النُّصُوصُ الْـ 15

روبنسن كروسو :
لو لم يغادر روبنسن كروسو قط أعلى، أو على الأصح، أبرزّ نقطة في جزيرته، رغبة في السلوان، أو بدافع فقدان الثقة بالنفس، أو الخوف، أو الجهل، أو التوق، للقي للتو حتفّه. لكنْ، لأنه شرع في استكشاف الجزيرة كلها، دون أن يعير أدني اهتمام للسفن العابرة ولتلسكوباتها الكليلة، فقد تمكن من الحفاظ علي حياته حتى عثر عليه في نهاية الأمر، رغم كل شيء. وتحكمت في كل ذلك سلسلة سببية كانت، بالطبع، حتمية من الناحية المنطقية.

نافذة علي الشارع :
كلٌ من يعيش حياة العزلة ويرغب مع ذلك من حين لآخر في أن يرتبط بمكان ما، كلٌ من تفاجئه الرغبة حسب تغير الوقت والطقس وظروف العمل وما شابه في أن يري ذراعا يمكن أن يتشبث بها، لن يستطيع أن يدبر أموره طويلا دون أن تكون له نافذة مشرفة علي الشارع. وإذا كان مزاجه لا يمكٌِنه من اشتهاء أي شيء فلا يفعل إلا أن يذهب وهو منهك إلي عتبة نافذته، عيناه لا تكفان عن الانتقال بين الجمهور أمامه والسماء، رأسه مرفوع قليلا نحو الأعلى، غير راغب في النظر إلي الخارج فإن الجياد المارة تحت النافذة ستسحبه، في تلك اللحظة بالذات، نحو قافلة عرباتها وصخبها، وسينجرف في النهاية إلي التناغم البشري.

المارة :
حين تسير في الشارع ليلا، تري رجلا يجري نحوك، تراه من بعيد لأن الشارع يتسلق التل والقمر مكتمل. والواقع أنك لا تحاول أن تمسك بتلابيبه ولو كان مخلوقا ضعيفا أشعث أو مطاردا من قبل شخص يصرخ إثره، بل تدعه يجري مبتعدا. فالوقت ليل، وأنت لا دخل لك في كون الشارع أمامك يتسلق التل أو كون الليل مقمرا. وبالإضافة إلى هذا، فإن الشخصين قد يكونان بدءا هذه المطاردة كي يروحا عن نفسيهما، أو قد يكونان معا في مطاردة شخص ثالث. لعل الأول بريء والثاني يرغب في قتله فتصير أنت له مشاركا. لعل كلا منهما لا يعرف عن الآخر شيئا، فقد يكون كل واحد منهما يجري نحو بيته طلبا للراحة. لعلهما طائران من طيور الليل، ولعل الرجل الأول مسلح.
ومهما يكن من أمر، أليس من حقك أن تكون متعبا؟ ألم تسرف في شرب النبيذ؟ إنك لتشعر بالامتنان لأن الرجل الثاني قد غاب عن ناظرك.

النبع :
إنه ظمآن ولا يحول بينه وبين النبع سوي كتلة من الأشجار. لكنه في حيرة من أمره: جزء منه يتجاهل الكل ويرى أنه واقف هنا وأن النبع ليس بعيدا عنه، لكن جزءا آخر لا يلحظ أي شيء، ولديه في أحسن الأحوال هاجس بأن الجزء الأول يري كل شيء. ولكنه لا يستطيع أن يروي ظمأه لأنه لا يلحظ أي شيء.

سوء حظ الأعزب :
يبدو بغيضا جدا أن يظل المرء أعزب، أن يصير رجلا عجوزا يصارع من أجل الحفاظ علي كرامته وهو يتسول دعوة كلما أراد أن يقضي أمسية في رفقة شخص ما، أن يظل طريح الفراش يحملق لأسابيع في غرفة فارغة يوجد بها سريره، أن يكون دائما مجبرا علي أن يؤدي تحية الوداع المسائية عند الباب الأمامي، أن لا يركض أبدا إذ يرتقي السلم وبجانبه زوجته، أن يكون مضطرا إلي أن يحمل عشاءه إلي البيت في يد واحدة، أن يكون مضطرا إلي أن يبدي إعجابه بأطفال غيره دون أن يكون له مجرد الحق في أن يقول: ليس لدي أطفال، أن يحاكي مظهر، ويحاكي سلوك، أعزب أو أعزبين ظل يتذكرهما منذ أيام شبابه.
كذلك سيكون الأمر، غير أن المرء سيقف في الواقع هناك ، حالا ومستقبلا، بجسد ملموس ورأس حقيقية، أعني جبينا حقيقيا يضرب به بعنف راحةّ يده.

قرارات :
من السهل أن تنتزع ذاتك من حالة نفسية تعيسة، وإن اقتضي ذلك منك قوة الإرادة. أرغِم نفسي علي مغادرة الكرسي، ثم أطوف حول الطاولة، أقوم بتمرينات للرأس والعنق، وأجعل عيني تتلألأن، وأشد العضلات حولهما. أتحدي أحاسيسي، فأرحب ب A ترحيبا حارا مفترضا أنه جاء لزيارتي، و أتحمل، بكل مودة، وجود B في غرفتي، و أتجرع كل ما يقال في بيت C، مهما كلفني ذلك من جرعات مطولة من العناء والألم.
لكن، حتى إن أفلحت في ذلك، فإن زلة واحدة، ولا يمكن تجنب الزلات، ستوقف العملية بأكملها، وهي عملية بسيطة ومؤلمة بنفس القدر، وسيكون علي عندئذ أن أنكمش وأعود إلي دائرتي مرة أخري.
وعليه، فإن أفضل ملاذ قد يكون كامنا في مواجهة كل شيء بالاستسلام، في أن تجعل من نفسك كتلة جامدة. وفي أن لا تدع نفسك، إن أحسستّ أنك منجرف، تغتر فتخطو ولو خطوة واحدة غير ضرورية. فالأفضل أن تحملق في الآخرين بعيني حيوان، ألا تحس بأي ندم. وباختصار، أن تخنق بيدك أيٌّ حياة تبقت لديك، أعني، أن توسع تلك السكينة النهائية، سكينة المقبرة، وألا تدع لأي شيء غيرها فرصة للنجاة.
وثمة حركة مميٌِزة لمثل هذه الحالة، وتتمثل في أن تمرر خنصرك علي حاجبيك.

النظر الشارد من خلال النافذة :
ماذا عسانا نفعل بأيام الربيع، هذه الأيام التي تقبل بسرعة؟ في الصباح الباكر كانت السماء رمادية، لكنك ستفاجأ الآن لو ذهبت إلي النافذة ووضعت خدك علي مزلاجها.
هاهي الشمس قد بدأت تغيب، لكنك تراها هناك تنير وجه الفتاة الصغيرة التي تواصل تجوالها وتتملي ما حولها، وتري الفتاةّ في نفس الآن وقد كسفها ظل الرجل السائر خلفها، ذلك الذي يتجاوزها الآن.
وحين يتجاوز الرجل الفتاة الصغيرة، يسطع وجهها.

جبل سيناء :
كثير من الناس يطوفون بجبل سيناء. كلامهم غير واضح، فهم إما مثرثرون، أو صارخون، أو صامتون. لكن لا أحد منهم يهبط الطريق الواسعة السهلة المستحدثة التي تساهم في جعل خطوات المرء أطول وأسرع.

الفيلسوف :
كان ثمة فيلسوف اعتاد علي التسكع حيثما كان الأطفال يلعبون. وكلما رأي ولدا يحمل خذروفا، تربص به. وما إن يبدأ الخذروف في الدوران حتى يطارده الفيلسوف محاولا أن يمسك به. ولم يكن ينزعج حين يحتج الأطفال صاخبين ويحاولون أن يحولوا بينه و بين لعبتهم. وكان سعيدا مادام بوسعه أن يمسك بالخذروف وهو يدور، لكن سعادته لم تكن إلا للحظة يلقي بعدها بالخذروف علي الأرض ثم يمضي مبتعدا. فقد كان يعتقد أن فهم أي جزئية دوران الخذروف مثلا كاف لفهم كل الأشياء. ولهذا لم يكن يشغل نفسه بالمسائل الكبرى، حيث كان ذلك يبدو له منافيا للاقتصاد. وحالما تفهّم أصغر جزئية، يصير كل شيء مفهوما، ولهذا كان منشغلا بالخذروف الدوٌّار. وكلما تهيأ الأطفال لتدوير الخذروف، استشعر الفيلسوف أملا بأن التجربة ستنجح هذه المرة: وما إن يبدأ الخذروف في الدوران ويجري هو خلفه لاهثا، حتى يصبح الأمل يقينا. لكنه يحس بالغثيان، حين يمسك بيده قطعة الخشب التافهة. صراخ الأطفال الذي لم يكن يسمعه من قبل، هذا الصراخ الذي يثقب فجأة أذنيه الآن، يطارده فيبتعد مترنحا كأنه خذروف يفر من سوط أخرق.

النمر :
ذات يوم أحضر نمر إلي المروض الشهير بورسن ليدلي برأيه في إمكان ترويضه. دفع بالقفص الصغير وبداخله النمر إلي قفص الترويض الذي كانت أبعاده معادلة لأبعاد قاعة عرض: وكان ذلك في مخيم بعيد خارج المدينة. انسحب المرافقون، فقد كان بورسن يحب دائما أن يكون لوحده مع الحيوان في أول لقاء. كان النمر يرقد هادئا، فقد طعم قبل ذلك حتى اكتفي. تثاءب قليلا، حملق ضجِرا في محيطه الجديد، ثم استغرق علي الفور في نوم عميق.

التنين الأخضر :
انفتح الباب ودخل الغرفة سمينا نضرا، جوانبه منتفخة علي نحو شهواني، لا أقدام له، يتزحزح معتمدا علي جانبه الأسفل. إنه التنين الأخضر. تحية رسمية. طلبت منه أن يدخل فورا. اعتذر متأسفا علي كونه عاجزا عن الدخول، لأن طوله مفرط. وكان هذا يعني أن الباب يجب أن يظل مفتوحا، وهو وضع لا يخلو من حرج. ابتسم في ارتباك ومكر، ثم قال:
جئت هنا منجذبا بشوقك أنت. جئت من بعيد أزحزح نفسي طوال الطريق، وجانبي الأسفل الآن منكشط مؤلم. لكنني مسرور لحضوري. مسرورا جئت، مسرورا أهبك نفسي.

الإمبراطور :
شكٌّ رجل في كون الإمبراطور سليل الآلهة: أكد أن الإمبراطور هو عاهلنا الشرعي. لم يشكك في الرسالة الإلهية للإمبراطور (كان ذلك بالنسبة له بديهيا)، لم يكن يشك إلا في أصله الإلهي. ولم يتسبب هذا طبعا في اضطراب كثير. فحين تقذف الأمواج المتكسرة نحو البر بقطرة ماء، فإن ذلك لا يوقف الحركة الأبدية لأمواج البحر، بل علي العكس من ذلك يتسبب فيها.

لا تحاول :
كان الوقت مبكرا وكانت الشوارع نظيفة مهجورة. كنت في الطريق إلي المحطة. وحين قارنت ساعة البرج بساعة يدي أدركت أن الوقت متأخر أكثر مما ظننت. كان علي أن أستعجل، فصدمة هذا الاكتشاف جعلتني أحس أنني غير واثق من معرفة الطريق. لم أكن قد تعودت علي المدينة بعد. ولحسن الحظ، كان بالقرب مني رجل أمن، عدوت نحوه لاهثا وسألته عن الطريق. تبسم وقال: أنت تسأل عن الطريق؟ قلت: أجل، مادمت لا أستطيع أن أهتدي إليها دون مساعدة. قال: لا تحاولْ! لا تحاولْ! ثم استدار وقد اهتز فجأة كأنه أراد أن ينفرد بنفسه كي يضحك.

الرحيل :
أصدرت الأمر بأن يحضّر حصاني من الإسطبل. لم يفهمني الخادم. ذهبت بنفسي إلي الإسطبل، فسرجت الحصان وامتطيته. سمعت بوقا من بعيد فسألته ماذا يعني هذا. لم يكن يعرف شيئا ولم يكن قد سمع شيئا. استوقفني عند البوابة سائلا :إلي أين تمضي، سيدي؟ أجبت: لست أدري. كل ما أعرفه أنني راحل بعيدا، بعيدا من هنا. بعيد من هنا وإلي الأبد. لن أبلغ هدفي إلا بالابتعاد من هنا. ثم سألني: إذن، أنت تعرف هدفك؟ أجبته: أجل، ألم أقل لك إنه بعيد من هنا، ذلك هدفي. قال: لكنك لم تتزود. قلت: لست في حاجة إلي زاد. الرحلة طويلة. فإن لم أعثر في الطريق علي أي شيء، هلكت جوعا. لن ينقذني أي تموين مدخر. فالرحلة، لسوء الحظ، طويلة طويلة.

السعاة :
كانوا قد جيٌِروا بين أن يصيروا ملوكا أو سعاة يخدمون الملوك. وكالأطفال، اختاروا أن يكونوا سعاة. ولذلك ليس هناك غير سعاة يجوبون العالم مستعجلين. ولغياب الملوك، فإنهم يصرخون متبادلين رسائل لم يعد لها أي معني. إنهم يرغبون في أن يضعوا حدا لحياتهم البئيسة، لكنهم لا يجرءون علي التنكر لأيمانهم بأن يظلوا في الخدمة.

____________

فرانز كافكا
ترجمة : حسن حلمي

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى