بحثت عن ولاعتي لأشعل سيجارة، لم أجدها. كانت هنا لكنها لم تعد موجودة -هنا-! بحثت في كل مكان دون جدوى..
أخيرا تذكرت تذكرا مضببا أن أحد أفراد عائلة الجن التي تسكن بيتنا والذي يسكن غرفتي تقدم قبل ربع ساعة بلطف وطلبها مني حين كدت أغفو. كنت بين النوم واليقظة لكني أستطيع رغم ذلك أن أتذكر ملامحه نصف تذكر ونسيانها نصف نسيان. إنه بكر عائلة الجن -تلك- التي عادة ما تحتفل كل ليلة بعد منتصف الليل مباشرة احتفالات ملتبسة بالدق على آلات موسيقية مرعبة والنفخ في قرون الأبقار الميتة وجحور الأفاعي المهجورة والآبار الناضبة.
يبدأ الاحتفال مباشرة من مكان مجهول داخل البيت بينما تشمل أصداؤه كل الغرف والجدران والسقوف والنوافذ والأبواب بالتساوي. عزف متدارك لا يتغير طيلة ساعة كاملة إلى أن يتوقف فجأة كأنه لم يكن أبدا سوى مادة شفافة من التهيؤات. أسمعه جيدا وبوضوح لكني رغم ذلك أعيه بصعوبة وتثاقل كما لو أنه قادم من حلم أو من الترددات اللانهائية لطنين مهراس.
يحتفلون كل ليلة، يعزفون ويرقصون، وبيننا وبينهم برزخ من صحو ويقظة شبيه بالْخَامِيَّةِ الشفافة لا يتجاوزونه ولا نتجاوزه.
إننا نقتسم معهم البيت إلى نصفين متساويين كنصفي البطيخة دون إفراط أو تفريط، ليس على أساس المساحة بل على أساس الزمن وتحولاته وتقلباته ومكره، فالنهار لنا لا يتعدّونه والليل لهم لا نتعدّاه، وبيننا وبينهم عقد تمليك وشراكة واقتسام بسكين العدل للزمن مصادق عليه من طرف الجن الذين يسكنون مقاطعة حي التقدم الحضرية بطابع شريف شفاف فوق مصادقة أعوان المقاطعة الآدمين عليه بطابع حقيقي أحمر دائريّ وإمضاء حيٍّ للمستشار الجماعي.
أحيانا يستأنفون احتفالهم بعد أذان الفجر بقليل، دون أن يحق لنا منعهم أو الاحتجاج ضدهم لدى المحكمة الابتدائية بالرباط أو محكمة الجن الكبرى الشمهروشية بضواحي جبل توبقال. إذ إن أذان الفجر لا يعني بأي وجه من الوجوه انجلاء الظلام وطلوع الشمس خصوصا شتاء حيث يستمر الليل حتى ساعة متقدمة من النهار، كما لا يحق لهم الاحتجاج بعد العصر دون قرينة حتى حين لا تكون هناك شمس ويخيم الظلام المبكر الكئيب متقمصا روح العشية قبل بلوغها وروح الليل قبل وصوله. رغم أنه يمكنهم -حسب العقود والمواثيق الغليظة المبرمة بيننا وبينهم- التحرك داخل البيت نهارا دون مشاكل، وأيضا يمكننا التحرك ليلا داخل بيتنا دون مشاكل، لكن دون أنشطة حيوية، بل يسمح فقط بالذهاب إلى الحمام، أو قلي بيضة، أو تصفح كتاب في خمول كامل على إيقاع موسيقى عمر فاروق الخافتة، أو ما شابه من الأنشطة التي لا تزعج الإنس ولا الجن ولا تورث العداوة والبغضاء والشنآن بين القبيلين.
إنهم يخافوننا كما نخافهم، ونسكنهم كما يسكنوننا، فقد تجد جنيا متلبسا بآدمي، لكن الذي لا يعرفه إلا قلة قليلة من البشر الذين يكونون حكماء بالضرورة وعجزة هو أن هناك آدميين كثرا متلبسين بالجن، إلا أن التمييز بين هذا وذاك يصعب وتعتريه المشقة إلى أن يبلغ الاستحالة التامة. تقف أمام الممسوس فتعتريك حيرة قاهرة هل آدمي هو تلبس به جني أم جني تلبس به آدمي فلا تفلح -أبدا- في فك طلاسم سؤال كهذا نصفه من عالم الشهادة ونصفه الآخر من عالم الغيب.
ورغم أن الزمن لا يكال بمكاييل مرئية، لا يقاس بالأمتار كالمساحة، أو بالصاع كالشعير، إلا أن المادة البيضاء الوحيدة التي تصل عالمنا المادي بعالمهم المعنوي هي الملح. فلا بد إذن من صف من الملح عند عتبة البيت يفصل البيت عن ظله، كما يفصل ممتلكاتنا عن ممتلكاتهم، حين نتخطاه -نحن- ندخل عالمنا، وحين يتخطونه -هم- يدخلون عالمهم، وبمجرد ما يغيب جدار الملح ذاك تختلط العوالم وتمتزج ببعضها امتزاجا غير متجانس كامتزاج ماء النهر بماء البحر في غياب البرزخ فتضطرب الدار وتتروع وتمرض وينعكس ذلك علينا كما عليهم إذ يحرقهم ماؤنا الساخن الذي نفرغه في المواسير بينما يحركون الثريا ونحن جلوس نشاهد التلفزيون ويصفقون الأبواب والنوافذ عمدا ويقرعون الكؤوس في المطبخ ويسقطون الصحون والطناجر لإرعابنا.
لكن العادة هنا هي السلام التام والتسليم الكامل والهدنة المتبادلة وحسن الجيرة بيننا وبينهم منذ سنوات طويلة، لا نؤذيهم ولا يؤذوننا، لا نفسد ليلهم ولا يفسدون نهارنا، بل نحرص جميعا على وصل خيط الملح على العتبة قبل اندثاره، لتمليح المكان، وعلى احترام المواقيت الفلكية وفطرة الطبائع واختلاف الأملاك..
لذلك يحدث أن يستعير ابنهم البكر الشاب الوسيم ولاعتي كما حدث قبل قليل، أو حذائي كما حدث ذات مرة حين أراد أن يستعرض على صبايا جميلات من بنات الجن حذاء الإنس، أو حتى أن نمنحهم قطة صغيرة بعد أن أنجبت قطة أمي تسع قطط، فيتبنونها بعد أن تتحول من قطة عادية إلى قطة جن مسحورة ومسكونة تموء دون أن يراها أحد وتأكل دون أن تشبع وتظل صغيرة لا تكبر قيد أنملة بل تحافظ على عمرها الأصلي آلاف السنوات. وفي المقابل نستعير منهم -نحن أيضا- سمنا لا ينتهي باستعماله أو بخورا قادما من قفار وفجاج بعيدة أو دجاجا أسود يبيض بيضا أبيض ليس داخله كتاكيت، أو -بالأحرى- داخله كتاكيت لكنها غير مرئية إذ إن الْأَجْوَادَ يعيرون الدجاجة السوداء فقط دون كتاكيتها، فتفقس البيوض دون أن يخرج منها شيء، بل نحن نربي دجاجة الجن السوداء التي أصبحت عادية وضمن أملاكنا بينما كتاكيتها ما زالت من الجن ضمن أملاكهم..
الآن علي أن أضطجع لأغفو مادا يدي منتظرا أن يعيد إلي الجني الشاب المدمن على تدخين الصندل والجاوي ولاعتي بين النوم واليقظة. متمنيا فقط أن لا يتأخر، وإلا فهذه هي آخر مرة أعير فيها شيئا من أملاكي لأي جني من الجن مهما بدا لطيفا.