أن تكون أبيقورياً، لا يعني فقط أنك تُعدُّ اللذةَ مبدأَ وعاقبةَ السعادة، و إنما أيضاً رغبةَ أن تكون حُرَّاً، مثلما قال أبيقور، بصددِ حديثه عن الاكتفاءِ الذاتيِّ لدى الحكيم: ” ثَمرةُ الاكتفاء الذاتي الأكثر أهمية هي الحرية “. (حكمة فاتيكانية، 77).
لا نستطيع أن نسيطر إلا على ما يتعلق بنا، لا نثابر، ليس على النضال ضد القوى التي تتجاوزنا، وإنما على إحباط أوهامنا : الوهم وخشية العقابات الداهية، الوهم بالحزن على موتنا، أو أيضا الوهم الذي يُنتج الحب العاطفي والاستحواذي، الذي يجعلنا نتخلى عن رغبات الذات العاشقة ورغبات الذات العاشقة لصورتها. إذن، من الضروري العمل على السيطرة، داخلياً، على كل ما هو قابل لسلبنا وكل ما هو قابل لكي يسلبنا إرادتنا.
ومع ذلك، ما الذي يجعلنا نعتقد بالقدر كقدرةٍ تعرقل حريتنا وترفض آخر الأمر بسخرية نياتنا و إرادتنا ؟ نقول بطيبة خاطر “إنه القدر”. آنذاك، نسعى إلى أن نملأ فراغ الشروحات، كأن هذا الغياب، غياب البراهين غير محتمل، كارثي، مرعب في الحقيقة، وكأن التمسك بالقدر يقوينا، آمان زائف، هكذا صرح لوكريس، ذلك الذي يرى جيداً النـزعة الإنسانية العتيقة نحو الآلهة للوقوف برسوخ أمام الغامض: “استعانة (القدماء) بالآلهة هي إذن، الاتكال عليهم والخضوع لأدنى إشارةٍ منها”.
(لوكريس، عن طبيعة الأشياء، الجزء الخامس، 1186*1187)
في الحقيقة، بدلاً من التحرر، تتقيد الإنسانية، بفعل الخرافة والشفقة/ الرثاء الزائف، أي بالنظر إلى الروح الساكنة” (1203). حينما صرح، بتعابيره، عن سلام الروح، صدم قراءه بعنف. في الواقع، تحيا العصور القديمة مع القدر والصورة التي تتغذي بوفرة على أشكال الميثولوجيا اليونانية الكبيرة. الأبيقوريون، بعد المأساويات، أوضحوا أن هذا التمثل للقدر غير محتمل بحيث أنه يغتصب مسؤلياتنا وينكر الوضعية المأساوية: نحن نحيا تحت سلطان القدر والمسؤليات في آن معا. هكذا، في: “آجاممنون” لاخيلوس، كل شيء خاضع لسيطرة القدر القاسي، حتى أن أجاممنون يقرر التضحية بابنته ايفجيني لكي تكون الرياح مواتية للأسطول اليوناني الذي يتجهز ضد تروا TROI: “إذا كانت هذه التضحية، هذا الدم البتولي يصفد الرياح، بحدة، حدة كبيرة، نتمناه بلا جريمة. فليأت بسلامنا!”. (214* 217). من ناحيته، لم ير لوكريس شيئا آخر، عما يجبر آجاممنون على الفعل، سوى أكاذيب الاعتقاد (عن طبيعة الأشياء، القسم الأول، 101)
مع ذلك، عرفت الحرية الأبيقورية عدواً غير القدر التقليدي: جملة الإكراهات الطبيعية التي نخضع لها، “قدر الطبيعيين” (أبيقور، خطاب إلى مينيسه، 134)، أو أيضا “الضرورة” (أنا نكيه). مفارقاً، عقيدة أبيقور ليست فقط العقيدة التي تنفي التدخل العلوي في تنظيم العالم ومجرى الأحداث، و إنما أيضا تلك التي استلهمت المبادئ الكبرى لفلسفتها الطبيعية، يتعلق الأمر بطبيعة الديموقراطية (بين 460 ق. م و360 ق.م). تشرح جميع الظواهر خلال الحركات ولقاءات الذرة في الفراغ الذي يفصل بين هذه الذرات.
روج الأبيقوريون لفكرة أن أفعالنا محددة بآلية ذرية دقيقة، أي بحتمية طبيعية، لن تمكننا من تصور النشاط المختار بملء حريتنا، ولن تساعدنا على إيجاد بيان المسؤلية. الضرورة تقوض الأخلاق، تقلق روحنا وتنتج شقاءنا.
إذن، اجتهد الأبيقوريون في إظهار الضرورة وهي تقوض الأخلاق، تقلق روحنا و تنه شقاءنا.
إذن، اجتهد الأبيقوريون في إظهار الضرورة الطبيعية، بالرغم من كونها حقيقية* نحن مركبات ذرية، خاضعة لآثار ميكانيكية، وروحنا أيضا آلية* ليست قادرة. لوكريس، ضد القدر التقليدي، ضد قدر الفلاسفة الرواقيين(1) وضد الضرورة الديموقراطية.. كشف، بوضوح، أن هناك مبدأ الحركة الحرة، في الطبيعة، “الذي يحطم قوانين القدر”. هذا المبدأ هو “الكلينامين” CINAMEN الانحراف الذري (عن طبيعة الأشياء، القسم الثاني، 216*293). في الواقع، لا تكتفي الذرات بالسقوط في خط مستقيم، محملة بثقلها إلى اللانهائي، بدون أن تتنافس أبداً، و لا يستطيع أي عالم وأي جسد أن يتكون بالتالي. إذن، “مطر” الذرات معاكس بفعل انحراف طفيف لمحركها. هذا الانحراف تطور صدفوي يدرج تصدعا في الترابط الآلي للأسباب. إذا، ينكر المبادرة المتعمدة، المسعى الإرادي، إذ أنه يفترض أننا غير محددين، بالكامل، بالوضع السابق للمادة . تطرح هذه العقيدة مشاكل التأويل ومعبر الظاهرة الطبيعية للانحراف إلى آثاره البسيكولوجية والإشكالية. بيد أنها تبدد مشكلة الحتمية بإدراجها في طبيعة مبدأ الغموض النسبي. وبما أنها تخلق شيئاً من اللعبة الوظيفية في الآلية الوظيفية، تخلي مكانا للفعل الحر.
ومع ذلك، لم يكن ما سبق الحجج الوحيدة التي وجهها الأبيقوريون إلى الحتمية، أبيقور، نفسه، قابلها بحجة حاذقة وقوية، تكشف أن الحتمية الطبيعية تدحض نفسها بنفسها “كل من يقول أن كل شيء يتأتى بمقتضى الضرورة لم يلم من قال أن كل شيء لا يتأتى بمقتضى الضرورة، لأنه قال أنه (هذا لتأكيد الأخيرة) يتأتى بمقتضي الضرورة “(حكمة فاتيكانية، 40). يجب أن تفهم الحجة على مستويين: في المقام الأول، تعني* من وجهة نظر الحتمية ذاتها*، بالرغم من جسدها المدافع، الوضع النقيض للحتمية وضع مبرر، في المقياس الذي يرى الوجود نفسه وحقيقة العرض الذي يعبر عنها ضرورين. إذن، يترجم التأكيد وضع الحتمية الضروري.. إذن، هي ضرورية. في المقام الثاني، تتموضع الحجة على مقدمة منطقية ضمنية بحيث أن الحتمية تؤكد على أطروحة تضطلع بحقيقة الأطروحة التي تثبتها: من الضروري أن تضطلع الحتمية، شخصيا، بأطروحتها (P) لكي تستطيع تدعيمها ودحض المدافعين عن الأطروحة النقيضة لا (P).
مع ذلك، لكي يستطيع أن يدحض أطروحته النقيضة، يفترض أن كل فرد مسئول ذاتياً، مما يجعله يقبل “أن كل شيء لا يتأتى بمقتضى الضرورة”، بالنظر إلى “الـ لا P” منذ ذاك، تدحض الحتمية ذاتها لأنها تضطلع ب”P” ” ولا “P” في آن معاً. هكذا، قضي على الحتمية بواسطة ضرب من “مبدأ السلطة”* كل إنسان مؤلف أو مسؤل عن أقواله وأفعاله*، الذي كان شرطاً من شروط كل نقاش برهاني، وأيضا كل تقييم للمسئولية.
إذن، للحجة وجهٌ إيجابي: باسناد مبدأ السلطة إلى “الحتمي”، وضع الحرية قبالة كل حركاتنا الإرادية، قبل أن نستطيع قياس آثارها وأن نطرح أسبابها. منذ ذاك، التفكير* جوهريا* فعل حر، حتى أن فعل التفكير أو الفعل، في ذاته، تأكيد ومظهر لحريتنا، فضلا عن محتوى الفكر أو القيمة الأخلاقية للفعل، نفي الحرية، أي نفي الوضوح، مما لا يعد خطيئة أخلاقية فقط، وإنما أيضا، بالنسبة للأبيقوري الخطأ الأكبر لما يمكن أن نقترفه.
نخطيء لما نضع الأبيقورية مقابل إثبات الحرية، تحت ذريعة أنها مادية آلية من جهة، يعد الأبيقوريون آلية حاذقة تخلي مكانها للصدفوية، من جهة أخرى، لا يطرحون أسئلة على هذه المصطلحات. لا تعتبر المشكلة الأبيقورية إثبات الحرية وإنما السماح باختبارها، بتحرير الرغبات التافهة، والرعب الذي لا يمتلك أي أساس، والخرافات أو ثقل القيود الاجتماعية لا تتبدى الرغبة الأبيقورية للحرية لحلم بعيد أو كمثالية خيالية، لأننا، حقيقة، أحرار.
هامش :
(1) الفلسفة الرواقية، نسبة إلى “الرواق” الذي كان يجتمع فيه أتباع زينون، وهي فلسفة تقول بأن كل شيء في الطبيعة إنما يقع بالعقل الكلي ويقبل مفاعيل القدر طوعاً “المترجم”
______________
* بيار* ماري موريل
ترجمة: أحمد عثمان / أخبار الأدب .