محمود درويش في حضرة الغياب

الحُبُّ كالمعاني على قارعَةِ الطريق. لكنه كالشِّعرِ صعب، تعُوزُهُ الموهِبَةُ و المُكابَدةُ و الصوغُ الماهر ، لكثرةِ ما فيهِ من مراتب. لا يكفِي أن تحبّ – فذلك فِعلٌ منْ أفعال الطبيعة السحريّة ، كهطول المطرِ و اشتعالِ البرق، يأخذكَ منكَ إلى مدار الآخر لتتدبّر أمركَ بِنفسِك. لا يكفِي أن تحبّ ، بل عليكَ أن تعرف كيفَ تُحِبّ. فهل عرَفت؟ لم تستَطع الإجابة لأنّكَ لا تستطيع استعادة الرعشات التي هزَّتكَ و بعثَرَتْكَ على نزواتِ الليلك، و كَهْرَبَتْكَ و عَذَّبَتْكَ بمذاق العسل الحارق. و لا تستطيع استرجاع أكثر أطوار الموت عذوبةً و حياةً، حيثُ غَادَرَتْكَ « أنا » كَ إلى أنثاكَ لمُلاقاةِ نَفسك الطازجة فيها كالثمرة الناضجة.


تلك اللحظات، حين تَسْترجعها الكلمات ، عصيَّةٌ على رفع الجَسَد إلى مقام الروح. من منـَّا لم يقُل لأُنثاهُ : ” لا وُجُودَ لي إلاّ فيك ” و كُنا صادقين؟ . و كُنا صادقين أَيْضًا حين وَجدن وُجُودنا في قولٍ مُشابه وفي مكانٍ آخر. فهل عرفتَ كيفَ تُحبّ ؟ لم تستطع الإجابة، ربما لأنّكَ لم تتبيّن أحوال الحسِّ المُتنقل في الفوارق بين : الحبّ و العشق، و الوَلَع و الوَلَه، و الهوى و الجَوى، و الشَغَفِ و الدّنَفِ، و الهيَام و الغرَام، و الشَبَق و النزوة ، و الصبوة و الشهوة، و الإعجاب و الانجذاب . . . و غيرها من التباس الصفاتِ على الرغبات. لكلِّ مرتبةٍ حالٌ من أحوال الجَسَد، و لكلِّ حالٍ من أحوال الجسَدِ مرتبةٌ بينَ موتٍ و حياة . فلا تعرِف أينَ كُنت و كيفَ كُنت.

لكنَّكَ الآن، إذ تشرف على حياتك إشراف البحّار على خيبته من أسرار البحر التي لا تُدْرك، و تسأل: أينَ مِينائِي؟ تحار من عودة قلبك سالمًا صلْبًا كحبَّةِ سَفَرْجل صعبة القضم. فلماذا بكيتَ إذًا لأنّ العذراء لم تكُن عذراء قرب الشجرة التي سَبَقَكَ إليها أَحَدُ مُرَوِّضِي الريح؟ و لماذا بكيت ثانيةً لأن الثانيةَ لم تفتح لكَ الباب، و أنتَ واقف في الزمهرير مُرتجفًا من الذل، لا من البرد الذي أوقَدَ مدفأتك؟ و لماذا بكيتَ مرَّةً ثالثةً، لأن الثالثة سافرت، دون أن تنتبه إلى أنك كُنت تعانق وسادة، لا جسدًا من حرير و ريش و نعام؟

لا حُبَّ – تقول – لأنّ لا حُبَّ يشبهُ حبًا، و لا تعريف لقوةِ الجاذبية التي تخلع الكائنَ من كيانه، فلا يسأل عن ذاته و قد اغتربت، و عن حريّته و قد اقتربت من عبوديّة مختارة: أنا لك. بخصلةِ شعرٍ طائشةٍ في الريح تنتقل الجبال من أمكنتها. و بشفتين مفتوحتين تنضجُ بساتينُ الكرز في غيرِ أوانها. و بكلمة لا معنى لها يُنصِّبك التأويلُ ملكًا على عرشِ الهباء.

و أنتَ، أنتَ الممسوس بتيَّارِ كهرباء تسير على غير هدى، على أثر ما يتساقط من أوراقك، تدور بك العاصفة و العاطفة، و تدور بهما، و لا تدري إن كنت حزينًا أم فرحًا لأن الالتباس الذي أنت فيه هو الإحساس بخفَّة الأرض و بغلبة القلب على المعرفة. و ستدرك فيما بعد أن الحب، حُبَّك، هو أوَّلـُه. في أوَّل الحب، تكون معدًّا، كآلة موسيقية، لإطاعة الهواء في ما يملي عليكَ من تأليف: كل نسمة نغمة، و كل سكون صلاةُ شكر. و تكون مُعَدًّا أَيضًا لاستطلاع ليليّ لكُلّ نأمة تفدُ إليك من ديار النجمة. فأَطِلْ هذا الأوَّل، أوَّل الحب ، ليمتثل لك الخيال امتثال الفرَس للفارِس، و لتغزوكَ اللغة و تغزوها كرجل و امرأة يتسابقان على استضافة المجهول بكرم الطاعة المتبادلة.

في أول الحبِّ تنهمرُ عليكَ المطالعُ، زرقاءَ زرقاءَ. و في أوج الحب تحياه، و ينساكَ و تنساهُ و يُنْسيكَ المطالع. و في آخر الحب تطيلُ النظر إلى الساعة. و في الغياب تعثر المطالع على المواجع المترسبة في خُلوّ الغرفة من كأس النبيذ الثانية، و من شال أزرق، فتمتلىء القصيدة بما ينقصها. و حين تكملها بنقصانٍ مفتوح على أخرى، تبرأ من ذكرى و من ندم و لا يصدأُ فيك الذهب. كأن الكتابة، كالحب، بنتُ السحابة إن أمْسَكْتَ بها ذابَت. و كأنَّ العبارة لا تتحفّز إلاَّ لتعويض خسارة. فتتجلّى صورة الحب هناك: في غياب كثيف الحضور.

و حين تخرج من نفسِك، كأنَّكَ أنتَ، و تنظر إليكَ من بعيد كأنك هُوَ: واقفًا تحت المطر، على شارعٍ مُزدَحِم بالمارّة، و في يدك باقة ورد أحمر، لا تشعر بالبرد ، بل بسخريةٍ من وقفتك الزائغة. و تتساءَل: هل كان حُبًّا أم شهوة، هل كانَ عشقًا أم شبقًا؟ و تنسى شعورك . . . تنساهُ و لا تبحثُ عنه، فلا تتألم و لا تندم، بل تكتفي بالسلام عليهِ، عن بُعد، و هو ينتقل إلى ذكرى بعيدة لا تُؤَرِّق، ذكرى تتحكَّم بها كما تتحكَّم بجهاز الفيديو: تَضَعُ النهايَةَ في البداية، أو تثبّتُ الصورةُ على ضروراتِ القلب المُتقَلِّب.

و تضحك خجلاً من كلامٍ تمادى في مديح الشبق حتى احترق: يبدأ من القدمين المنحوتتين بقطعة شمس، فإلى أعلى يلمع البرق من ساقين مسكوبتينِ بقلق المهارات، فأعلى إلى الرُكْبَتَيْن المُصنَّفتَينْ كمُعجِزَتَيْن، فإلى أعلى: البطنُ – الموجُ في حالة جَزْر، فأعلى: يبدأُ الغروب تدريجيًا بامتصاصك بنَهَمٍ نبيلٍ خَفِر ، فتُقْبِل و تُدْبِرُ و تعلو و تهبط و تعرق و تشهق و تغرق في ليلٍ ساخن العتمة فاتنْ. يداكَ أو يداها – لا تدري – تلمّانك و تحملانك كنسرٍ أغمي عليهِ في فضاء يدلف كواكب . . . فتنظر إلى العينين نصف المفتوحتين على عينين نصف مُغمضَتين، ليتأكد كل منكما أنه ينبُتُ في الآخر.

لكن أحدًا لا يسكُنُ الذروة، تسقطانِ دُفعةً واحدةً من أعلى سماء إلى نُعاسٍ مُبلّل بالرذاذ. تهمِسان بصمتٍ واحد، بلا شيءٍ أوضحَ من أيِّ شيء. و تحلمان معًا، و على حدة، بأن يستمر هذا العناق إلى الأبد، إلى أن يتضح بكما أن لهذا الأبد عمرًا قصير الأمد، و أن الأبدية لا تنصاع إلى أحد، فهي كثيرة التداول و الانتقال من لحظة إلى أخرى ، و من حالةٍ إلى سِواها.

و أنتَ الذي لا تعرف الحب إلاّ عندما تحبّ، لا تسأل ما هو ولا تبحث عنه. لكن امرأة سألتك إن كنت تحب الحب لذاته، فتمَلّصت و تخلصت من حيرة الجواب، و قلت: أُحِبُّكِ أنتِ. فألحّتْ: ألا تُحِبُّ الحُب، فقُلت: أحبكِ أنتِ لذاتك، فانصرفتْ عنكَ لأنك لا تُؤتمَنُ غيابها. ليسَ الحُبُّ فكرة. إنه عاطفةٌ تسخن و تبرد و تأتي و تذهب. عاطفة تتجسَّد في شكل و قوام، و لهُ خمسُ حواسّ و أكثر. يطلع علينا أحيانًا في شكل ملاكٍ ذي أجنحة خفيفة قادرة على اقتلاعنا من الأرض. و يجتاحُنا أحيانًا في شكل ثور يطرحنا أرضًا و ينصرف. و يهبُّ أحيانًا أخرى في شكل عاصفةٍ نتعرَّف إليها من آثارها المُدمرة. و ينزل علينا أحيانًا في شكل ندى ليليّ حين تحلب يدٌ سحريَّةٌ غيمةً شاردة.

لكن هذه الأشكال كُلّها تجتمع في امرأة، حسية مرئية، ملموسة محسوسة، لا في فكرة. فنحبُّ الشكل الجاذب، و ينكبُّ الخيالُ على تفحُّصِ مافيهِ من غموض و غرائب. أما الأرواح فتتعارف و تتآلف حول الشكل المتلألىءبالجوهر. و قد تختلف على تأويل ما يقولُ الجسَدِ للجَسَد، فتنصرف إلى شفافية أخرى و تحلّ في أجسادٍ أكثرُ امتلاءً بالماءِ و التناغم و الموسيقى. ألحبّ هو المـُتحَوِّلُ المُتَنَقـِّلُ العصيُّ على الهوية. هو الانخطاف الذي يلتبس فيهِ الشغف مع الإشراق. هو ما لا تعرف و تعرف أنكَ لا تعرف. هو اكتمالُ المعنى باللامعنى من فرط جنوحِهِ إلى المجانية و تبذير الحضُور. و هو نقيضُ التكرار و الإلحاح على إصلاح الهواء و اللون، و إلاّ صار زواجًا تحلُّ فِيهِ صِيانَةُ الكلامِ من الزلل محلَّ الارتجال الضروريِّ لشعرٍ لا يقُومُ الحُبُّ إلا عَلَيه، فلا يصلُحُ نثرَ التدبيرِ المنزليّ لإبقاء إجاصتينِ طازجتينِ على طبق المرمر، و لتحرِيضِ المجهول على إغلاق الطريقِ أمامَ المعلوم. لابُد من سرّ، لابد من سرّ دائِم، ليبقى الحب مُفاجأة و هدية، فلا تفتح خزانة ثيابها الملأى بأسرار طباعها !

و إن خمد الشغف ابتعد الحب، رويدًا رويدًا، إلى نهار الصداقة. و تقول لها: ما أجمل الصداقة حين نشيخُ معًا، و أتـَّكِىء عليكِ و تتَّكِئِينَ عليَّ، و أرحمك و ترحمينني في دار العجزة حيثُ لا نقوى على التذكُّر. لكني أوثر أن أعتمد على عكازي، لا عليكِ. و لا أريدُ أن أرى روميو و جولييت، و لا قيسًا و ليلى، أمامي في أرذل العمر. للحبِّ تاريخُ انتهاء، كما للُمرِ و كما للمُعلَّبات و الأدوية. لكني أُفضَّل سقوط الحب، بسكتة قلبية، في أوج الشبق و الشغف، كما يسقط حصان من حبل إلى هاوية.

سألتُكَ: مَنْ هِيَ، فقُلتَ: لا أعرِفُها من فرطِ تعَدُّدِها في واحدة. هي و لا هي. هي و هُنَّ إذا ما اجتمعن في قصيدة حب كتيرةُ المصادر، تتوزَّعها ضروراتُ البحثِ عن تحقق ما لا يتحقق ، و عن نداء يغمرنا دون أن ندرك أنه لم يصل، و عن تجدُّد العطش أمامَ النبع. هي و لا هي إن حضرت و إن غابت، فكأنَّ حضُورَها غيابي فيها، و كأنّ غيابها حضُورُ التفاصيل. لكنها تنتشرُ بعدة أسماء، فلا أدري إن كانت هي هي، أم من نساء مخيلتي و رغباتي المُتبَدَّلَة. لذلك يبدو أنها اختراع، لأني لا أخطىء بالأسماء، فلا أنادي غيرَها باسمها الذي نسيته من قلة الاستعمال.

و سألتُكَ: لَمْ تَعرِفْ، إذًا، كيف تُحبّ ؟ فأدهَشَنِي قَولُكَ: ما الحُبٌّ؟ كأنني لم أحبّ إلا عندما كان يُخيّل لي أنني أحبّ . . . كأن تخطفني من نافذة قطارٍ تلويحةُ يد، ربما لم تكُن مُرسلةٌ إليّ، فأوَّلتها و قبَّلتُها عن بُعد . . . و كأنْ أرى على مدخل دار السينما فتاةً تنتظرُ أحَدًا، فأتخيَّل أني ذاك الأحد، و أختار مقعدِي إلى جِوارِها، و أراني و أراها على الشاشة في مشهد عاطفيّ ، ولا يعنيني أن أفرَح أو أحزن من نهاية الفيلم. فأنا أبحث في ما بعد النهاية عنها. و لا أجدها إلى جواري منذ أنزلت الستارة.

و سألتُكَ: هل كُنتَ تُمثـِّل يا صاحِبِي؟

قُلتَ لي: كُنتُ أخترعُ الحب عند الضرورة / حِينَ أسيرُ وحيدًا على ضفة النهر / أو كلما ارتفَعَتْ نسبةُ الملحِ في جَسَدِي كنتُ أختَرِعُ النهر . . .

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى