مختارات من أحمد سلامة الرشيدي

1

لا تعنّف رِجلك

حين تنزلق على حصاة

لا تعنف الحصاة أيضا

ولا الحذاء

قد يكون من الجيد أن تنزلق هذه المرة

لا تعنف يدك

حين تنفلت منها الأشياء

لا تعنف الأشياء دائما أيضا

قد يكون من الجيد أحيانا أن تضع يديك في جيبك

و تنسى الرغبة في التشبث قليلا

بينما تحملك الشوارع

و تسلمك البنايات إلى بعضها

ربما تخرج بعملة ورقية

أو بصورة قديمة

بحفنة لب أسمر أو بعود ثقاب

ربما خرجت كما أدخلتها بخمسة أصابع فقط

لا بأس

فقط أرِح معصميك

لا تقسُ على قلبك

لا بأس

إنه من العسير على المرء أن يقاوم رغبات قلبه.

لا تـتـتـبّعه في الأزقة الضيقة

و ترفع في وجهه المطواة

لا تقف له على الغلطة

إنه ليس عدوك.

لا تعامله معاملة الطفل أيضا

و تطعمه في فمه

و تعلمه المشي و الكلام و تخاف عليه من بائعي الآيس كريم

إنه ليس ابنك.

ليس صديقك أيضا و لا ابن اخيك

ليس جارك و لا سائق التاكسي

ليس القهوجي ولا عامل الاسانسير

ليس رئيسك في العمل ولا سكرتيرك الخاص

ليس خطيئة ولا مفازة

ليس قلادة أو تميمة

ليس ممرا ترابيا ولا صالة لعروض الموضة

ليس شيئا وليس أحدا

فقط تدركان وجودكما المشترك

لا أحد مدينٌ للآخر

و لم يختر أحدكما الآخر

ولا غناء لواحد عن صاحبه

فقط

عليكما أن تجدا قاسما مشتركا لا تضيق به الغرفة في آخر الليل

هذا ما تعلمتماه بحكم التجربة

2

من سبع نوافذ تهبط الشمس

ومن مَنوريْن تصعد القطط

ومن باب واحد تدخلين

خالعة نصف هموم العالم على العتبة

إلى سبعة ألوان تتفككين

بينما تمرين من خيط الضوء

وأنا وحدي والكلاب أسفل البيت

من نبصر هالة النور

ثلاجتي فارغة

نفطر خبزا وبيرة

على طريقة أصحاب الأرض الأوائل

فورانٌ حلوٌ في معدتك

عطور

وحقول الشعير الصباحية تنضج في فمك

الشعرة البيضاء في ذقني

حطت على رأسكِ

قلبك هذا أم عصارة عنب

قلبي هذا أم قشرة بيض

3

قالت

و هي تضع يدها النحيلة على رقبتي:

أريد أن ألمس صوتك

قبل أن تهذّبه اللغةُ و مخارجُ الحروف

ثمة نيزكٌ يحترق

و نجمٌ ينفجر في مجرة بعيدة

زهورٌ تتفتح

و أغصانٌ تنكسر

ورمٌ ينمو و مدرعاتٌ تمر

أسرابٌ من الجراد و عاملات النحل

صرخات المحاربين القدامى خلف عازفي الساكسفون

و شلالٌ صغيرٌ يسيل على يدي

حنجرتك سيمفونيةٌ عذبة

حنجرتك مقبرةٌ واسعة

و قالت:

سيأتي يوم نتوقف فيه عن الكلام

ساعتها

أريد فقط

أن أتذكر ارتعاشة صوتك الصادقة

قبل أن تتحرك شفتاك

و تنطق شيئا آخر

4

بُترت ذراع جدي من كتفها إثر طلقة كانت تستهدف القلب. لم تفلح أعشاب البدو في منع البارود الساخن عن تذويب اللحم و نخر العظام

رحلة الموت إلى العطرون. لم يكن المقام بجوار الأهل و المرقد اللين أقل موتا. الأثداء جفت والجدب يمتص النور من عيون الرُضَّع، الأحجار أشد قبحا و الرمل أقبح خشونة، الرجال هزلت حتى أن واحدهم تطوحه الريح كالسكران.

لا يُقبّلون زوجاتهم قبل الركوب على الإبل الضامرة. يضع واحدهم يده اليسرى على كتف زوجته الأيمن و بندقيته في يده الأخرى و يقول ” ما يعقبني عليكم شر “، و يذهب هو إلى الشر الأسود، جنوبا إلى الأرض العجماء، حيث لا لغة إلا البندقية، و التربة التي يقشرون منها العطرون ليبادلوه بالقوت لأولادهم إن عادوا؛ يدفنون أعضائهم و رفاقهم في بطنها المالحة

لي فيها جد أمي و ابنا عمه و ذراع جدي لأبي. كان يقول في آخر حياته المديدة ” ما أعادتني من الموت إلا الذراع التي حطيتها قبل الظعن على الكتف الطيب”

أبي

شاهت عينه اليسرى وهو ولد يجري بقلب أخضر فوق الرمل يبحث عن روح الصحراء ليحتضن القلب الحجري. نفس النخلة التي منحته التمرة العسلية ليكبر، سلبته العين اليسرى -قربانا- حين استقرت الشوكة في محجرها، ليقول لي و هو يتحسسها فوق شاربه الأبيض “يا وليدي، الصحراء قاسيةٌ حتى على أهلها “

أقربائي

شربوا أبوال نياقهم و جيادهم ليتفادوا الموت عطشا و الجبل واقفٌ كالجبل، يتفرج على أحفاده الذين كم اختبئوا في لحيته الصفراء و شدوه من طرف عمامته.

نفقت بهائمهم و وصلوا الديار. قبَّلوا الأحبَّة ثم ماتوا بالفشل الكلوي.

أُكمل؟

أخي كان عشاءً للذئاب منذ زمن، تنايكت و تبرّزَته بجوار صخرة ثم نامت شبعانة مطمئنة، و تركت لنا إصبعا و قطعة من ثيابه

أما أنا – آخر النازلين من الرحم القاحل و الطالعين إلى الجبل الأعور، حامل الميراث الطويل من الترحال و الحب الذي لم ينبت وردة، و القلب المرقّع كالرمل حول الحوش بعد مرور غنم جائعة- كنت الأوفر حظا؛ إصبع معطلة بعد قبلة سكين، ساقان منذورتان للطريق الطويل، ثقب كبير في مؤخرة الرأس أسقط فيه كل مساء، رئتان باردتان و اثنتان و عشرون ألف سيجارة محترقة

لا تلوميني حين تبتلعني الصحراء التي أحملها في قلبي وأصمت، كقطعة جرانيت باردة، تعبرها القوافل والعرّافون وقطاع الطرق وأبناء الليل والنبلاء والمطاريد وتجار الوقت والسلع المعطوبة، والحُواة والحُداة وقصاصو الأثر الضائع، وكائنات خرافية تَقيل على حافة الرأس المشوه

لا تلوميني بل اضحكي معي

أشيري لي على هم جديد لم أختبره، وسأنظر اليه وأضحك 

وننظر اليه ونضحك

ديسمبر ٢٠١٧

أحمد سلامة الرشيدي

 


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى