شكراً لك على رسالتك الفاتنة وعلى قصائدك وقصصك. إن الرسالة تعبر عن ثقة في النفس يؤسفني أني سأحبطها. وحتى لو لم اكن أعاني من إجهاد في العينين ورازحاً تحت أكوام الرسائل لخيبت املك، ذلك أن ما طلبته مني شيء لا أملكه لأعطيه.
انك تقدم لي محاولاتك الشعرية وتطلب مني أن اقرأها ومن ثم أعطيك رأيي في موهبتك، تطلب حكماً قاسياً وتقييماً نزيهاً، وتقول أن الإطراء لن يفيدك وتسألني سؤالاً بسيطاً: هل أنا شاعر؟ هل أنا موهوب إلى درجة تؤهلني طبع ديوان شعر، وإذا أمكن، أن اجعل من الكتابة حرفتي؟
ليس هناك ما يسعدني اكثر من أن أكون قادراً على إعطاء جواب بسيط لهذا السؤال البسيط، غير أن هذا مستحيل. أنني اعتبر انه من المستحيل تماماً أن استنبط من عينة من قصائد ألفها مبتدئ لا اعرفه شخصياً وحميمياً أي استنتاج حول مؤهلاته الثابتة كشاعر، طبعاً يمكن معرفة أن كنت تتمتع بالموهبة، غير أن الموهبة ليست نادرة، فالعالم يعج بها، وشاب في مثل سنك وثقافتك يكون في الحقيقة مفتقراً إلى الموهبة الطبيعية إذا لم يكن قادراً على أن يؤلف قصائد ومقالات مقبولة.
زيادة على ذلك، سوف أتمكن بدون أدنى شك من أن أدرك من خلال عملك إذ كنت قد قرأت نتشه أو بودلير، وإذا ما كان هذا الشاعر أو ذاك قد ترك تأثيره عليك، سأتمكن أيضا من أن اعرف إن كنت قد كونت تذوقاً في النفس والطبيعة، وهذا، مع ذلك لا علاقة له البتة بالموهبة الشعرية في احسن الأحوال (وهذا لصالح أشعارك) سأستطيع أن اقتني آثار تجربتك وأحاول أن ارسم صورة لشخصيتك. لا أستطيع أن افعل اكثر من ذلك، وكل من يعدك على أساس محاولاتك المبكرة بأن يقيم موهبتك الأدبية أو آمالك في أن تمتهن الشعر، هو شخصية سطحية جداً، إذا لم اقل غشاشاً.
خذ في حسبانك ما يلي: ليس صعباً بعد قراءة (فاوست) إعلان غوتة شاعراً مبدعاً. ولكن سيكون ممكناً تماماً، بعد النظر في أعماله المبكرة، وأيضا في بعض من تلك المتأخرة، تأليف كتاب صغير في الشعر لا يخرج أي شخص منه بأي نتيجة فيما خلا أن الكاتب الشاب قد قرأ كتبه المدرسية بعناية وانه يتمتع بموهبة في نظم الشعر. وهكذا، حتى مع الشعراء العظام، ليست مخطوطات محاولاتهم الأولى بأي حال دائماً أصيلة حقاً ومقنعة. ويمكن للمرء أن يجد في أشعار شيللر الشابة أخطاء فاضحة مذهلة، وفي أشعار س.ف ماير غالباً ما تغيب الموهبة غياباً تاماً.
لا، إن الحكم على موهبة شابة ليس بالأمر اليسير كما تظن. وإذا لم أعرفك عن قرب لا أستطيع أن اعرف إلى أي مرحلة من التطور وصلت. قد تكشف قصائدك عن جوانب فجة سوف تبتسم أنت نفسك لدى اكتشافك لها بعد مرور ستة اشهر من الآن. لعل ظروفاً مؤاتية قد أزهرت فيك في تلك اللحظة بالذات موهبة خاصة غير قابلة للتطور اكثر مما فعلت. لعل القصائد التي أرسلتها إلى هي افضل ما سوف تكتبه في حياتك كلها، ولكن من الممكن بالقدر نفسه أن تكون أسوأه. وان بعض المواهب يصل إلى أعلى ذراه والكاتب في أوائل عشرينات عمره ومن ثم تذوي بسرعة؟ والبعض الآخر يتضح أولا في ثلاثينيات العمر أو غالباً بعد ذلك.
إذن مسألة ما إذا كنت بعد خمس سنوات أو عشر ربما ستكون شاعراً لا تعتمد على الإطلاق على ما تكتبه من شعر اليوم.
لكن للقضية جانب آخر ينبغي أن نكرس له وقفة انتباه.
لماذا تريد أن تصبح شاعراً؟ إذ كان ذلك بدافع الطموح إلى الشهرة، فقد اخترت مجالاً بائساً: أن الألمان اليوم لا يأبهون كثيراً بالشعراء ويستطيعون أن يستغنوا عنهم تماماً. والأمر نفسه ينطبق على مجال تشغيل المال: إذا ما قدر لك أن تغدو اشهر شاعر في ألمانيا (إذ ما تغاضينا عن المسرح) فلن تكون، بالمقارنة مع مدير أو مساعد مدير مصنع للجوارب أو الإبر، اكثر من متسول. ولكن لعلك قررت فجأة أن تصبح شاعراً لأنك تعتبر الشاعر إنسانا أصيلا، حاد الملاحظة وورعاً، نقيا قادراً على إيقاع الرهبة في النفس، ويتوق إلى وجود ملهم، ونبيل بصورة ما. لعلك تتصور الشاعر القطب المقابل لرجل الأعمال، أو لصاحب النفوذ. لعلك تكافح لتصبح شاعراً محترفاً ليس لتكتب الشعر وتحقق الشهرة، بل فقط لأنك تعتقد أن الشاعر يبدو متمتعا بقدر من الحرية وبعزلة لكنه في الواقع إنسان مسئول إلى أقصى درجة، ويجب أن يكرس نفسه بشكل تام إذا كانت موهبته الشعرية ليست مجرد قناع.
إذا كان الأمر كذلك، فأنت تسير على الدرب الصحيح مع أشعارك، ولكن في تلك الحالة أيضا لا أهمية لان تصبح أو لا تصبح شاعراً في الوقت المناسب، ذلك لان هذه الخصال، والمهام، والأهداف التي تنسبها إلى الشاعر، ذلك الإخلاص لنفسه، تلك الرهبة التي تواجه الطبيعة، ذلك القبول للتضحية الاستثنائية بالنفس، وذلك الإحساس بالمسئولية الذي لا يرضى عن نفسه ويدفع حباً وكرامة ليالي الأرق ثمناً للحصول على جملة ناجحة، أو عبارة جيدة السبك.
هذه الفضائل كلها (إذا أمكننا أن نسميها هكذا) هي سمات مميزة ليس فقط للشاعر الحقيقي، وإنما أيضا للكائن البشري الحق بحد ذاته للإنسان الحر، التلقائي للكائن البشري الموقر والمسئول كائناً ما كانت مهنته.
والآن إذا توفر لديك هذا الكائن البشري المثالي، إذ لم يكن مصدر إلهامك الرغبة في التشهير والشهرة، أو المال والنفوذ، وإنما رغبت في حياة متمركزة في ذاتها وراسخة بفعل تأثيرات أرضية، عندئذ لا شك في انك لم تصبح بعد شاعراً، بل أنت أخو الشاعر، تنتمي إلى النوع نفسه. وأيضا عندئذ يكون لكتابتك الشعر معنى عميقاً.
ذلك أن كتابة الشعر خاصة عندما يكون المرء شاباً، ليست لها وظيفة اجتماعية واحدة فقط لا غير، أي إخراج الأعمال الفنية الجميلة إلى العالم وإشاعة البهجة والحض، إن كتابة الشعر، بالأحرى، يمكن أن تكون لها بعيداً تماماً عن قيمة القصائد المقدمة ونجاحها المحتمل، أهمية لا يحل محلها أي شيء بالنسبة للشاعر نفسه. وفي عصور سابقة كانت كتابة الشعر مسألة بديهية تشكل جزءاً من تطور شخصية أي شاب. أما السير على درب الشاعر، ليس فقط التدرب على استخدام اللغة بل تعلم أن يعرف الإنسان نفسه بمزيد من العمق والدقة، ودفع تطوره الشخصي اكثر واعلي مما ينجح الإنسان العادي في تحقيقه، عبر تدوين تجارب فريدة وشخصية ونفسية وان يميز طاقاته ومخاطره بصورة افضل، وان يحددهما بشكل افضل – فهذا هو ما تعنيه كتابة الشعر للشاعر الشاب، قبل أن يطرح بزمن طويل السؤال عما إذا كان ربما لقصائده بعض القيمة بالنسبة إلى العالم اجمع.
إن كلمة (شخصية) اليوم لم تعد تتضمن معنى المثل الأعلى التام كما كان الحال، مثلا، في زمن غوثه، فمن وجهتي النظر البورجوازية والبروليتارية معاً ترفض الشخصية الفريدة كغاية بحد ذاتها وليست هناك محاولة تبذل لإنشاء أفراد بارزين بل بالأحرى أناس طبيعيين، أصحاء، يعملون بجد، وعاديين. والمصانع تعمل بنجاح على تحقيق ذلك. ولكن خلال فترة وجيزة من الزمن بات جلياً في ألمانيا مثلاً، إن وظائف الأمة الحيوية تعاني من الفساد ومن أزمة قاتلة عندما يكون هناك نقص في الطاقة، والحس بالمسئولية، والنقاء الداخلي الذي لا يمكن أن يصدر إلا عن الفرد الراقي الفكر.
إن التدهور المريع الذي ينال النشاط السياسي، والعمل الحزبي ونظام الحكم البرلماني يبرزون هذا النقص بوضوح، وتلك الأحزاب نفسها التي تتيح لإنسان مستواه فوق العادي بقليل أن يبقى وسط مطالبتها المتأخرة بـ (رجل قوي).
لا عليك إذا اضطررت إلى تحمل إزعاج أصدقائك بسبب شعرك. ربما ساعدك ذلك على النضج وبلوغ مرحلة أعلى قليلاً في المرتبة الإنسانية مما هو متاح للجماهير الغفيرة. ولعلك بعد فترة من الزمن تكتشف وحدك أن الشعر بالنسبة إليك ليس ضرورياً ليس من اجل أن تقيم سلاماً حقيراً مع غايات وضيعة وإنما لكي تكسب في مجالات أخرى ذلك النوع الأنبل، والأجدر، والأكثر إلهاما، الذي تشعر انك خلقته لتعيشه.
هرمان هيسه
ترجمة : أسامة منزلجي
البيان الثقافي- الأحد 30 شعبان 1421هـ 26 نوفمبر 2000-العدد 46
عن جهات الشعر ،