محمد عيد إبراهيم _ أُلَمّع خيالي كحذاءٍ قديم

إهداءً إلى المبدع المغربيّ: رشيد وحتي

كلّ فراغٍ يحملُ في طياتهِ مَلئاً
كلّ فراغٍ صوفُ غَيمٍ، ضِمنهُ كلامٌ
كلّ فراغٍ كتَصوّرِ مَثّالٍ وهو يفكّرُ في بنيلوبي،
أو مُنَجِّمٌ بلاغيٌّ يطيرُ كزرقاءِ اليمامةِ
كلّ فراغٍ نشمّ فيهِ ككلبِ الصيدِ لحمَ الفريسةِ…
.

لو كانَ لي أن أسطّرَ الفراغَ
لكتبتُ ألفاظاً لها رنينٌ في دماغي
ألفاظاً مجهولةً، تسبحُ في غيرِ سياقٍ،
ألفاظاً بيضاءَ مِن غيرِ سوءٍ
أُحوِّرُها لتحمِلَ آثامنا، كما فعلَ قابيلُ بأخيهِ…
.

الفراغُ كَونٌ لا سِباحةَ فيهِ
مع أني أتصوّرُ السّديمَ امرأةً عاريةً
وعليّ أن أُغطّيها بكلامٍ، كلامٍ شفّافٍ، لا يعي
أنهُ غطاءٌ، ولا يعي أنها امرأةٌ، كما لا يعي
أنهُ كلامٌ أصلاً، حيث تختفي البلاغةُ في العُري…
.

في الفراغِ حياةٌ، كسِلكِ هاتفٍ مجنونٍ
في الفراغِ موتٌ، علينا بإيقاظهِ من مَكمَنهِ
في الفراغِ ظِلٌّ، كنَسرٍ مُجَنَّحٍ قربَ ذيلكَ
في الفراغِ سَراحٌ، قد يُناظِرُ الضّجَر
في الفراغِ فَناءٌ، تُذِيبهُ الكلماتُ كفِئرانٍ بالقمر…
.

عليّ أن أتلبّسَ الفراغَ ـ
كراويةٍ مترهّلٍ في الضوءِ
كنخلةٍ وحيدةٍ فوقَ تلٍّ وقد شاخَت
كمَن يسافرُ في الجانبِ الآخرِ من الزجاجِ
بصاريةٍ مِن مَراجلِ الفِعلِ…
.

لن تقبضَ على الفراغِ وأنتَ تغنّي ـ
فالغناءُ مانعُ صدماتِ الكلامِ،
والكلامُ في الريحِ كزَهَرٍ يرجُفُ تحتَ المطرِ،
كمَن يلعبُ أدواراً في مسرحٍ صامتٍ
بأزياءَ خاطفةٍ، جنبَ ساحرةٍ كالشبحِ…
.

المزيدُ من الفراغِ يأكلُ روحكَ، فانتظرْ:
أن تبيعَ الفراغَ لقاءَ كِلمتَين عاطِلتَين
ببطءٍ حديديٍّ، كقطارٍ يدخلُ في نفقٍ ولا
عودةَ منهُ، إلا كنَقّارٍ يضيءُ نافذةَ الشجرةِ
نحوَ مجهولِ البريدِ في آخرِ العالمِ…
.

عندَ رؤيةِ الفراغِ، أضحكُ مِلءَ عمري
عمري الذي ضاعَ من حِرمانِ ما يُمليهِ الفراغُ
عليّ، في شهوةِ أن يراني الناسُ
سِحليةً في الشمسِ تبحثُ عن عَقربٍ باردٍ
لا لتأكلَه، بل تُناورَ مِخيالَه بهزيمةٍ ومقتلَةٍ…
.

كَسولٌ هو الفراغُ ـ
كطفلٍ مُعاقٍ يتمنّى لِحياتهِ التوفيقَ
كحَلبةِ صراعٍ على سُطوحِ العدمِ
كلسانٍ ذي عُجْمةٍ أمامَ شُرَطةِ النسيانِ
أو قردٍ حائضٍ في حِبرهِ وهو يكتبُ…
.

أن تديرَ الفراغَ بينَ يديكَ كبرقيةٍ
معناهُ ضدّ معناهُ، لو اقتربتَ وهو مُعلّقٌ؛
لن تَغتَني قبلَما تَسلُبهُ حَلواهُ
كالقَشّةِ التي تُوقِعُ البَعِيرَ في الفلاةِ
فتمدَحَ خائِنةَ الأعينِ وما في الصدورِ…
.

كما قالَ الفراغُ: أنا بومةٌ،
سيقولُ الفراغُ: أنا بروتسَ عندَ قيصرَ
أو الضِلِّيلَ وقد عادَ بالقُروحِ من القسطنطينيةِ
أو بورخيسَ وهو ينحدرُ في الظلامِ إلى المكتبةِ
أو كحديثِ النبيّ عن الجِنّيّ الفَحلِ وقد مُسِخَ امرأةً…
.

أومِنُ بالفراغِ ـ
كوَطءِ امرأةٍ وهي في شُغُلٍ عن اللّهوِ
كمَن زرعَ فَسِيلةً يبتغي الضُّرَ من بعدهِ
كطائرٍ يتأخّرُ طيلةَ الوقتِ على أُمهِ فيُصادُ
كإيزيسَ وقد جَمعَت أشلاءَ عاشقِها، إلا قَضِيبَه…
.

يُعجبني الفراغُ، وهو يعَضُّ شَفتَه السُّفلَى
يُعجبني الفراغُ، برُقعةٍ تنمو كالإهانةِ
يُعجبني الفراغُ، كقَوسِ قُزَحٍ بلَونَين فقط
يُعجبني الفراغُ، كجارةٍ تحتَ السريرِ وقد نامَت
يُعجبني الفراغُ، كحِمارٍ على رأسِ كَوكَبٍ…
.

أنا الفراغُ ـ
أنا الجنينُ الوَزَغُ وقد تَسَمّمَ بدمهِ
أنا الضّحكُ المنهمرُ بُعَيدَ القبضِ عليكُم
أنا الفتنةُ البيضاءُ قربَ الفجرِ تصرخُ
بصوتِ رسولٍ كذوبٍ: كونوا معي!

اللوحة ل Gunter Brus

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى