الناقدة المسرحية زهراء المنصور تكتب في عدد “التقدمي” الأخير عن العرض المسرحي: “صولو”
“لم يكن هناك زمن أكثر قسوة من زمننا، لكننا – مع ذلك – لم نسمح للجانب الإنساني في الإنسان أن يموت”.
فاسيلي غروسمان/ كاتب روسي
تحمل الذاكرة الحاضرة والمتخيلة قصصا مروية عبر التاريخ عن الحروب التي تخلف خسائر لا حصر لها؛ بشرية ومادية ونفسية. ورغم أنها تتسبب في تعطيل الزمن من عمر الإنسانية، نحو التطور والإنجاز، إلا أن لا أحد قادر على إيقاف آلة الحرب التي يوقظها مغامرون عابرون، تنتهي أعمارهم بعد حياة طويلة يقضونها في الدمار والخراب والقتل. و”صولو”، المسرحية المعدة بعناية عن قصة “رائحة الدم”، للكاتب مصطفى محمود، أو كما كتبها المخرج “أنشودة الدم”، تدخل في دهاليز الحرب، وما جانبها، وما خلفته من أثر نفسي لدى بطلي المسرحية. فالجندي السابق (عمار زينل) الذي يحرس المكان/ المضيف/ المقبرة، قد عانى أشد الآلام النفسية في القسوة التي جابهته وهو يرى تناثر الدم في كل جانب، وسقوط القتلى في منظر مهيب، “وكانت هذه السماء مضيئة بآلاف القناديل، ولولا صرخات الموت هنا وهتاك لخيل للواقف أنه في محفل سماوي رائع. إن منظر الدم يسكر.. أقول إن منظر الدم يسكر، ولا يعرف هذه الحقيقة إلا من جربها”(1). وكان قدر هذا الجندي أن يبقى في هذا المكان بقرار منه، بعد أن زامل كل الموتى حوله في المعركة، وقرر أن يكون مثواه الآني والتالي هنا أيضا، خصوصا بعد وصفه الدقيق لموت صديقه وهو يحتضنه، منتشيا بنصر كاذب، وحرب لا تعرف إلا الخسارات، حتى وإن كانت النتيجة “نصرا”.
هذا الديالوج يبدأ بدخول الغريب (مهدي سلمان)، حاملاً آلة التشيلو بغطائها المثير لصوت الموسيقى، متلعثما، وتبدو التأتأة جلية في كلامه، يطلب مكانا للنوم بأدب جم، يأكل بأناقة ما ضيف به، وهو يستمع بإنصات إلى حوار طويل للجندي الذي اقترب في بعض تفاصيله إلى حديث النفس، ليبين مدى القسوة التي تعرض لها كثيرا، وخلقت منه هذه التجربة شخصاً آخر، قرر أن ثمة ولادة جديدة له في هذا المكان، ومرقد أخير، ويمني نفسه بليلة غارقة بالفن مع الغريب الذي بدا وجهه مألوفا له جدا. ولا يستغرق الأمر طويلا حتى يكشف الغريب عن هويته، عندما يطلب منه الأول أن يعزف على آلته الموسيقية التي كانت عبارة عن مدفع رشاش! كان هذا الغريب المتلعثم قائدا عسكريا اشتاق للقتل، فعاد يبحث عن من يمكن قتله! هذا الشعور الصادم الذي خلَّفه القائد للمتلقي نابع من كون الصورة الأولى المختلفة كلياً عن شخصيته الحقيقية، التي لم يتوانَ عن التصريح بها بعبارات أجاد المعد/ الممثل/ المخرج إبرازها من النص الأصلي للمسرحية، عبارات مثل هذا الحوار:
-إنها صناعتي الحقيقية.. إني قاتل، صناعتي القتل.. أما الموسيقى، فهواية أمارسها في وقت الفراغ.
– ولكن – يا سيدي – ماذا تريد أن تقتل هنا؟ إن كل من تراهم هم قتلى بالفعل! أكثر من ثمانين ألف قتيل تحت هذا التراب!
– إذن لا مفر من إحيائهم من جديد، لأقتلهم ثانية! هذه سُنَّة الحياة.
– ومَنْ وضع هذه السُّنَّة؟
– القادة المصلحون، أمثالي!
– وهل القادة والمصلحون صناعتهم القتل؟
– نعم، يها الأحمق. لابد أن يكونوا قتلة لينظفوا الأرض من الحثالة القديمة، ويعدُّوها لغرسهم الجديد!! ص (2)
ومن المهم الإشارة إلى الفهم الكامل للنص في إعداده، حيث تدور القصة الأصلية حول جندي يقترب حديثه من الهلوسة، عن واقعة زيارة القائد حامل الآلة الموسيقية، لدى راوي الحدث، فيتداخل الحدث بين الواقع والحلم نظراً لما حملته شخصية الجندي من سمات، وضعت الحرب آثارها عليه. فاقتصار الحدث على الشخصيتين الرئيستين أضفى للحدث واقعية أكثر، رغم الإشارة للحلم عبر الإضاءة الزرقاء الدالة على الحلم في أكثر من موقع أثناء الحوار.
أيضاً، لم يكن الوعي أثناء الإعداد هو الحسنة الوحيدة، بل الاختيار أيضاً للممثلين في دوريهما: القائد العسكري بتعابير وجهه المستكينة – بالبداية – والتأتأة المستمرة أثناء الحديث، وهي ابتكار المعد، لعدم الإشارة إليها في النص الأصلي، حيث يضطرب جهاز الكلام، أو يعمد إلى تكرار كلمات أكثر من مرة، في الحالات العادية تصنف أنها عائق تواصل، مما يؤدي إلى العزلة الاجتماعية، والقلق من المواجهة، والخوف من التحدث، خاصة في العلن، وإقران التلعثم بشخصية القائد الشرسة، عاشقة الدم والموت، وصوت السلاح الذي يغلفه بغطاء الموسيقى –مجازاً – في إشارة إلى طربه لصوت الموت. غير أن علم النفس يرجع التأتأة لهذا النوع من الشخصيات إلى أن الأشخاص الذين لديهم مشكلات نفسية وانفعالات في التفكير تؤدي أن تكون طريقة الكلام أو إيقاعه لا يشبه هذه الشخصية المسرحية، التي أجاد فيها مهدي سلمان الشاعر أولاً ذو الصوت الرخيم/ القوي توظيف صوته وانفعالاته لخدمة الشخصية القوية/ الحازمة/ الجازمة، بأن لعبة القتل الفردية لا تروقه! حتى كتلة جسمه الأطول والأثقل، مقارنة بزميله الجندي الأقل منه مكانة في الترتيب العسكري، نبرة الصوت التي أخذت موضعها في شخصية القائد المزدوجة، وأيضاً في مونولوجات الجندي، الذي رغم طولها أحياناً ألا أن فهم الممثل لطبيعة النص والحدث وتقلب الشخصية وصدق الأداء، ووصف الحدث كأنه مازال ماثلاً أمامه، لم يثر في المتلقي أي شعور بالرتابة أو الملل، لأنه نجح في التوصيف والمعايشة وصدق الأداء، عوضاً عن الانتباه لسلامة الحوار وحسب.
وكان لاختيار قاعة العرض في (ساحة مشق للفنون)، دون أن يكون المكان مهيئاً تقنياً لعرض مسرحي له وجهان متضادان؛ فالقطع الموجودة بالمكان أصلاً، وطوعت لصالح العرض، قد نجحت في إضفاء واقعية للحدث من ناحية كونه مكان ضيافة بشكل ما، أما الإضافات التي اجتهد فريق العمل في تكوينها حتى تظهر بمؤثر الدبابة، لم يزد في العرض الذي كان ممثلاه يؤديان بما يكفي لإثارة خيال المتفرج بالدبابة التي جاءت تهشم كل من يقف في طريقها بصوتها الأرعن القبيح. وما ينطبق على القطعة التي استخدمت كدبابة، ينطبق على المؤثر الصوتي للسلاح الذي يفترض أنه جزء حميمي من القائد كأداة متعة. “إنك لن تستطيع أن تصبح قائداً، إلا إذا استطعت أن تقتل وأنت تغني. لن تستطيع أن تصنع الحياة، إلا إذا صنعت لآخرين الموت.. هذه سُنَّة الوجود!” (3). فإذا أحس المتلقي أن السلاح الذي يتباهى به القائد جزء مكمل/ مفصول، وليس أساسياً في التخلي عنه على الطاولة، أو عدم انسجام المؤثر الصوتي مع الأداء، حين يبين القائد نشوته في الطلق الحر بالهواء، ليبين أن صوت الرصاص يشجيه، ويحبه، ويتعامل معه كأنه جزء من جسده، لأنها في مكونه الضمني الداخلي.
وكذلك، في العروض التي تعتمد على الإضاءة بشكل رئيسي، كما في هذا العرض، لابد من التركيز على التحولات التي تنشأ في تطور الشخصية، لإيضاح التغيير الذي صاحبها، وقد حدث هذا بالفعل حتى أثناء المونولوجات، لكن كانت هناك كثرة لونية أخلَّت بالمعنى المنطوق، إضافة إلى أن تأثير الإضاءة المباشرة على المشاهدة، نظراً لأماكن وجودها المختلفة تماماً عن خشبة المسرح، والتي يتم تثبيتها بطريقة لا يلاحظ المتفرجون إلا تأثيرها. ورغم أن العرض لم يستدعِ وجود الجمهور على الخشبة -المفترضة-، كما يحدث في العروض التي تكسر الحاجز الرابع، بذل الممثلون جهدهم ليتمكن الجمهور – من الطرفين – مشاهدتهم، بسبب توزيع أماكن الجلوس بما يتناسب مع مساحة المكان المفتوحة التي استقبلت من قبل عروضاً مسرحية ذات حضور جيد، وإمكانية استقبال جمهور كافٍ لإقامة ثلاثة عروض ممتعة للجمهور.
أخيراً: من المهم التنبُّه إلى التغيير الذي أضافه المعد مهدي سلمان في تغيير اسم العمل؛ من رائحة الدم، أو أنشودة الدم، إلى صولوsolo ، والتي تحيلنا تلقائياً إلى التعبير الموسيقي المقصود به: العزف المنفرد على آلة، وعن الربط الذي فعله سلمان بين المزاج الحربي للقائد، حامل غطاء الآلة الموسيقية/ المدفع الرشاش، وعن العلاقة التي أشرنا إليها، وعن الجندي التوَّاق للحياة والجمال، ويطلب الشعر والموسيقى، وهو في حضرة الموت، وخارج من حرب مدمرة، بات فيها معظم أقرانه ممن لم يغادروا المكان إلى بلدانهم تحت التراب الذي يحيطه ويحرسه، وإلى المعنى الموسيقي المباشر الذي يتركه العزف المنفرد لجمهور يراه ويسمعه، سواء كان عزفه على التشيلو.. أو المدفع الرشاش.
(1) مصطفى محمود، رائحة الدم، الأعمال الكاملة للدكتور مصطفى محمود، قطاع الثقافة، ب ت، ص (26)
(2) نفس المرجع السابق، ص 36
(3) نفس المرجع السابق، ص 38