(1)
عيد ميلاد دونيا لوكريثيا
في اليوم التالي الذي أكملت فيه أربعين سنة من عمرها، وجدت دونيا لوكريثيا على وسادتها رسالة ذات خط طفولي، مكتوبة بكثير من المحبة:
«عيد ميلاد سعيد يا خالتي!
لستُ أملك نقوداً لكي أهدي إليك أي شيء ولكنني سأدرس كثيراً، وسأنال المرتبة الأولى وتكون هذه هي هديتي إليك.
أنت الأطيب والأجمل، وأنا أحلم بك كل ليلة.
عيد مبلاد سعيد مرة أخرى!
ألفونسو»
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل وكان دون ريغوبيرتو في الحمام منهمكاً في اغتساله وتنظيفاته المعقدة والبطيئة التي يقوم بها قبل النوم.
(فقد كانت النظافة الجسدية، بعد لوحات الرسم الإيروتيكية، هي عمله المفضل لتزجية الوقت؛ أما النظافة الروحية فلم تكن تهمه كثيراً).
وقد تأثرت دونيا لوكريثيا برسالة الطفل وأحست بدافع لا يقاوم يدفعها للذهاب لرؤيته وتقديم الشكر له، فتلك السطور هي دليل على قبولها ضمن الأسرة حقاً.
أيكون مستيقظاً؟ وما أهمية ذلك! إن لم يكن مستيقظاً، ستقبّل جبهته بحذر كبير كيلا توقظه.
بينما هي تنزل درجات السلم المغطاة بالسجاد في البيت الغارق في الظلام، متوجهة إلى غرفة نوم ألفونسو، كانت تفكر: «لقد كسبته إلى جانبي، لقد صار يحبني».
وبدأت مخاوفها القديمة من الطفل تتبخر مثل سحابة ضباب خفيفة تنخرها شمس ليما الصيفية.
لقد نسيت أن تلقي على جسدها الروب البيتي، فهي عارية تحت قميص نومها الحريري الأسود، وتكوراتها البيضاء الوافرة التي مازالت صلبة متماسكة، تبدو وكأنها تطفو في الظلمة التي تقطعها انعكاسات أضواء الشارع.
كان شعرها الطويل مفلتاً، ولم تكن قد خلعت أقراط وخواتم وعقود الحفلة.
كانت غرفة الطفل مضاءة. ـ أجل، ففونتشو يقرأ حتى وقت متأخر جداً! ـ طرقت دونيا لوكريثا بفقرات أصابعها ودخلت: «ألفونسيتو!» وفي مخروط الضوء الأصفر الذي يبعثه مصباح السرير، أطل وجه طفل يسوع مذعور من وراء كتاب لأكسندر دوماس.
خصل الشعر الذهبي المشعث، الفم المفتوح قليلاً بسبب المفاجأة يبدي صفي أسنان ناصعة البياض، العينان البيرتان الزرقاوان الزائغتان تحاولان تبينها في ظلمة عتبة الباب.
بقيت دونيا لوكريثيا جامدة، تتأمله بعذوبة.
يا للطفل الجميل! ملاك منذ مولده، واحد من غلمان تلك اللوحات الفاجرة التي يخبئها زوجها وراء أربعة أقفال.
ـ أهذه أنت يا خالتي؟
ـ أي رسالة جميلة كتبتها لي يا فونتشو. إنها أفضل هدية عيد ميلاد تلقيتها طوال حياتي، أقسم لك.
كان الطفل قد نهض ووقف على قدميه فوق السرير. وكان يبتسم لها وذراعاه مفتوحان.
وبينما دونيا لوكريثيا تتقدم نحوه مبتسمة أيضاً، فوجئت ـ أم تراها حدست؟ ـ في عيني ابن زوجها، بنظرة تتحول من السعادة إلى الاضطراب وتنصبّ ذاهلة على قامتها، ففكرت: «رباه، إنك شبه عارية. كيف نسيت ارتداء الروب أيتها الحمقاء. أي مشهد هذا بالنسبة إلى الصغير المسكين.» أتكون قد شربت كؤوس خمر أكثر مما يجب؟
ولكن ألفونسيتو عانقها: «عيد ميلاد سعيد يا خالتي!» كان صوته الطازج المنطلق دون قلق يعيد الحيوية إلى الليل.
أحست دونيا لوكريثيا بشبح القامة ذات العظام الهشة يلتصق بجسدها وفكرت بعصفور صغير. وخطر لها بأنها إذا ما ضمته بقوة أكبر، فإن الطفل سينكسر مثل نبتة كاريثو. وهكذا. بينما هو فوق السرير، كانا متساويين في طول القامة.
كان قد طوق عنقها بذراعيه النحيلتين وراح يقبلها بحب من خدها. وعانقته دونيا لوكريثيا أيضاً، وانزلقت إحدى يديها إلى أسفل قميص البيجاما ذات اللون الأزرق البحري والحواف الحمراء، وداعبت ظهره وربتت عليه، شاعرة في أطراف أصابعها بتدرج عموده الفقري الهش.
«أحبك كثيراً يا خالتي». همس الصوت النحيل في أذنها، وأحست دونيا لوكريثيا بشفتين نحيلتين تتوقفان عند شحمة أذنها، تدفئانها بأنفاسهما، تقبلانها وتعضانها لاعبتين.
وبدا لها أن ألفونسيتو يضحك في الوقت الذي يتودد فيه إليها. كان صدرها طافحاً بالتأثر والانفعال.
وفكرت كيف أن صديقاتها كن قد تنبأن بأن ابن زوجها هذا سيكون العقبة الكبرى، وأنها بسببه لن تكون سعيدة أبداً مع ريغوبيرتو.
وفي خضم تأثرها وانفعالها، قبلته أيضاً من خديه، من جبهته، من شعره المشعث، بينما كان إحساس غامض، كأنه آت من بعيد، دون أن تدركه جيداً، يتسرب بين فينة وأخرى من جسدها، متركزاً بصورة خاصة في تلك الأجزاء ـ النهدين، البطن، ظاهر الفخذين، العنق، الكتفين، الخدين ـ المعرضة لملامسة الطفل.
«هل تحبني كثيراً حقاً؟» سألته وهي تحاول الابتعاد عنه. لكن ألفونسيتو لم يفلتها، بل إنه تعلق بها وهو يجيبها مترنماً: «كثيراً جداً يا خالتي، أنت أكثر من أحبه».
ثم أمسكت يداه الصغيرتان بصدغيها ودفعتا رأسها إلى الوراء. أحست دونيا لوكريثيا بنقرة في جبهتها، في عينيها، في حاجبيها، في خديها، في ذقنها… وعندما لامست الشفتان النحيلتان شفتيها. ضغطت على أسنانها مضطربة، أيفهم فونتشيتو ما الذي يفعله؟ هل يتوجب عليها أن تبعده عنها بعنف؟ ولكن لا، لا، كيف يمكن أن يكون هناك أدنى قدر من الخبث في التنقل المتقافز لهاتين الشفتين اللتين حطتا لحظة، مرتين… ثلاث مرات على شفتيها وضغطتا بنهم وهما تجوبان جغرافية وجهها.
ـ حسن، والآن إلى النوم ـ قالت أخيراً وهي تفلت من الطفل، وبذلك جهداً أكبر لتبدو أكثر سكوناً مما هي عليه.
ثم أضافت: ـ وإلا لن تستيقظ من أجل الذهاب إلى المدرسة يا صغيري.
دس الطفل نفسه في السرير منصاعاً. كان ينظر إليها مبتسماً. بخدين متوردين ونظرة افتتان. أي خبث يمكن أن يكون فيه! هذا المخلوق النقي، عيناه الفرحتان… الجسد الصغير الذي ينكمش ويتقرقع تحت الملاءات، أليس تجسيداً للبراءة؟ أنت هي المتعفنة يا لوكريثيا! دثرته، سوت وسادته، قبّلت شعره وأطفأت مصباح السرير. وحين كانت تخرج من الغرفة، سمعته يغرد:
ـ سأحصل على المرتبة الأولى في المدرسة وأهديها إليك يا خالتي!
ـ أهذا عهد يا فونتشيتو؟
ـ كلمة شرف!
وفي حميمية السلّم المتواطئة، بينما هي عائدة إلى مخدعها، أحست دونيا لوكريثيا بأنها تتوقد من قدميها إلى رأسها.
وقالت لنفسها مذهولة: «ولكنها ليست حمى». أيمكن لمداعبة طفل غير واعية أن تسبب لها ذلك؟ إنك تتحولين إلى داعرة يا امرأة.
أتكون هذه هي أول أعراض الشيخوخة؟ لأنها في الواقع كانت تلتهب وكانت ساقاها مبللتين.
يا للعار يا لوكريثيا، يا للعار! وفجأة عبرت رأسها ذكرى صديقة خليعة كانت قد أثارت مشاعر الحياء والضحكات العصبية على طاولتها أثناء حفلة شاي لجمع تبرعات للصليب الأحمر، حين روت لهن أنها تنام عارية مع ابن زوجها الصغير الذي يحك لها ظهرها، فتتأجج مثل شعلة.
كان دون ريغوبيرتو مستلقياًَ على ظهره، عارياً فوق الفراش الأحمر القاني المطبع برسوم تشبه العقارب.
وكان لا يكاد يظهر منه على وميض الأنوار المتسربة من الشارع إلى الغرفة مطفأة الأنوار، سوى شبحه الطويل الأبيض، والشعر الكثيف على الصدر والعانة. وقد بقي ساكناً بينما كانت دونيا لوكريثيا تنزلق وتتمدد بجانبه، دون أن تلمسه، أيكون زوجها قد نام؟
ـ أين ذهبت؟ ـ سمعته يدمدم بالصوت اللزج والبطيء لرجل يتكلم بخرخرة الوهم، الصوت الذي تعرفه جيداً ـ لماذا تركتني يا حياتي؟
ـ ذهبت لأقبل فونتشيتو. لقد كتب لي رسالة عيد ميلاد لا يمكنك تخيلها. كنتُ على وشك البكاء من شدة رقتها.
حدست أنه لا يكاد يسمعها. أحست بيد دون ريغوبيرتو اليمنى تلامس فخذها. إنها حراقة، مثل مضخة ماء يغلي. وبحثت أصابعه بتعثر ما بين طيات قميص نومها.
ففكرت بقلق: «أتراه سيلاحظ أنني مبللة». كان قلقاً عابراً، لأن موجة الاحتدام نفسها التي استولت عليها وهي على السلم عادت إلى جسدها، وجعلته يرتعش. بدا لها أن كل مساماتها تتفتح متلهفة وتنتظر.
ـ وهل رأكِ فونتشيتو وأنت بقميص النوم؟ ـ تخيل صوت زوجها ملتهباً ـ لا بد أنك قد أوحيت بأفكار خبيثة إلى الصغير. وربما سيحلم هذه الليلة أول أحلامه الإيروتيكية.
سمعته يضحك متهيجاً. وضحكت هي أيضاً: «ما الذي تقول يا مجنون».
وتظاهرت في الوقت نفسه بأنها تضربه، وتركت يدها اليسرى على بطن دون ريغوبيرتو. ولكن ما لمسته يدها كان سارية بشرية منتصبة ونابضة.
ـ ما هذا؟ ما هذا؟ ـ هتفت دونيا لوكريثيا وهي تضغط عليه، وتشده ـ وتفلته، وتستعيده ـ، انظر ما الذي وجدته، يا للمفاجأة!
كان دون ريغوبيرتو قد رفعها فوقه وراح يقبلها بتلذذ، مرتشفاً شفتيها، ومباعداً ما بينهما. وبينما عيناها مغمضتان، وهي تحس بطرف لسان زوجها يستكشف تجوف فمها، ماراً على اللثتين والحلق، محاولاًَ تذوق كل شيء والتعرف عليه، بقيت دونيا لوكريثيا لوقت طويل غارقة في ذهول سعيد، إحساس كثيف ونابض بدا وكأنه يلين أعضاءها ويفتحها، ويجعلها تطفو، تغرق، تدور.
وفي عمق ذلك الإعصار اللذيذ كانت هي، والحياة، وكأنها تطل وتختفي في مرآة تفقد زئبقها، ترسم أحياناً وجهاً دخيلاً لملاك أشقر. كان زوجها قد رفع قميص نومها وأخذ يداعب إليتيها في كرة دائرية ومنهجية، بينما هو يقبل نهديها.
سمعته يدمدم بأنه يحبها، ويهمس بعذوبة أن حياته الحقيقية قد بدأت معها. قبلته دونيا لوكريثيا من عنقه وعضعضت حلمتي صدره إلى أن سمعته يتأوه، ثم لحست ببطء عشي إبطيه اللذين يهيجانه كثيراً، واللذين كان دون ريغوبيرتو قد غسلهما وعطرها لها بعناية قبل أن ينام. سمعته يخرخر مثل قط مدلل، يتلوى تحت جسدها. وأخذت يداه المتسرعتان تبعدان ما بين ساقي دونيا لوكريثيا بشيء من الحنق.
تجلسانها القرفصاء فوقه، تريحانها، تفتحانها. أنّت متألمة ومستمتعة بينما هي ترى في زوبعة مشوشة صورة للقديس سيباستيان مصاباً بسهم، مصلوباً ومبللاً.
راودها إحساس بأنها قد نطحت في منتصف قلبها. ولم تتمهل بعدئذ. فقد أغمضت عينيها، ووضعت يديها وراء رأسها، ودفعت صدرها إلى الأمام، ممتطية مهر الحب ذاك الذي يتأرجح بها، على إيقاعه، مدمدماً بكلمات تكاد لا تكون مفهومة، إلى أن أحس بأنه يموت.
وسألته مستفهمة وهي في العماء:
ـ من أنا؟ من تراني كنت؟
وانفجر دون ريغوبيرتو تائهاً في حلمه:
ـ أنت زوجة ملك ليديا يا حبي.
(2)
قنداولس، ملك ليديا
أنا قنداولس، ملك ليديا، البلد الصغير الواقع ما بين جونيا وكاريا، في قلب تلك الأراضي التي ستُعرف بعد قرون باسم تركية.
أكثر ما يسبب لي الفخر في مملكتي ليس جبالها المتشققة بفعل الجفاف، ولا رعاة ماعزها الذي يسارعون إذا اقتضى الأمر إلى مواجهة الغزاة الفريجيين والإيوليين والدوريين الآتين من آسيا، ويهزمونهم، أو يتصدون للعصابات الفينيقية والإسبارطية وللبدو الرحل الاسثيتيين الذين يأتون لسلب حدودنا، وإنما مصدر فخري هو ردف زوجتي لوكريثيا.
أقول وأكرر رِدْف، لا مؤخرة، ولا كفل، ولا إليتان، ولا طيز، ولا ورك، وإنما ردف. لأنني عندما أمتطيها يراودني هذا الإحساس: إحساس من يكون فوق مهرة عضلية ومخملية، مزيج من الأعصاب والرقة الخالصة.
إنه ردف قاسٍ وربما هو ضخم جداً مثلما تقول الأساطير التي تشاع عنه في المملكة، مضخمة مخيلة رعيتي (تصل إلى مسامعي كل تلك الأساطير ولكنها لا تغضبني، بل تفرحني).
عندما أمرها بأن تجثو وتلصق جبهتها بالسجادة، بحيث أستطيع تفحصها على هواي، يصل ذلك الشيء إلى حجمه الفاتن الأقصى.
كل فلقة منه فردوس لحمي، وكلتاهما، تفصل بينهما هوة حساسة ذات زغب يكاد لا يكون مرئياً يغوص في غابة البياض والسواد والحرير العابق الذي يتوج عمودي الفخذين الراسخين. فيذكراني بأحد مذابح ديانة البابليين الهمجية التي محوناها. إنه ردف صلب عند اللمس وعذب في الشفتين، فسيح في الاحتضان ودافئ في الليالي الباردة، ووسادة طرية لإراحة الرأس، ومولد للذات في الهجمات الغرامية.
ولوجه ليس سهلاً؛ بل هو أقرب إلى الألم في البدء، ويصل إلى حد البطولة بالمقاومة التي يبديها هذا اللحم الوردي للهجوم الذكري. لا بد من إرادة عنيدة وقضيب قوي ومثابر لا يرتدعان أمام أي شيء أو أحد مثلما هما إرادتي وقضيبي.
عندما قلت لجيجيس، ابن داسيلو، حارسي ووزيري بأنني فخور بمآثر عضوي مع لوكريثيا على السرير الفاخر ذي الستائر الذي في مخدعنا أكثر من اعتزازي بمآثري في ميدان المعركة أو إنصافي في إقامة العدل، احتفل هو ضاحكاً بما ظنه مزحة. ولكنها لم تكن مزحة، لأني أشعر بذلك فعلاً. وأشك في أنه يمكن لكثيرين من أهالي ليديا أن ينافسوني.
في إحدى الليالي ـ وكنت مخموراً ـ ومن أجل التقصي فقط، استدعيت أطلس إلى حجرتي، وهو أفضل العبيد الحبشيين تحت السلاح. وطلبت من لوكريثيا أن تنحني أمامه وأمرته بأن يمتطيها.
لم يستطع ذلك، ربما بسبب الرهبة التي اعترته في حضوري أو لأن الأمر كان تحدياً يفوق قواه. رأيته يتقدم عدة مرات، حاسماً أمره، يندفع، يلهث، ثم يتراجع مهزوماً (وبما أن تلك الواقعة صارت تعذب ذاكرة لوكريثيا، فقد أمرت بقطع رأس أطلس).
الواقع أنني أحب الملكة، فكل ما في زوجتي عذب وحساس، على خلاف روعة ردفها الوافر، يداها وقدماها، خصرها وفمها. لها أنف راعش وعينان ناعستان، ماؤهما ساكن بصورة سرية لا يهزه سوى اللذة أو الغضب.
لقد درستها مثلما يفعل الحكماء بأوراق كتب المعبد، ومع أنني أظن أنني أعرفها عن ظهر قلب، فإنني أكتشف في كل يوم ـ أو بكلمة أصح، في كل ليلة ـ ، شيئاً جديداً فيها يؤثر بي: خط الكتفين الناعم، عظمة المرفق الرشيقة، رقة ظاهر قدميها، استدارة ركبتيها والشفافية الزرقاء لغابة إبطيها.
هناك من يملون زوجتهم الشرعية بسرعة. ويفلسفون الأمر بأن روتين الزواج يقتل الشهوة، وأنه لا يمكن للخيال أن يدوم ويهيج أوردة الرجل الذي يضاجع المرأة نفسها على امتداد شهور وسنوات.
أما أنا، وعلى الرغم من السنوات التي انقضت على زواجنا، فإن سيدتي لوكريثيا لم تملني. ولم تضجر مني مطلقاً.
فعندما أذهب لصيد النمر أو الفيل، أو حين أخرج إلى الحرب، تسرّع ذكراها قلبي مثلما كان يحدث في الأيام الأولى، وحين أداعب إحدى الجاريات أو أية امرأة لأشغل وحدتي في ليالي خيمة الحملة الحربية، تحس يداي على الدوام بخيبة محزنة، فما ألمسه يكاد لا يكون سوى مؤخرات، إليات، أكفال، أطياز. وهي حدها ـ آه، حبيبتي ـ الردف.
ولهذا يبقى قلبي وفياً لها، ولهذا أحبها. ولهذا أنظم لها قصائد أرتلها في مسمعها وأنبطح أرضاً حين نكون وحدنا لأقبل قدميها.
ولهذا ملأت صناديق حليّها وكل خزائنها أوصيت لها من كل أركان العالم على هذه الأحذية والملابس والزينات التي لن تنتهي من تدشينها أبداً. ولهذا أعني بها وأوقرها باعتبارها ألذ ممتلكات مملكتي. فالحياة بالنسبة إلي هي موت دون لوكريثيا.
القصة الحقيقية لما حدث مع حارسي ووزيري جيجس لا تشبه كثيراً التقولات التي تشاع عن الواقعة. وليست هناك رواية واحدة مما سمعته تقارب الحقيقة.
والأمر يجري هكذا على الدوام، فمع أن للخيالي والحقيقي القلب نفسه، إلا أن وجهيهما مثل الليل والنهار، مثل النار والماء. لم يكن هناك رهان أو مقايضة من أي نوع، وكل شيء جرى بصورة مرتجلة، بفعلة تلقائية مفاجئة من جانبي… مجرد صدفة أو مكيدة من إله صغير لعوب.
كنا قد حضرنا احتفالا لانهائياً في ميدان مجاور للقصر، حيث جاءت القبائل الخاضعة لتقدم أتاواتها وهي تصم مسامعنا بأغنياتها الهمجية وتعمي أبصارنا بالغبار الذي تثيره بهلوانيات فرسانها. ورأينا كذلك اثنين من هؤلاء المشعوذين الذي يشفون الأمراض برماد الجثث، وقديساً يصلي وهو يلف ويدور على كبيعه، وقد كان هذا الأخير مؤثراً: ففي دورانه المندفع بقوة إيمانه وبالتمارين التنفسية التي ترافق رقصته ـ لهاث أبح متصاعد يبدو وكأنه يخرج من أعماقه ـ حول إلى دوامة بشرية، وفي لحظة معينة، أدت سرعة دورانه إلى اختفائه عن أبصارنا.
وعندما تجسد ثانية وتوقف، كان يتعرق مثل الخيول بعد شن الغارة، وكان شحوبه ذاهلاً وعيناه زائغتين وكأنهما قد رأتا إلهاً أو عدة آلهة.
كنا نتحدث أنا ووزيري عن المشعوذين وعن ذلك القديس بينما نحن نتناول كأس نبيذ يوناني، عندما خفض جيجيس صوته فجأة ليهمس بشرارة الخبث تلك التي يودعها الشراب في نظراته:
ـ المصرية التي اشتريتها لها أفضل مؤخرة منحتها العناية الإلهية لامرأة على الإطلاق. الوجه غير مكتمل، والنهدان صغيران، وهي تتعرق بإفراط، ولكن ضخامة وسخاء مؤخرتها تعوض ـ وأكثر ـ عن كل عيوبها الأخرى.
ما إن أتذكرها حتى يصيبني الدوار يا صاحب الجلالة.
ـ أرنى هذه المؤخرة وسأريك واحدة أخرى. فنقارن ونقرر أيهما أفضل يا جيجيس.
رأيته يضرب، يرمش ويفتح شفتيه دون أن يقول شيئاً. أتراه ظن بأنني أمزح؟ أتراه خشي أن يكون قد أساء سماع ما قلته؟ فحارسي ووزيري يعرف جيداً عمن أتكلم.
وصغت ذلك السؤال دون تفكير، ولكنني بعد أن وجهته إليه، بدأت دودة عذبة تقرض دماغي وتسبب لي اللهفة.
ـ لقد أصابك البكم يا جيجيس. ما الذي جرى لك؟
ـ لست أدري ما أقول يا مولاي. إنني مرتبك.
ـ أرى ذلك. ولكن أجب، هل توافق على عرضي؟
ـ جلالتك تعلم أن رغباتكم هي رغباتي.
هكذا بدأ كل شيء. ذهبنا أولاً إلى منزله، وفي أقصى الحديقة، حيث توجد حمامات البخار، وبينما كنا نتعرق وكان مدلكه يعيد حيوية الشباب إلى أعضائنا، تفحصتُ تل المصرية، إنها امرأة طويلة القامة، ووجهها متضرر بتلك القروح التي يقدس بها أبناء جنسها الفتيات البالغات لإلههم الدموي.
لقد خلّفت الشباب وراءها. ولكنني أقر بأنها كانت مشوقة وجذابة. فبشرتها الأبنوسية تلمح وسط سحب البخار وكأنها مطلية بالورنيش وكل حركاتها وتصرفاتها تكشف عن تكبر استثنائي. لم يكن فيها أي أثر من ذلك التذلل الدنيء الذي تبديه الجاريات بكثرة لنيل ودّ أسيادهن، بل كانت أقرب إلى البرودة المتأنقة.
ولم تكن تفهم لغتنا ولكنها كانت تفهم على الفور التعليمات التي يصدرها إليها سيدها بالإشارة.
وعندما أشار عليها جيجيس بما نريد أن نراه، أحاطتنا كلينا لثوان بنظرتها الحريرية المزدرية، ودارت نصف دورة، وانحنت ثم رفعت عباءتها بكلتا يديها، مقدمة لنا عالمها الخلفي.
كانت باهرة بالفعل، بل وإعجازية لمن ليس هو زوج الملكة لوكريثيا. أجل، إنها صلبة ومكورة. ذات انحناءات ناعمة وبشرة جرداء وحبيبية، تشع بريقاً أزرق، ينزلق عليها البصر مثلما ينزلق على مرأى البحر. هنأتها وهنأت كذلك حارسي ووزيري لأنه مالك مثل هذه اللذة الحلوة.
ولكي أنجز الجزء المتعلق بي من العرض، كان علينا أن نتصرف بأقصى قدر من الحذر. فتلك الحادثة القديمة مع العبد أطلس شكلت صدمة عميقة لامرأتي، وقد قلت هذا من قبل؛ إذ أنها وافقت عليها لأن لوكريثيا تلبي كل نزواتي.
ولكنني رأيتها خجلة جداً بينما كانت هي وأطلس يمثلان دون جدوى المشهد الخيالي الذي نسجته، فأقسمت يومئذ بيني وبين نفسي ألا أخضعها ثانية إلى مثل تلك التجربة. وحتى الآن، وبعد مضي زمن طويل على تلك الحادثة، وحين لم يعد هناك من أطلس المسكين كما أظن سوى عظامه الجرداء في وهدة الجثث التي تغص بطيور الرخمة والنسور حيث ألقيت جثته، مازالت الملكة تستيقظ أحياناً في الليل، وتفز قلقة إلى ذراعي، ذلك أن شبح الحبشي يكون قد عاد يلتهب فوقها في الحلم.
وهكذا، فقد تصرفت في هذه المرة دون أن تعرف محبوبتي بالأمر. أو هذه كانت نيتي على الأقل، مع أن الشك يراودني في ذلك أحياناً حين أفكر متروياً بما حدث في تلك الليلة وأقلبه في ثنايا ذاكرتي.
أدخلت جيجي من بوابة الحديثة الخلفية ثم أدخلته الحجرة بينما الوصيفات يعرين لوكريثيا ويعطرنها بالعطور التي أحب شمها وتذوقها على جسدها.
أشرت على وزيري أن يختبئ وراء ستارة الشرقة وأن يحاول عدم التحرك أو إصدار أدنى صوت. ومن ذلك الركن، يمكنه أن يرى تماماً السرير البديع ذا الأعمدة المزخرفة والدرجات والستائر الحمراء، والمثقل بالوسائد والحرائر الثمينة المطرزة، حيث نمارس أنا والملكة كل ليلة لقاءاتنا الغرامية، وأطفأت كل المشاعل بحيث تبقى الغرفة خافتة الإضاءة من ألسنة لهب المشاعل التي في البيت.
بعد قليل دخلت لوكريثيا ترفل بعباءة فضفاضة شفافة من الحرير الأبيض، ذات زركشات مخرمة على المعصمين والعنق ومحيط الذيل. وكان تضع عقداً من اللؤلؤ وغطاء رأس وتنتعل خفاً عالي الكعب من الخشب واللبد.
أبقيتها واقفة لبعض الوقت، أتأملها بإعجاب بعيني وأهدي إلى وزيري هذا المشهد الذي يليق بالآلهة. وبينما أنا أتأملها وأفكر في أن جيجيس يفعل ذلك أيضاً، أججني فجأة بالشهوة هذا التواطؤ الخبيث الذي يوحدنا. فتقدمت نحوها دون أن أنطلق بكلمة واحدة، وطرحتها على الفراش وامتطيتها.
وبينما أنا أداعبها، بدا لي وجه جيجيس الملتحي، فزادت من التهابي فكرة أنه يرانا. ورشت على لذتي بهاراً حلواً وحامضاً ولاذعاً كنت أجهله حتى ذلك الحين.
وماذا عنها هي؟ أتراها لاحظت شيئاً؟ هل عرفت شيئاً؟ لأنني لم أرها من قبل أبداً بمثل ذلك الاندفاع، ولم أرها مطلقاً بمثل تلك الشراهة في المبادرة والاستجابة، وبمثل تلك الجسارة في العض والتقبيل والعناق.
أتراها هجست في تلك الليلة بأننا من كنا نستمتع في الغرفة المصبوغة بحمرة القنديل والشهوة لم نكن اثنين وإنما ثلاثة.
وعند الفجر، حين استغرقت لوكريثيا في النوم، تسللت من السرير على رؤوس أصابعي، لكي أقود حارسي ووزيري إلى مخرج الحديقة، فوجدته يرتجف من البرد والذهول.
تلعثم متهيجاً ومرتعشاً:
ـ أنت محق يا صاحب الجلالة، لقد رأيتها، وهي رائعة بصورة لا أستطيع تصديقها. لقد رأيتها ومازلت أظن أنني في حلم.
فأمرته:
ـ انس كل شيء بأسرع ما يمكن وإلى الأبد يا جيجيس. لقد أنعمت عليك بهذا الامتياز في لحظة تسرع غريبة، ودون تفكير وتروٍ، لأنني أقدرك كثيراُ. ولكن، حذار من لسانك، فأنا لا أحب أن تتحول هذه القصة إلى حديث الحانات وتقولات السوق، لأني قد أندم على أنني أحضرتك إلى هنا.
أقسم لي أنه لن ينطق بكلمة واحدة. ولكنه فعل ذلك. وإلا كيف دارت كل تلك الأحاديث عما حدث؟ الروايات تتناقض، وكل واحدة منها أكثر شططاً وزيفاً من الأخرى.
إنها تصل إليها، وإن كنا نغضب بسببها في البداية، فإننا نتسلى بها الآن. لقد تحول الأمر إلى جزء من هذه المملكة الجنوبية، في هذه البلاد التي سيصبح اسمها تركية بعد قرون، مثل جبالها القاحلة ورعاياها الأفظاظ، مثل قبائلها المتنقلة، ونسورها ودببتها، ولا تسؤوني في نهاية المطاف فكرة أنه بعد مرور الزمان، وابتلاعه كل ما هو موجود ومحيط بي الآن، لن يبقى للأجيال القادمة في تاريخ ليديا، سوى ردف زوجتي لوكريثيا الشمسي والسخي كالربيع.
ترجمة صالح علماني
يا خسارة وقتك اللي ضاع في مثل هذه الترجمة
آآآه نسيت, وكمان وقتي اللي قضيته في قراءة جزء منها