لا بد من الاعتراف بأن الحديث عن موضوع كتابة الأدب خارج المكان الأصلي/الأوّل يبدو، الآن بالذات، ترفاً، لأن هناك بالتأكيد من غرقوا في اليومين الأخيرين وهم يحاولون عبور المتوسط إلى حياة أفضل وأقل موتاًّ. لكنهم ماتوا بصمت، بعيداً عن أعين الكاميرات وافترسهم ذلك الوحش الهائل والذي اسمه النسيان الجمعي. وهو وحش تزداد شراسته ونهمه مع أعراق وأقوام وطبقات دون غيرها.
ليس ما سأقوله اليومَ وصفةَ، بأي شكل من الأشكال، بل هو وصفٌ لتجربتي الشخصية وهي محكومة، بالطبع، بسياقها وبالصدف، وبالحظ أيضاً، إضافة إلى القناعات.
سألني صديقي، السينمائي العراقيّ المقيم في نيويورك، ذات مرة، ونحن نجلس في ساحة «واشنطن سكوير»: «لماذا لا تكتب رواياتك بالإنگليزية مباشرة؟» فأجبته بسؤال عكس استغرابي: «ولماذا لا أكتبها بالعربية؟»
قال:«كم نسخة تبيع رواياتك، مهما كانت ناجحة؟ ١٠ آلاف؟» قد تضمن لك الكتابة بالإنكليزية مباشرة أضعاف هذا العدد وتفتح آفاقاً كثيرة أمامك. أستعيد سؤال صديقي، ونسخة أطول من إجابتي عليه يومها، كمنطلق لمداخلتي القصيرة اليوم لطرح أسئلة عن خيارات أو ضرورات الكتابة باللغة الأم، أو بغيرها، وعن تبعات ذلك ومعانيه.
كانت إجابتي الأولى هي أنّني، وبكل بساطة، أحب اللغة العربية، بل أشعر أنني محظوظ لأنها لغتي الأمّ. واستعدت كلمات مظفّر النوّاب: «كم أنت تحبّ الخمرة واللغة العربية والدنيا». وليس هذا انتقاصاً من الإنگليزيّة، التي تربطني بها علاقة خاصّة، والتي أستخدمها بالطبع بشكل يومي قراءة وكتابة ومحادثة. لكن مهما تمكنت منها، فإن طبيعة علاقتي باللغة العربية تختلف. فمعها أجدني أمام محيط، أغرف منه وأغوص في أعماقه وأكتشف كنوزه كل يوم و«أرى ما أريد.» كما أنّني، بالقراءة والكتابة بالعربية، أنتمي إلى سلالة، ورثتها، واخترتها في ذات الوقت، لا يمكن أن أفرّط بها. وذكرت له منها، على سبيل المثال، اسمين، وكأنّني استنجد بروحهما وبمثالهما. سرگون بولص، الذي عاش في كركوك، وبغداد، ومن ثمّ بيروت، قبل أن يستقرّ في سان فرانسسكو والذي كان يزور برلين كثيراً ومات فيها. وظل يكتب بالعربية (وعن العراق، لأن السؤال الآخر الذي يُطرح، أحياناً، هو لماذا تكتب عن بغداد ولا تكتب عن نيويورك؟) حتى بعد أكثر من أربعة عقود قضّاها في الولايات المتحدة وكان قد أتقن الانكليزيّة. وأضفت إليه واحداً من كتّابي المفضّلين، العراقي سمير نقّاش، الذي هُجِّرَ من بغداد، مع غيره من آلاف اليهود العراقيين، عام ١٩٥٠، إلى فلسطين، عندما كان في الثانية عشرة. والذي كتب كل أعماله بالعربيّة ورفض أن يجرّب، أو حتّى يفكّر بالكتابة بالعبريّة، كما فعل سامي ميخائيل مثلاً، والتي كانت ستضمن له، بكل تأكيد، جمهوراً أوسع واعترافاً أكبر من المؤسسة الأدبية والثقافية ودعماً رسمياً وفرصا أكبر للترجمة إلى اللغات الأوربية. وأسباب رفضه تعود لموقفه من الصهيونية بالطبع وهوسّه بالعربية وبمحكيّات بغداد التي تطفح بها رواياته.
قلت لصديقي، الذي كان حديث العهد بالإقامة في الولايات المتحدة، إنّه وبالرغم من إطّلاعه الجيد على ثقافتها السينمائية والأدبية، حتى قبل خروجه من العراق، فقد لا يعرف تضاريس سوق النشر الأدبي وخرائطه. وأنه ربما كان يقيس الأمور بمسطرة تعتمد على تجربته ومعرفته بسوق السينما. قد يكون النص السينمائي الأجنبي، نسبياً، أكثر مرونة وقدرة على المناورة وعلى عبور الحواجز. حدّثته عن الضرائب الرمزيّة التي يتم جبيها، والتي يتعيّن على الكاتب، في معظم الأحيان دفعها، من دمّ نصّه، حين يكون النص وكاتبته أو كاتبه قادماً من منطقتنا ومناطق أخرى من جنوب الكوكب. وما أعنيه هو الثيمات المفضّلة.
ليس سرّاً أن أحداث الحادي عشر من أيلول وطريقة التعامل معها ومع تبعاتها وتداعياتها اعتمدت وأعادت ترسيخ الأرشيف الاستشراقي والمقاربة الثقافوية أو ما يسميه محمود ممداني ”كلام الثقافة.“ وما يعنيه هذا أن الاهتمام المتزايد بالثقافة العربية، وهذا يشمل الأدب، بالطبع، كان من صنف ما أسميه أنا “forensic interest” أي اهتمام وبحث الطب الشرعي الذي يسعى إلى اكتشاف تفاصيل الجريمة.
وهذا يضاف إلى المقاربة المختلفة أصلاً التي كانت تعامل الأدب العربي الحديث بشكل لا يخلو من استشراقية وتهميش واختزال. وأنتم تعرفون مقالة إدوارد سعيد الشهيرة «الأدب المحظور» التي يتحدّث فيها عن رد فعل إحدى دور النشر الأمريكيّة على اقتراحه بنشر نجيب محفوظ، وذلك قبل فوزه بنوبل، وكان ردّها أن اللغة العربية «مثيرة للجدل».
وهناك من بدأت أسمّيهم، شخصيّاً، قرّاء الصفوف الأولى. هؤلاء الذين أكتب لهم وعنهم، بوعي أو بدونه. هؤلاء هم الذين أخاطبهم بشكل رئيسي. وهم القراء في العراق وفي شتاته، وفي المنطقة، ولغتهم الأولى هي العربية. الروايات بالنسبة للكثير من هؤلاء أكثر بكثير من أن تكون نصوصاً أدبية للتسلية وحسب. وسأغامر بالقول إن علاقتهم بها، في هذه الحقبة الكارثية من تاريخ المنطقة، التي يعمّ فيها الخراب والتي تحولت فيها مدن بأكملها إلى مقابر وتم تدمير النسيج الاجتماعي وتشريد الملايين، علاقة أعمق وأكثر تعقيداً.
مع أن المقالة نشرت عام ١٩٩٠ وأن الكثير تغيّر وازدادت وتيرة الترجمة والنشر وساهمت دور النشر الصغيرة والجامعية، في الولايات المتّحدة، في إغناء المكتبة الإنگليزية بالترجمات، إلا أنّ الإشكالية ما زالت قائمة. كما أن اللغة العربية أصبحت، بعد كل الأحداث التي عصفت بالعالم مذّاك، أكثر جدلاً، بل أضحت، في حالات كثيرة، مذنبة وينظر إليها على أنّها مرتبطة عضوياً بالعنف وبثقافته. وهذا ينسحب، في كثير من الأحيان، وبدرجات مختلفة وبشكل غير مباشر، على تلقي الثقافة التي تكتب بها.
لا يُقرأ النص الأدبي المترجم عن العربيّة، في معظم الأحوال، كغيره من النصوص الأدبية، بل كبحث أنثروبولوجي أو حيّزاً يحفل بالغرائبي الذي يعاد إنتاجه وعرضه وتعليبه بشكل يسهل الاستهلاك لإرضاء غرائر ورغبات وترسيخ سلسلة تصوّرات تهيمن على المخيال الجمعي.
بالعودة إلى سؤال صديقي، ذكّرته أن الذات لن تكون نفسها عندما تستخدم وتكتب لغة أخرى. والأهم أن الشخصيّات التي تعاودني أطيافها وأشباحها، والتي أرغب في تقمّصها، تفكّر بالعربية وتتحدّث محكيتها البغدادية أو الموصليّة. طوابير الموتى والأحياء الذين يريدون ألا تموت حكاياتهم والذين أحاورهم بصمت يتحدّثون العربيّة دائماً. ومع أنّي قادر على الترجمة، إلا أنني لا أريد أن أترجم رواياتهم إلى الانگليزية. فـ «هناك أحزان لا تترجم» كما تقول شخصية نمير في روايتي الأخيرة «فهرس».
أعادني سؤاله إلى سؤال مهم آخر: هل ما يكتبه المرء من أدب موجّه للجميع؟ وللآخرين بلا تعيين أو تحديد؟ يدّعي معظم الكتاب ذلك كثيراً. نظرياً، نعم، لا يكتب المرء لقارئ أو قارئة ما، أو مجموعة معّينة، حين يكون في عرض النص وأمواجه المتلاطمة، وقد لا يفكّر إلا بالنص. وإن تمثّلت له أو لها صورة القارئ فإنه ذلك القارئ الذي لا اسم له ولا معالم واضحة، أو علامات فارقة أو هوية. ومن الطبيعي أن نحلم بأن تصل كتبنا إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء وأن تترجم إلى كل اللغات.
لكنّ هناك علاقة جدليّة أيضاً وتفاعلية بين الكاتب والقارئ الحقيقي الذي يتفاعل مع النص ويعبّر عن رأيه فيه. وتؤثر ردود أفعال القرّاء على علاقة الكاتب بنصوصه. هناك تراتبية ما، بالنسبة لي على الأقل، وبدأت أعيها أو أتخيّلها بشكل أوضح في السنين الأخيرة. فالقرّاء طبقات، لا بالمعنى الاقتصادي، أو لعلهم قبائل وأمم. وهناك من بدأت أسمّيهم، شخصيّاً، قرّاء الصفوف الأولى. هؤلاء الذين أكتب لهم وعنهم، بوعي أو بدونه. هؤلاء هم الذين أخاطبهم بشكل رئيسي. وهم القراء في العراق وفي شتاته، وفي المنطقة، ولغتهم الأولى هي العربية. الروايات بالنسبة للكثير من هؤلاء أكثر بكثير من أن تكون نصوصاً أدبية للتسلية وحسب. وسأغامر بالقول إن علاقتهم بها، في هذه الحقبة الكارثية من تاريخ المنطقة، التي يعمّ فيها الخراب والتي تحولت فيها مدن بأكملها إلى مقابر وتم تدمير النسيج الاجتماعي وتشريد الملايين، علاقة أعمق وأكثر تعقيداً.
المخاطبون، القرّاء، يتقمّصون، معي، ذوات أخرى ويعيشون حيوات أخرى، ويقيمون مؤقتاً ويتجوّلون في مكان اسمه العراق، أصطحبهم إلى ماضيه ومدنه وعالمه السفلي.
يقودني هذا إلى ثنائية العالميّة والمحليّة، والأولى تُذكرُ بكثير من الإيجابية ويراد بها أن تكون مديحاً. لكنها قد تكون عكس ذلك. لكن لا مجال هنا للحديث عن إشكاليات «العالميّة» وطبيعة النصوص التي توضع في هذه الخانة. يكفي أن أقول إنني أفضّل أن أكون كاتباً محلياً!
سُئِل سرگون بولص في واحد من آخر الحوارات التي أجراها (مع مجلة «پارناسوس» الأمريكيّة عن علاقته بالوطن فقال:
«أمريكا بالنسبة لي هي مكان عيش وإقامة وليست وطناً، فأنت لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين. وفي نفس الوقت ليس بمستطاعك أن تعود إلى وطنك ثانية. اللغة العربية، وهي الحبل السرّي الذي يربطني بشعبي وتاريخي، هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملكه.»
قد أسافر من هذا الوطن، بالترجمة، أو بالكتابة وممارسات أخرى، (وأسجّل هنا أنّني، بالرغم من كل ما قلته، أحتفظ بحقّي بكتابة رواية بالانگليزية في المستقبل) لكنّني سأعود إليه وأظل فيه.
اللغة هي البيت.
[مداخلة ألقيت في ملتقى «كتابة (في) المنفى»، برلين، ١٠ تموز. الذي نظمته مؤسة آفاق، بالتعاون مع مؤسسة هينرش بول و EUME]
شيء يجلب الفخر والاعتزاز من اكاديمي عراقي مثقف ، سنان انطون ظاهرة عراقية غريبة تستشعر فيها كل معاني الانسانية والرقي .