لقد قيل عن أوسكار وايلد بلسان أحد معاصريه أن كل ما كان يتحدث به كان يبدو وكأنه مغلّف ضمن علامتي الاستشهاد. وهذا القول ليس أقل صحة من كل ما كتبه أيضاً، وذلك لأن مثل هذه الحالة كانت النتيجة لاتخاذ وضعية معينة (pose)، الأمر الذي عرّفه وايلد بأنه “إدراك أساسي لأهمية التعامل مع الحياة من منطلق محدد معقول”.
أو مثلما يكيل آلغرنون الصاع صاعين لجاك حين اتهمه قائلاً: “أنت تحب دائماً أن تجادل حول الأشياء” فأجابه ” ذلك بالضبط ما جاءت الأشياء من أجله” في مسرحية وايلد المعنونة بـ “أهمية كون المرء جاداً”.
وبما أن أوسكار وايلد كان على الدوام مستعداً لإطلاق التعليقات الجديرة بالاستشهاد، فقد ملأ مخطوطاته بالأقوال المأثورة عن كل ما يمكن أن يتخيله المرء من موضوعات، إن ما كتبه كان المقصود به مزيداً من التعليق أو الاستشهاد، أو كان المقصود به، وهذا أهم من سابقيه، أن تعود به الجذور إلى وايلد نفسه. ومن الواضح أن هناك أسباباً اجتماعية لبعض هذا الغرور الذي لم يقم وايلد بأية محاولة لإخفائه في سخريته. “إن محبة المرء لنفسه لهي بداية قصة رومانسية طويلة طوال الحياة”، ولكن تلك الأسباب لم تكن لتنوء بعبئها على الفصاحة في أسلوب وايلد.
وبعد أن آلى وايلد على نفسه على الاستخفاف بالعمل والحياة والطبيعة نظراً لنقصانها وتناثرها، اتخذ مملكة له ذلك العالم المثالي النظري الذي كانت فيه المحادثة، كما قال لآلفريد دوغلاس في كراسته المعنونة بـ “من الصميم” (De profundis) ، أساس العلاقات البشرية كلها.
فبما أن الشجار يعوق المحادثة كما فهمه وايلد من الحوار الأفلاطوني، فإن نمط التحادث كان يجب أن يتخذ شكل القول المأثور، فهذا القول المأثور المقتضب هو، بالمصطلح الذي أطلقه عليه نورثروب فراي، وسيلة الأداء الرئيسة لدى وايلد: لفظة موجزة متراصة قادرة على التعبير عن أطول سلسلة من الموضوعات، وعن أعظم نفوذ، وعن أدنى التباس حيال كاتبها. وحين غزا وايلد أشكالاً أدبية أخرى حولها إلى أقوال أطول من السابقة. وهاكم ما قاله عن المسرحية: “لقد تناولت الدراما، وهي أكثر الأشكال الموضوعية المعروفة للأدب، وجعلت منها أسلوباً شخصياً للتعبير، شأنها بذلك شأن القصيدة الغنائية والقصيدة القصيرة، ووسعت في الوقت نفسه مداها وأغنتها بالشخوص”. ولذلك فليس من المستغرب أن يكون قد قال: “لقد أوجزت كل الأكوان في عبارة، وكل الوجود في قول مقتضب”.
إن كراسة “من الصميم” تدون الدمار الذي يحل بالمدينة الفاضلة “utopia” التي كان وايلد قد بشّر بفردانيتها ولا أنانية أنانيتها في كراسته “روح الإنسان في ظل الاشتراكية”. فمن حياة مفعمة بالحرية إلى السجن ومعاناة كل أصناف الشقاء، كيف، يا ترى، تأتي إنجاز التغيير؟ إن تصور وايلد للحرية يوجد في “أهمية كون المرء جاداً” حيث تتكشف الشخصيات المتصارعة على أنها أخوة في خاتمة المطاف ولمجرد أنها تقول بأنها أخوة. إن الشيء المدون (كجداول الجنود التي كان يراجعها جاك) لا يفعل شيئاً إلا توكيد كل ما كان قد قيل سابقاً بنزق، ولكن بفخامة.
فهذا التحول من الخصومة إلى الأخوة هو ماكان في ذهن وايلد لربط تكثيف الشخصية بتكاثرها.
فحين يبتلي تبادل الآراء بين البشر بانعدام حرية التحادث، وحين يكون مقيداً بالموافقة القانونية على الطبع وحسب، الأمر الذي يعني تعذر الاستشهاد به بصراحة ويعني أيضاً، لأنه حظي بالتوقيع الرسمي، أنه صار موجباً لإقامة الدعوى الجنائية فإن المدينة الفاضلة تتقوض وتتداعى. وحين أعاد وايلد التأمل بحياته في “من الصميم” تسمّر خياله من هول آثار نص واحد على حياته. ولكنه يورده ليبين كيف أنه في انتقاله من الكلام إلى الطباعة، الأمر الذي تتفاداه بمعنى من المعاني نصوصه الأخرى الأكثر حظاً من ذلك النص، وتفادته كيفما اتفق بفضل تفردها بالاقتضاب، تعرض وايلد للتدمير.
إن حسرة وايلد في المقطع الوارد أدناه تتمثل بأن النص يشتمل على أكثر مما ينبغي، لا على أقل مما ينبغي، من الواقع الظرفي. ونظراً لذلك فإن النص يصبح، بمفارقة وايلدية، عرضة للمخاطر:
إنك أرسلت لي قصيدة جميلة جداً، شعرها من أشعار الطلاب غير المتخرجين من الجامعة، لأبدي استحساني عليها: وهأنذا أجيب برسالة مليئة بالأفكار الأدبية الوهمية.. انظر إلى تاريخ تلك الرسالة. إنها تنتقل منك إلى يدي زميل كريه، ومنه إلى عصابة من المبتزين، ومن ثم نسخ منها تدور في لندن لأصدقائي، وإلى مدير المسرح الذي يجري تمثيل عملي فيه: وكل ما يخطر على البال من تفسيرات توضع فيها إلا التفسير الصحيح: فلقد ثارت ثائرة الجمعية من الإشاعات الخرقاء حتى وجب علي أن أدفع مبلغاً كبيراً من المال لأنني كتبت لك رسالة شائنة: وهذه تشكل صلب أقذع تهجم لأبيك: وإنني سوف أبرز بنفسي الرسالة الأصلية في المحكمة لأكشف لها عن حقيقة الرسالة، ولقد كانت موضع التشهير من قبل محامي أبيك الذي وصفها أنها محاولة خبيثة فياضة بالتمرد لإفساد الناشئة الأبرياء، وفي خاتمة المطاف تشكل هذه الرسالة جزءاً من الإدعاء الجنائي، ينشغل بها التاج، وينظم بها القاضي حكماً بفهم قليل وخلق كثير، وأخيراً أدخل السجن من جرائها. وهكذا تكون النتيجة لكتابتي لك رسالة رائعة.
*من كتاب: The W o r l d , The T e x t , And The C r i t i c
Edward W. Said
سأقول لك حقًا أنك ملأتني بروحٍ ما هنا ..
أحببت كل امتدادات النصوص هنا ، سأمرُ دومًا
بوركت
مرحباً بك يا جهاد.
أنت على الرحب والسعة دوماً، رجاءً ابقَ في الجوار.