ياسين عاشور – المالينخولي السّعيد (7) – الظُّلمةُ باهرةٌ ولا حاجة إلى الشّموع

“أيّتها الآلهة والنبوات والزعامات والمذاهب والعقائد والتعاليم… أيّتها الأشياء والكائنات-كلّ الأشياء والكائنات… ما أقلّ جمالك وأردأ حظوظك لولا الأكاذيب التي تهبك كلّ جمالك وكلّ حظوظك…”

–عبد الله القصيمي

“إنّ الحياة أمرٌ بائسٌ جدًّا، ولهذا قرّرت أن أقضيها في التأمّل فيها.”

-آرثر شوبنهاور

للمالينخولي السّعيد هوايات يُروّح بها عن نفسه مُنتظرًا ساعة خلاصه الأبديّ، ساعة انعتاقه من هذا العالم المجذوم، فصاحبُنا كائنٌ خاملٌ لا يُنجزُ شيئًا يستحقّ الذكر أو التخليد في سجلّات الإنسانيّة الحافلة، فلا تراهُ يُعلنُ حربًا إلّا على الرّيح، ولا يعِدُ بالإصلاحِ ولا يفكّر في مستقبل الأجيال القادمة ولا يأملُ في غدٍ أفضل ولا يُدخّنُ غليونًا فائحًا بعبق العدالة الاجتماعيّة ولا يزيّنُ رقبته بوشاح مُطرّز بالشِعر الأمميّ ولا يُغطّي رأسه بقبّعة مُبطّنة بالأفكار الخطيرة ولا يهرف بكلام مُهمٍّ أبدًا… إنّ هواية صاحبنا المفضّلة وتسليّته الأثيرة هي التلصّص على العالم من خلال ثقوبٍ افتعلها في جدران جُحرهِ الوجوديّ، لا غرض لهُ في ذلك سوى الاستمتاع بمشاهدة النيران التي تشبُّ كلّ حينٍ في مسرح العالم المنخور بالسّوس…

لا يُحبّذ المالينخولي السّعيد إشعال الشموع ولا يريد أن يحترق كي يُنير الطّريق، فهو لا يلعن الظّلام ولا يُعاديه، بل إنّ في نفس صاحبنا رغبة عارمةٌ في رؤية الظّلام مُخيّمًا في الأرجاء، ولكمْ يودّ أن يشهد ذلك اليوم الذي ستنطفئ فيه هذه النقطة الزّرقاء الباهتة –أمّنا الأرض- إلى الأبد، لتحلّ مكانها ظُلمةٌ باهرةٌ، وصمتٌ كونيٌّ جليلٌ يُمزّقهُ من حينٍ إلى آخر نجمٌ ثاقبٌ أو انفجار جرمٍ سماويّ. سوف يستمرّ الكون في الاشتغال بمنطقه الخاصّ غير عابئٍ بالسّخافات التي سطّرها الإنسان في سبيل فهمه وتأويله والسيطرة على قوانينه. لم يكتفِ الإنسان –ذلك الكائن الجُذاميّ، سوسة الأرض- بالنخر في هذا الكوكب المسكين، بل صار يبحث في إمكانات الحياة خارجه، علّه ينجح في تثبيت موطئ قدمٍ في كويكبٍ آخر كي ينتشر فيه كالورم الخبيث.

يُمضي المالينخولي السّعيد أيّامه الطّوال مُختلسًا النّظر إلى المهازل الكُبرى التي تُرتكبُ في حظيرة البشر، حيثُ يتصارع الجميع وسيقانهم غارقةٌ في المياه الآسنة، غير عابئين بنُتونة الجوّ وفساد الهواء، يتصارعون إلى أن ينتهي أمرهم غارقين في الوحل، فتتكدّس جثثهم المتعفّنة ليعتليها ورثتُهم ويُشيّدُوا من جماجم آبائهم صروحًا أخرى يعتلونها كي يُواصلوا من بعدهم مسيرةَ الخرابِ. لم يتّعظ النوع الإنساني من تاريخه البغيض، ذلك التّاريخ الذي اعتبره الحكيم إيميل سيوران ” لا شيء سوى تكرار للكوارث بانتظار الكارثة النهائيّة”، إنّ نظرةً أبوكاليبتيكيّة ثاقبة مثل هذه تُلخّص تاريخ العالم وتُعرّيه من جميع التأويلات المثاليّة التي ينسجها جراحوا تجميل الطّبيعة الإنسانيّة الفاسدة وصانعُوا الأقنعة البلاستيكية الباسمة.

ينظر المالينخولي السّعيد إلى المُتفائلين وصنّاع الأمل ضاحكًا مُتهكّمًا مُتعجّبًا من تلك القدرة الفريدة على تجاهل الفساد الأصلي المُستفحل في الطّبيعة الإنسانيّة،  مُستغربًا من إصرارهم على الإصلاح والترميم والترميق والتزويق .يجعلون من الحياة قيمةً عُليا تستحقّ النضال والتّعب والكفاح والمعاناة، لقد قال صاحبنا في مناسبة سابقةٍ أنّ “الضّرر هائلٌ وجبرهُ صار محجوبًا عن الأفق” وقد تنبّه كاتب سفر الجامعة -المنسوب إلى سليمان ملك بني إسرائيل- إلى هذه الحقيقة الوجوديّة منذ آلاف السّنين فقال:”رأيتُ كلّ الأعمال التي عُملت تحت الشمس فإذا الكلُّ باطلٌ وقبضُ الريح، الأعوج لا يمكن أن يُقوَّم والنقص لا يمكن أن يُجبر”(سفر الجامعة، الأصحاح الأوّل).

ليست محاولات الإصلاح وازدهار سرديات الأمل سوى علامات انحطاط وقصور في استكناه الشرط الإنساني. إنّ أرقى ما يمكن أن يصل إليه عقلٌ بشريٌّ، هو ما وسمناه ب”إرادة الفناء”، تلك الإرادة التي تتحدّى “إرادة الحياة” المفروضة علينَا بيولوجيًا حتّى نُحافظ على بقاء النّوع، إنّ الثورة الوحيدة الممكنة في هذه الحالة هي الثورة على برمجتنا البيولوجيّة وتدمير خطط النظام الطّبيعي الأعمى والتخلّي عن أوهام الخلود الجيني ورفض تمرير المعاناة إلى جيل آخر، أمّا غير ذلك فهو ليس أكثر من مساهمة في استمرار تلك المهزلة /العاهة التي نُسمّيها “الحياة” .

إنّ فكرة الفناء الإراديّ والقول بأفضليّة العدم على الوجود والإقرار بعبثيّة الحضور الإنساني في الكون والخلوص إلى فساد الطّبيعة الإنسانيّة، هي قواعد وجوديّة أصيلة في محاولة فهم الشرط الإنساني، وقد حكمت هذه المقولات تمثُّلات العديد من الأنفس المالينخوليّة طيلة تاريخ الفكر، تلك الأنفس التي قالت لا في وجه حياة لا طائل منها ودعت إلى وقف المهزلة عبر رفض التّكاثر البشري والدعوة إلى مقاطعة الإنجاب، حتّى يتسنّى لنوعنا الفناء بأناقة دون حروبٍ نوويّة أو معارك ملحميّة مثل التي يروّج لها المنتمون إلى السرديّة التوحيديّة الإبراهيميّة(هرمجدون /الملحمة الكبرى /أبوكاليبس سفر رؤيا يوحنّا اللّاهوتي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى