يحيا فيها.

أتخلَّى وأتخلّى.

ولن تحظَى بشيءٍ من ذلك لأنّني أبدأ للتوِّ

ثانيةً من دون أيّ شيءٍ.

النّبوءَة

تلكَ اللّيلةَ، اندفعَ القمرُ فوق البرْكَةِ،

محوّلاً المياهَ إلى حليبٍ، وتحت

أغصانِ الأشجارِ، الأشجارِ الزّرقاء،

تمشَّتْ امرأةٌ شابّةٌ، ولِلَحْظةٍ

.

انكشفَ لها الغيْبُ:

يهطلُ المطرُ على قبرِ زوجِها، على

مروجِ أطفالِها، هواءٌ

باردٌ يملأ فمَها، يدخلُ الغرباءُ منزِلَها،

.

رجلٌ في غرفتها يكتبُ قصيدةً، يندفعُ القمرُ إليها،

امرأةٌ تتجوّلُ تحت أشجارِها، مفكِّرةً بالموت،

مفكّرةً به مفكّرةً بها، والرّيحُ ترتفعُ

وتأخذُ القمرَ، تاركةً الورقةَ سوداء.

*

ترجمة: جولان حميد حاجي

زر الذهاب إلى الأعلى