خِيَارَاتٌ أخرى، لِعُطَيلٍ آخَرْ

دزديمونة، ومنديل عطيل
( نظرةٌ عن قرب )

من هو عُطيل ( Othello ) أولاً : (1)
هو مغربي بربري , فارع الطول , شديد السُّمرة , كما يُرجّح .. وقيل أنه زنجي مملوك أفريقي , وهذا مستبعد , لأن عطيلَ كان ثرياً ينحدر من سلالة ملكية , لا كما ألمح ” خليل مطران ” في ترجمته من أنه مملوك أفريقي , فبرغم أنه وقع في الأسر إلا أنه افْتُديَ في الحال , وكان رجلاً شجاعاً , نبيلاً , فتنَ رجالات البندقية وجميلاتها على حدٍّ سواء , وشغف دزديمونة حباً .
وهو أكثر شخصيات شكسبير رومانسية ومأساوية على الإطلاق .
رومانسي جداً .. حتى أنه يفوق ” روميو ” ( 2 ) حُبّاً _ برأيي الخاص _ , ويفوق ” هاملت ” ( 3 ) شاعرية _ برأي أغلب متعاطي أدب شكسبير _ , إلا أن هاملت كان أكثر خيالاً منه , وروميو كان أكثر جُرأةً منه .. كانا أكثر خيالاً وجرأةً في التعبيرِ عن حبّهما .
هُناك في الرواية المسرحية , في البندقية ، قتلَ عُطيل نفسه لأنه قتل دزديمونة ظلماً ( 4 ) , وقتل دزديمونة لأنهُ شكّ أنها تخونه , وشكّ أنها تخونه لأن ” ياغو ” ( 5 ) أوحى له بذلك .. وأوحى له أيضاً أنه رأى المنديل الذي أهداه لدزديمونة مع ” كاسيو ” ( 6 ) .

تُرى .. هل كان عُطيل رجلاً غيوراً بطبعه .؟!
– لا ..
فهُناك على خشبة المسرح وصفَ عُطيل نفسه بجملةٍ واحدة , واضحة , وبسيطة :
– ” . . . رجل ليس بحاضرِ الريبة , ولكن إذا أثيرَ وقعَ في أشدِّ التخبط ”

وعندما تأكدَ من أن خيانة دزديمونة له كانت دسيسة مدبّرة من ياغو ; وكان ذلك بعدما خنقَ دزديمونة , بكى , بكى كثيراً , ثمّ طعن نفسه ..
هو في رأيي الخاص :
( رجل شكّ أكثر مما يجب ; فقتل حبيبته , وأحبّ أكثر مما يجب ; فقتل نفسه )
لكنهُ عندما قرّرَ أن يموت ..
لم يكن أمامه الكثير من الخيارات . . . مثلي أنا , ولم يكن له أصدقاءَ كـُثـر . . . مثلي أنا أيضاً .
أنا لديّ العديد من الخيارات لأموت , ولديّ الكثير من الأصدقاء لينتقوا لي الطريقة ..

    خـيـاراتٌ أُخـرى لـعـُطـيـلٍ آخـر .

أنا الآن بصدد أن أنهي حياتي بيدي , أن أنتحر كما يُقال عادةً ,
هذا رأيهم .. هُم يسمونَ الموتَ أسماءَ كثيرة :
( انتحار , قتل , وفاة , اغتيال ..! , …. ) , وهَلُمّ جَرّا ,
برأيي لا فرق ; طالما أن القبر هو المحطة الأخيرة , فكما تعلمون أن كلّاً من المنتحر , والقتيل , والمتوفّى , والمُغتال يرقُدون ستةَ أقدامٍ تحت الأرض .. يحضُنهم نفس القبر , يخرج من فمِهم , ومنخريْهِم , وآذانِهم نفسُ الماء , ونفسُ الدم , ونفسُ القيح .. ثم يأكلهم نفسُ الدود .. ولهم بين فكّيْ الدودة الأخيرة , تلك الدودة القذرة الحقيرة .. نفس الطّعم المُنتِن ..

أنا رتبت كل شيء لكي أظلّ _ عندما يحين الوقت _ وحيداً في شقتي الصغيرة .. وأقوم بذلك دونما أي محاولة لإثنائي عن هذا القرار , أو حتى سؤالي عن الدافع الذي أدّى إلى اتخاذي تلك الخطوة ..
لا أريد أن يسألني أحد ,
وأنتم .! ,
” كُرمى لله ” , لا تسألوا , اسمعوني وحسب :

لأنني أريد أن أموت دون أن أرى تلك النظرة على ملامحهم , دون أن يسألني أحد السؤال المعتاد :
– ” هل هناك ما يستحق أن تُنهي حياتك من أجله ” ,
ودون أن أضطر أن أجيب كالعادة :
بـ ” نعم .! ”
– ” حياتك أهم ”
” لا شيء يهم بعد الآن ”
– .” ولكنّكَ ……….. ”

ولكني …
ولكني الآن أصبحت أدركُ أن هذا ” الديالوج ” الذي يتكرر دوماً .. فخٌ يُنصب لي في كل مرة ; حتى يتمكنوا من منعي من محاولة إنهاء حياتي بيدي بينما أتحدّث معهم , ليرموا بي هذه المرة في مصحٍّ نفسي , أو يُحضروا لي كما يحدث في كل مرة .. مُقرئاً يتلو عليّ ما تيسر ..
أريد أن أقوم بذلك قبل أن يعودوا , قبل أن يعرفوا ,
قبل أن يمنعوني .. ويُلقوا بي مرة ثانية في غياباتِ القلبْ .. قلبي مظلمٌ يا سادة , مظلمٌ وموحشٌ كبئرْ ..

أريد أن أموت وبأي طريقةٍ كانت ,
ومطلبي منكم .! , أن تساعدوني في انتقاء الطريقة الأليَق .. بشاعر .

مثلاً ,
ما رأيكم أن أمزّق شريانيَ الأيسر بيدي اليُمنى , أو أن أسقط من عُلوٍّ كبير وأنا أبلع كَمّاً كبيراً من الهواء , أو أتجرّع قطراتٍ كافيةٍ لقتلي من السُمّ الزُّعاف وأنا أراقب امرأةً جميلة , حزينة , يظهر نصف وجهها من الطرفِ الأيمن لنافذةِ غرفة نومها وهيَ تبكي , وترجوَني عن بُعد .. ألاَّ أقتُل نفسي ,
إن سمحتم لي فأنا أشتهي أن أشاهد ذلك ,
تلك هيَ البُرتقالة الأخيرة التي يمدّونها للمحكوم عليهم بالإعدام ,
نعم .. دخل أبونا آدم الدنيا وهوَ يهُمّ بقضمِ تفاحة , لكنني سأخرج منها وأنا أقشّر قلبي كما أقشّر بُرتقالة ناضجة ..

كلّ شيءٍ جاهزٌ تقريباً ,
فعدة الانتحار .؟ , متوفرة ,
وأسباب الانتحار .؟ , أيضاً متوفرة .

لديّ مثلاً ..
مسدّس .! ,
هاه , ما رأيكم .؟! ,
مسدّس ذو ستّ رصاصاتٍ ومحشوّ بالكامل , ولدي الكثير من الخيارات ,
فمن الممكن أن أضع فوهة المسدّس مباشرة على جبهتي وأطلق , أو أن أضعها تحت ذقني وأطلق , أو أن أُدخل ماسورة المسدّس في فمي .. وأطلق , لكنني .. لا أخفي عليكم , أني أفكّر أن أجرّب لعبة الروليت الروسية , أي أن أضع في المسدّس رصاصة واحدة فقط , وأدير الدولاب بطريقة عشوائية وأطلق أول طلقة على صدغي الأيمن , أريد بذلك أن أموت ميتتين , أن أموت من الرّعب قبل أن تُحدث الرصاصة ثُقبين متعاكسين في رأسي ,
ولكن ..
ماذا إن لم تخرج الرصاصة بالفعل .؟! , ماذا إن لم تكن الرصاصة الوحيدة ; في تلك الحجيرة التي توقف عندها الدولاب .؟! , ماذا إن كانت الحجيرة فارغة .؟! .

لا يهم ..
لديَّ حبل غليظ , ومروحة في السقف , وكرسي .. أستطيع أن أربط الحبل بالمروحة وألفّهُ حول عنقي النحيل , وأقف , ثمّ أتأرجح قليلاً ليقع الكرسي , ويخطِفني الحبل بسرعة قبل أن تلامسَ قدمايَ الأرض ..
ولكن ..
ماذا إن كان الثِقَل الذي ينوءُ به قلبي أكبر من المروحة .. ووقَعَتْ , ولم أمُت .؟! ,

لدي كمية هائلة من الحبوب المسكّنة أستطيع أن ألتهمها على دفعات متتالية , خمس حبات في كل دفعة .. , ستة ستة , سبعة سبعة .! ,
ولكن ..
ماذا إن تقيأت .؟! ,

لدي أيضاً ” سرنجة ” فارغة أستطيع أن أحقن بها شرياني الذّابل بالهواء لينتفخ , وينتفخ , وينتفخ حتى ينفجر ,
أو أن أقطعه بشفرة حلاقة حادة في لمح البصر , قبل أن يختفي ويهرُب ..
ولكن ..
ماذا إن . . . اختفى . . . هوالآخر .؟! ,

لدي خيارات أخرى , فمثلاً :
أنا أسكن في الدور الثالث , ولدي شُرفة أستطيع أن ألقي بنفسي منها مباشرةً على الإسفلت ,

لدي كذلك أعداء كثّر أستطيع أن أكلم أحدهم ليدهَسني بسيّارته كأي كلبٍ ضال ,
أو ينحرُني .. كما تُنحَرُ الشاة , أو يغرس _ بطعنات سريعة ومتتالية _ سكيناً في جنبي , ثم في قلبي , ثم يُدخلها بين أضلاعي ويضغط بقوة حتى يتسرب دمّي من بين أصابعه ,
وأعدائي مخلصين جداً ولن يتأخروا , على سبيل المثال هناك زميلي في العمل ” عبدالحميد ” , ابن كلب وقذر وحقير .. ذلك السافل سيأتي مهرولاً إن طلبت منه ذلك , يستطيع أن يهشّم رأسي بمطرقة , أو بصخرة , أو حتى بكتابٍ ضخم عدة مرات حتى تتفتت جمجمتي , ثمّ يبصق على جثتي ويغادر بعد أن يدوس على بطني .
.
.
.
.
.
.
.
و .. لديّ الكثير من الشوق إليها .

* مازن. يكتب في جسدِ الثقافة. ويتناول كثيراً في كتابته فلسفة الحب والموت والألم، وغير ذلك . يقول عن نفسه وعن تجربته في الكتابة :
” نعم . .. أقرّ أنني كتبت بأسلوب مختلف , وتِكنيك مختلف , وروح مختلفة , وأجزم _ أرجو ألا تقولي أنني مغرورٌ هنا _ .. أجزم أنني أضفتُ كثيراً ..
وبالرّغم من أنّ تجربتي هذه أنتم من يقيّمها , ..إلا أنني أزعُم أنهُ لما وقفَ ” عـُـطـيــل ” على الخَشَبَة لأوّل مرّة صَمَتـّـم كثيراً طيلة عرضهِ الشّعريّ , ثمّ صفّقتُم له كثيراً بعد أن ختَمَ إطلالتهُ الأولى بدمويّة وعُنف .! .. ولكن , وللأمانة .. أنا لم أعِد كتابتها _ كما قال ” كامو ” _ بالشكل الذي أرى , بل كتبتها بالشكل الذي عشته ” .

    الهـوامـش /

( 1 ) عُطيل : مغربي نبيل , تربّّى في خدمة دولة البندقية , والإسم مُعرّب عن الإسم ( Othello ) . وعرّبهُ الشاعر ” خليل مطران ” في ترجمته منذ أكثر من ستين عاماً , وهو تعريب مبني على حدسٍ خاطيء , حيث ظنّ ” مطران ” أن اسم ( Othello ) مأخوذ من العربية .. وأن عطيلَ كان عبداً مملوكاً مغربياً , وربما كان اسمه ” عطاء الله ” كأسماء العبيد المتداولة في وقتنا هذا , أو ماشابه ذلك .. وهذا خطأ .. لأن أسماءًا كـ ” عطاء الله ” لم تكن متداولة لدى العرب إبّان وقت شكسبير , ولأن اسم ( Othello ) معروف في اللغات الأخرى كالإيطالية والبرتغالية والأسبانية ومعناه :
( الحَذِرْ ). وللأسف , ومن وجهة نظري الشخصية أن عطيلَ ( الحذِر ) لم يكن اسماً على مسمّى .. ولم يكن حذِراً بما فيه الكِفاية .. وهذا بالضبط ما يسمّونه ( سُخرية القدَر ..! )
( 2 ) روميو : أشهر العشاق في مسرح شكسبير , بطل مسرحية ” روميو وجولييت ” ..
( 3 ) هاملت : أحد أشهر شخصيات شكسبير , وعنوان لأحد أهم مسرحياته ومآسيه , وهو صاحب الجملة الشهيرة :
TO BE OR NOT TO BE , THIS IS THE QUESTION ( .. ” أكون أو لا أكون ” .؟ , هذا هو السؤال )
( 4 ) دزديمونة : حبيبة عطيل وزوجته , قتلها خنقاً بالوسادة .. وسُمِّيَت ” ديدمونة ” خطأً بسبب ترجمة مطران لها أيضاً .
( 5 ) ياغو : حامل علم عطيل , ومن أشهر شخصيات الشّرّ في الأدب العالمي .
( 6 ) كاسيو : ملازم عطيل , هو من ظنّ عُطيل أن دزديمونة تخونه معه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى