زَمَنٌ وَأنيميَا

كم هي قريبة مني تلك المجنونة العجوز التي كانت تجري وراء الزمن، تلك التي كانت تريد الإمساك بقطعة من الزمن.

*
ثمة علاقة بين فقرنا الدموي وغربتنا في الديمومة: إنّ عدد اللحظات الخاوية موافقٌ لعدد كرياتنا البيضاء. أليس ذلك مرتبطا بكون حالات وعينا ناشئة عن تفسخ ألوان رغباتنا؟

*
يفاجئني ذلك الرعب الممتع للدوار عند الزوال تماما، فلمن أنسبه؟ للدم؟ للازورد السماء؟ أم للأنيميا؟ التي هي في منتصف الطريق بين الاثنتين؟

*
امتقاع لوننا يرينا إلى أي حد يمكن للجسد أن يفهم الروح.

*
مع شرايينك المحتقنة بالليل، أنت لا تقل غربة بين البشر عن شاهدة قبر وسط سيرك.

*
في ذروة انعدام الفضول، نحلم بنوبة صرع جيدة كمن يحلم بأرض موعودة.

*
يدمرنا غرامنا كلما كان موضوعه أكثر ضبابية. غرامي كان بالملل: لقد وقعت ضحية عدم دقته.

*
أنا ممنوع من الزمن. ولما كنت عاجزا عن متابعة إيقاعه فإني أتعلق بتلابيبه أو أتأمله لكني لست فيه ألبته. كما أنه ليس فيّ. وعبثا أطمع في قليل من زمن الجميع.

*
إذا أمكن للإيمان أو السياسة أو الحيوانية النيْل من اليأس، فلا شيء ينال من الكآبة: إنها لا يمكن أن تتوقف إلا مع آخر قطرة من دمنا.

*
القلق يرقانيّ، أما الكآبة فهي حقد حالم.

*
أحزاننا تمتد باللغز الذي تشي به ابتسامة المومياوات.

*
وحده القلق باعتباره يوطوبيا سوداء يمنحنا تفاصيل عن المستقبل.

*
هل نتقيأ؟ هل نصلي؟ إن الملل يرتفع بنا إلى سماء صالحة للصلب تترك في حلوقنا طعماً راسبا من السكرين.

*
“أنا شبيه بالدمية المتحركة المكسورة التي سقطت عيناها إلى الداخل”

هذه العبارة التي نطق بها مريض عقلي، أعمق من كل الأعمال التي وُضِعت في الاستقراء الباطني.

*
حين يحدث لكل شيء من حولنا أن يفقد الطعم، كم يصبح (محمضا) ذاك الفضول لمعرفة (كيف) سنفقد العقل.

*
آه لو كان بإمكاننا أن نغادر على كيفن العدم المصاحب للامبالاة في اتجاه الحيوية المصاحبة لتقريع الضمير.

*
بالمقارنة مع الملل الذي ينتظرني، يبدو الملل الذي يسكنني، فوق الاحتمال بدرجة ممتعة، الشيء الذي يجعلني أرتجف خوفا من فكرة أن أستنفد رعبي منه.

*
في عالم لا كآبة فيه لن يكون أمام العنادل غير التجشؤ.

*
هل ثمة من يستعمل كلمة حياة في كل موضع؟ إذن فاعلموا أنه مريض.

*
اهتمامنا بالزمن ناشئ عن زهونا بما لا رجاء فيه.

*
لإتقان الحزن، تلك الحرفة اليدوية المتعلقة بما هو ضبابي، بعضهم يحتاج إلى ثانية وبعضهم يحتاج إلى حياة كاملة.

*
أكثر من مرة انعزلتُ في تلك الغرفة المخصصة للمهملات التي هي السماء، أكثر من مرة رضخت لتلك الحاجة إلى الاختناق في الله.

*
لا أكون نفسي إلاّ إذا كنتُ فوقي أو تحتي، في ذروة الغضب أو في ذروة الإحباط، حين أكون في المستوى العاديّ لنفسي أجهل أني موجود.

*
ليس من السهل الحصول على عُصاب، من يفلح في ذلك يملك ثروة يساهم في إنمائها كل شيء: النجاح كما الفشل.

*
نحن لا نستطيع التحرك إلا وفقا لمدة محدودة في الزمن: يوم، أسبوع، شهر، سنة، عشر سنوات أو حياة كاملة. ولو شاء حظنا السيئ أن نربط بين أفعالنا والزمن، فإنّ الزمن والأفعال سيتبخران: تلك هي المغامرة في اللاشيء، ذاك هو سِفْر تكوين الـ (لا).

*
لا بدّ لكل رغبة من أن تلتقي آجلاً أو عاجلاً بذبولها: بحقيقتها.

*
الوعي بالزمن مؤامرة على الزمن..

*
بفضل الكآبة – هواية تسلق الجبال هذه، اللائقة بالكسالى. نتسلق انطلاقاً من فراشنا القمم كلها ونحلّق بأحلامنا فوق كل الهُوِيّ.

*
الشعور بالملل لَوْك للوقت.

*
الأريكة، هذا المسؤول الكبير، مُتَعَهَدُ “روحنا”…

*
أتخذ قراراً وأنا واقف. أضطجع فأُلغيه.

*
كان من السهل التأقلم مع الأحزان لولا أنها تُجهز على العقل والكبد.

*
بحثتُ في نفسي عن المثال الخاصّ بي. أما بخصوص الإقتداء به فقد أسلمتُ العنان إلى جدلية التواني. لكم هو أكثر متعة أن لا ننجح في أنفسنا.

*
من المبالغات الميتافيزيقية أن نخص فكرة الموت بكل الساعات التي كانت تتطلبها مهنة ما. وهذا من خاصيات الرهبان والعاطلين عن العمل والصعاليك.

لو كان بوذا نفسه صاحب مهنة لظلّ مجرد ساخط.

*
أَجْبِرُوا البشر على الاضطجاع طيلة أيام وأيام. ستفلح الأرائك حيث فشلت الحروب والشعارات. ذلك أن عمليات الملل تتجاوز من حيث الفاعلية العمليات العسكرية والإيديولوجية.

*
تقزُزنا من هذا الشيء أو ذاك، ليس سوى تحويلٍ لوجهة تقززنا من أنفسنا.

*
حين أفاجئ في نفسي حركة ثورةٍ ما، أبتلع حبة منوم أو أستشير طبيباً نفسانياً. الوسائل كلها جائزة بالنسبة إلى من يلاحق اللامبالاة دون أن يكون مهيّئاً لها.

*
الفراغ هو اليقين الذي يكتشفه في آخر سيرتهم المهنية، وكمكافأة على خيباتهم، الناسُ الطيبون والفلاسفة المحترفون. بينما هو من باكورات الكسالى، أولئك الميتافيزيقيون منذ الولادة.

*
كلما أجهزنا على إحساسنا بالخزي تعرّينا من أقنعتنا. إلى أن يأتي يوم تتوقف لعبتنا: لا خزي بعد، لا قناع، ولا جمهور.

– لقد أفرطنا في إحسان الظن بوفرة أسرارنا وبحيويّة شقائنا.

*
لي يومياً خلوات مع هيكلي العظميّ، وهذا ما لن يغفره لي لحمي أبداً.

*
لا ُيهلِك الفرح إلاّ قلةُّ صرامته. لاحظوا في المقابل منطقية الضغينة.

*
إذا حزنتَ مرّة دونما سبب، فثق أنك كنت حزيناً طيلة حياتك دون أن تعرف.

*
أتسكع عبر الأيام مثلما تتسكع مومس في عالم بلا أرصفة.

*
نحن لا ننتمي إلى الحياة فعلاً إلاّ متى تفوهنا، متحمّسين، بإحدى السذاجات.

*
بين الملل والنشوة تدور أحداثُ تجربتنا مع الزمن كلّها.

*
هل وصلتْ حياتك إلى نتيجة؟ إذن لن تعرف أبداً الكبرياء.

*
نحن نحتمي بوجوهنا لكن المجنون يفضحه وجهه. إنه يمنح نفسه. يسبق الآخرين إلى اتهامه. لقد أضاع قناعه لذلك فهو ينشر حيرته. يفرضها على أول عابر. يفضح أسراره. هذا القدر كله من عدم التكتم يثير الحفيظة. من الطبيعي إذن أن يوَثّق ويعزل.

*
المياه كلها بلون الغرق.

*
إمّا بسبب شغفي بتقريع الضمير، وإما بسبب فقداني الإحساس، لم أقم بأيّ شيء لإنقاذ القليل من المطلق الذي يحتويه العالم.

*
الصيرورة احتضار بلا خاتمة.

*
بعكس الملذّات، لا تقود الآلام إلى الإشباع. ليس هناك مجذوم مُتخم.

*
الحزنُ شهيةٌ لا تشبعها أي مصيبة.

*
لا شيء يثير زهونا مثل عقدة الموت: “العقدة” وليس الموت.

*
اللحظاتُ التي يبدو لي فيها أنْ لا جدوى من نهوضي، هي التي تشحذ فضولي إزاء أولئك الذين لا أمل في شفائهم. لا شك أنهم وقد سمّروا إلى أسرّتهم وإلى المطلق، يعرفون الكثير عن كل شيء. إلا أنّي لا أقترب منهم إلا بالحيل والمهارات التي يعلمها الخدر، بالاجترار الذي يصاحب نوم الضحى.

*
يظل كل شيء ممكناً طالما ظلّ الملل محدوداً بأمور القلب، أمّا إذا تفشى في حلقة الفكر فقد هلكنا.

*
لا تتأمل البتة ونحن وقُوفٌ فما بالك إذا كنّا ماشين. لقد ولِدَت الحركة من تكالبنا على الوضعية العموديّة. وعلينا إذا أردنا الاحتجاج على مضارّ الحركة أن نحاكي وضعية الجثث.

*
اليأس وقاحة الشقاء. إنه شكل من الاستفزاز. فلسفة عصور لا تتقن التكتّم.

*
نكفّ عن الخوف من الغد حين نتعلّم كيف نغترف من الفراغ ملء اليدين. المللُ يصنع المعجزات: إنّه يحوّل الفراغ إلى مادّة. هو نفسه فراغ مُغذِّ.

*
كلما تقدمتُ في السن قلَت رغبتي في لعب دور هاملت على طريقتي. بل أنّي لم أعد أعرف بأيّ ألمِ عليّ أن أحس في مواجهة الموت؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى