آخر كلاب الأثر (مختارات) – محمد الماغوط


آخِرْ كِلاب الأثََرْ

كم أنتَ موحشٌ أيُّها الليل
دون امرأةٍ أو سلطة.‏
وكم أنت طويلٌ أيها الطريق‏
دونَ شجرة أو ذكرى.‏
أيتها المرأةُ الحلمْ‏
أيتها المرأةُ الكارثة‏
صوتكِ الحنون كأجنحةٍ مسافرةٍ تتكسرْ‏
لو ناداني إلى الهلاك
لَلبّيتهُ مغمضَ العينين.‏

ولكن من أنتِ؟
سفينة؟ أين أشرعتَكِ؟
صحراء؟ أين رياحك ونخيلك؟
ثورة؟ أين راياتك وأصفادك؟
إنني لا أعرف عنك أكثر ما أعرف عن الليل
ولكن من يَسلبك منِّي
يغامر مع أعظم غضب في التاريخ
كمن يسلب الجنود الموتى
خواتمهم وبقايا نقودهم
وهم ما زالوا ينزفون على أرض المعركة
قولي لمن يريد:‏
هذا ولدي ولم أنجبْه من أحشائي
هذا مُغتصبي ولم يمزق لي ثوباً أو يَفُضَّ بكارة‏
هذا وطني ولم أعرف له حدوداً
هذا محتلي ولم أرفع في وجهه صوتاً أو حصاة
اهدروا دمه. اقتلوه
ولكن شريطة أن يسقط بين ذراعي.‏
أيتها المرأة البعيدة كالسماء… كالحرية
أسرعي أسرعي
بين الوطن والمنفى ‏
خطوة واحدة
أو قبلة واحدة
أنت خائفة؟ ممَّن،
من العالم؟ أنا العالم
من الجوع؟ أنا السنابل
من الصحراء؟ أنا المطر
من الزمن؟ أنا الطفولة
من القدر؟
وأنا خائفٌ أيضاً
ودقََّات قلبي عندما ألمسُك أو أراك
لا تشبهها إلا ضربات الغرباء
على أبواب المنازل المغلقة.‏
ولكن معك يصبح الخوف شجاعة
والذل كبرياء.‏
والخجل وطناً.‏
أسرعي يا حبيبتي أسرعي
عاشقان خائفان‏
عاشقان أعزلان إلا من الليل والتنهدات‏
هما سيف الثورات وترسها.‏
إنني أناديك يا حبيبتي
وأصابعي تحوم من فكرةٍ إلى فكرة‏
ومن صفحةٍ إلى صفحة‎ ‎
‎ ‎كغربانٍ تشمُّ رائحة جثثٍ ولا تراها‏
إن موتي قريبٌ كغصن فوق رأسي
فكوني الزهرة الأخيرة الباسلة
فأنا آخر بستانٍ للشعر في هذا العالم‏
ولا سياج لي.‏
إنني نجمةٌ نائية في ليل الفقراء الطويل‏
يجب أن تطفأ.‏
صخرة نائيةٌ في الطَّريق في أي قمة
يتعثَّر بها ويلعنها الصَّاعدونَ والهابطون‏
يجب أن تزول
فزمن الخدوش والعقبات الصغيرة قد ولّى.‏
ولكنني حائرٌ بين ألم السقوط وعارِ النَّجدة
خائفٌ من الموت وحيداً
في إحدى الغرف المظلمة النتنة
وأن لا تكتشف جثَّتي إلا من الرَّائحة
وتنشُّقات المارة.‏
فأيامي معدودة
وساعات حبِّي تتناقص كالمؤن أيَّام الحصار.‏
يقالُ إنَّ رؤوسَ المحكومينَ بالموتِ‏
في الثَّوراتِ الجامحة‏
حتى بعد أن تطيح بها شفرات المفاصل
وتُدحرجها نحو أرجلِ الجماهير‏
تظل قسمات وجوهها محتفظةً للحظات‏
بتعابيرِِ الرُّعب والأملِ والخيبة‏
وتظلُّ تتوسَّل إلى منْ حولَها
بنظراتِ الدّهشةِ والعتاب والتساؤلْ‏
هكذا أنظرُ إلى جبالكَ ووهادكَ‏
إلى أرضكَ وسمائكَ يا وطني.‏



العنقاء

السيف يكتب
والصدر يقرأ
والزمن يمحو كل شيء
تماسكي أيتها المشنقة
وهدئي من روعك أيتها الحبال
وأنتم أيها السوقة والرعاع
ألم تروا في كل هذا الشرق
معلماً يشنق
في بداية أو نهاية أي عام دراسي؟
أو ثرياً مجهولاً يستدرج غزالاً برياً
ويغدق الرصاص بين عينيه؟
أو بطلاً يستسلم في ذروة المعركة
من الضجر؟
إنها أغنيتي وليست أغنية إليوت
وأعراسي وليست أعراس لوركا
وحقولي وليست حقول غوغان
ومتاهتي وليست متاهة كافكا
وكبريائي وليست كبرياء بايرون أو المتنبي
إنهم يسلبونني كل شيء في وضح النهار
وأنا أكره الخريف المزاود
سأكتب كتابي عليك بالمطر
وأعقد قراني كربطة العنق أو هدية بابا نويل
إنها أساطيري ونبوءاتي
سلاسلي وآفاقي
وأنا حر بها.


شوارد الدم

أيتها النظرات الكسيحة كالبنفسج
يا بركة السنونو الزرقاء
لقد عاد الأرق القديم
يضرب صدغيَّ كحطاب جبلي‏
خمسون عاماً وأنا أسير وأسير‏
ولم أصل إلى شيء
هل الخطأ في الطريق،
أم في قدمي؟
كما أبحرت أكثر وأكثر مما أبحر كولومبوس
دون أن تلوح في الأفق
تباشير أميركا، أو حتى (تنزانيا) جديدة
ولكنني أعرف لماذا؟
أحب التسكع والبطالة ومقاهي الرصيف‏
ولكنني أحب الرصيف أكثر
أحب الغابات والمروج اللانهائية
ولكنني أحب الخريف أكثر
أحب الزهور والرياحين والعطور الباريسية
ولكنني أحب رائحة الغبار أكثر
أحب الأبواب والنوافذ المغلقة
والإصطلاء على نيران المواقد
ولكنني أحب الزمهرير في الخارج أكثر
أحب النظافة والاستحمام
والعتبات الصقيلة وورق الجدران‏
ولكنني أحب الوحول أكثر
أحب الشهيق والزفير ورياضة الصباح
ولكنني أحب السعال والتدخين أكثر
أحب العلم والعولمة والمنطق والنطق السليم
ولكنني أحب هذيان البرداء أكثر
أحب حفيف الأشجار وشدو البلابل وتغريد العصافير
ولكنني أحب أبواق الإسعاف أكثر
أحب الحصون المنيعة والقلاع الخالدة
ولكنني أحب الأنقاض أكثر
أحب القلوع والأشرعة الخفاقة، والصيادين المبكرين المسالمين
ولكنني أحب الأمواج أكثر
أحب الأدب الجاد، والسياسة الجادة، والأحزاب الجادة‏
والخطباء الجادين، والقضاة الجادين، والعشاق الجادين، والقبلات الجادة
ولكنني أحب ابتسامة الجيوكندا الغامضة والساخرة إلى الأبد أكثر
أحب القادة العظام والقمصان المضادة للرصاص
ولكنني أحب الرصاص أكثر
أحب العزلة والصوامع
والتصوف في أعالي الأديرة والجبال
ولكنني أحب زحام الملاجئ أكثر
أحب الحدائق المعلقة وناطحات السحاب
ولكنني أحب الزلازل والقصف الجوي أكثر
أحب الهدوء والطُمأنينة وراحة البال
ولكنني أحب الغيظ وصرير الأسنان أكثر
أحب الشمس والقمر والنجوم
ولكنني أحب الظلام أكثر
أحب المقاومة ورايات النصر ومعارك التحرير
ولكنني أحب وارتاح للهزائم أكثر
بل مذ كنت عاملاً صغيراً في إحدى ورشات البناء‏
كنت أسند رأسي في لحظات القيلولة
على الخرائط ومواد البناء
وأفكر بالأطلال
واليوم الذي يمر، ولا أحقد فيه على شعب، أو حزب، أو طائفة، أو زعيم، أو خطيب، أو صحافي، أو مذيع، أو ‏سائق، أو راكب، أو شارع، أو نافذة، أو عصفور، أو زهرة، أو سحابة في هذه الأمة، لا أعتبره يوماً من عمري، أو يخصني ‏من قريب أو بعيد
ولذلك للآن لا أعرف:‏
هل أنا مشروع كاتب؟
أو مشروع خائن؟



جنازة النسر

أظنُّها من الوطن
هذه السحابةُ المقبلةُ كعينين مسيحيتين،
أظنُّها من دمشق
هذه الطفلةُ المقرونةُ الحواجب
هذه العيونُ الأكثر صفاءً
من نيرانٍ زرقاءَ بين السفن.
أيها الحزن.. يا سيفيَ الطويل المجعَّد
الرصيفُ الحاملُ طفله الأشقر
يسأل عن وردةٍ أو أسير،
عن سفينةٍ وغيمة من الوطن…
والكلمات الحرّة تكتسحني كالطاعون
لا امرأةَ لي ولا عقيدة
لا مقهى ولا شتاء
ضمني بقوة يا لبنان
أحبُّكَ أكثر من التبغِ والحدائق
أكثر من جنديٍّ عاري الفخذين
يشعلُ لفافته بين الأنقاض
ان ملايين السنين الدموية
تقف ذليلةً أمام الحانات
كجيوشٍ حزينةٍ تجلس القرفصاء
ثمانية شهور
وأنا ألمسُ تجاعيد الأرضِ والليل
أسمع رنينَ المركبة الذليلة
والثلجَ يتراكمُ على معطفي وحواجبي
فالترابُ حزين، والألمُ يومضُ كالنسر
لا نجومَ فوق التلال
التثاؤب هو مركبتي المطهمةُ، وترسي الصغيرة
والأحلام، كنيستي وشارعي
بها استلقي على الملكاتِ والجواري
وأسيرُ حزيناً في أواخر الليل.


*نصوص: محمد الماغوط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى