الفن والفلسفة توأمان لدى شوبنهاور في وظيفتهما الإدراكية لماهية الوجود، إذا كان التفلسف يمارس الوعي بالحياة عن طريق التصورات فإن الفنّ يمارس الوعي بالحياة عن طريق المُثل، وإذا كانت إرادة الحياة ذات طبيعة باطنية عمياء لأنها تندفع بلا سبب وتتحرك دون هدف فإن الفن هو السبيل الوحيد للتحرر من عبثيتها، عالم الحياة هو محل اشتغال الإرادة التي تتجسّد في الصراع الشامل في الطبيعة وتتسبب بانتشار العذابات والآلام، لكن عالم المثل التي يُعيد الفنان اكتشافها عن طريق التأمل فخالٍ من الألم لخلوه من الإرادة، يقول شوبنهاور: “في التأمل الفني يصير الشيء الجزئي صورة نوعه دفعة واحدة، ويستحيل الفرد المتأمل إلى ذات عارفة خالصة”.
في العلم يتم الانطلاق من الكلي من أجل استتباع الجزئي لكن في الفن تكون البداية من الجزئي لمحاولة احتواء الكلي، العلم يتطلب البرهان ويصل لهدفه بالتجربة بينما الفن لا يتطلب سوى الموهبة وعادة ما يصل لمبتغاه بالبصيرة، نسيان الأنا هو شرط المتعة الجمالية إذْ لا تتحقق إلا بالتسامي الذي لا يخدش الإحساس بالجلال مع إجالة النظر في غضبة الطبيعة، ولا يكتمل إلا بالاتصال بين الذات والموضوع ليصبح التأمل في الحقيقة عملا لاإراديا، الجمال يتحقق في أتم صورة وأبهى حلة في النوع الإنساني لأنه يمثل أعلى مراتب تحقق الإرادة في هذا العالم، إعادة اكتشاف المثال الذي تتجسد أشكاله في الطبيعة عن طريق التأمل العميق هو ما يتيح للفنان التعبير عنه بصورة تفوق نظيرها الموجود في الطبيعة.
إذا كان الجمال لدى كانط ينصرف إلى ما تروق لنا صورته وليس إلى ما تروق لنا مادته فإن الشعور بالجمال لدى شوبنهاور “يأتي بواسطة عيان خالص تُدرك فيه الصور المتحققة في الموضوعات المحسوسة”، لذا كان الفن المعماري لدى شوبنهاور هو أدنى درجات الجمال لأنه لا يتجاوز مجرد الانسجام الهندسي، ثم يليه فن النحت والتصوير حيث يميل الأول لتوكيد إرادة الحياة وتحققها في الزمان والمكان بينما يميل الثاني لإنكارها لأنه ينحو لاستخلاص طابع إنساني عام من خلال الفرد باعتبار أن كل إنسان يساهم في مثال الإنسانية.
ثم يليه فن الشعر بوصفه إدراكا للذات من داخلها واستثارةً للخيال بواسطة الكلمات على حد تعبير شوبنهاور، الشعر يستوعب المُثل بكل درجاتها، لذا كانت القصيدة رمزا لتفوق الإنسان الروحي وأهم مظاهر التعبير الجمالي، الشاعر “مرآة الإنسانية” لقدرته على النفاذ إلى سر الوجود وملامسة الجوهر ومغالبة الخواء الداخلي، ثم يليه فن الموسيقى التي يراها شوبنهاور من أوضح تعبيرات الشيء في ذاته الذي لم يعد محجوبا بأشكال أخرى للتكييف المعرفي، وبخلاف حال الفنون الأخرى تبدو الموسيقى من أشد التعبيرات الفنية عن الوجود في وحدته المطلقة، للموسيقى كينونة مستقلة عن العالم وهذا يُكسبها أهمية ميتافيزيقية، خصوصا أن الطابع المتجدد للألحان يشبه الطابع المتجدد للطبيعة من خلال تنوع الأفراد، رؤية شوبنهاور للموسيقى تجسدت في الموسيقار ريتشارد فاغنر الذي وجد فيه نيتشه “فلسفة شوبنهاور وهي حية تسعى على قدمين”.
لقد وضع شوبنهاور قيمة الجمال في أعلى مرتبة ممكنة لأنه كان يتغيا بواسطتها الوصول إلى ما يشبه “الفناء التام” التي تحققه إرادة الفنان، يقول شوبنهاور:” لو استطاع الإنسان، مدفوعاً بقوة العقل أن يطلق الطريق المألوف في رؤية الأشياء… لو توقف عن اعتبار ما في الأشياء من متى وأين ولماذا، وتطلّع إليها ببساطة كما هي فقط، لو حال بين فكره المجرد وفكر التصورات… فترك وعيه في تأمل هادئ للموضوع المتمثل أمامه، منظراً كان أو شجرة أو جبلاً أو بناية … الخ . فلو كان له ذلك لتخلص الموضوع من كل رابط يشدّه إلى غيره، ولتخلصت الذات من كل رابط يشدها إلى الإرادة، وما سندركه حين ذلك لن يكون هذا الشيء الجزئي أو ذلك، وانما هي فكرة الصورة السرمدية، والتمثل المباشر للإرادة في درجة ما، وفي إدراك كهذا يتخلص الإنسان من كل فردية، فيغدو ذاتاً من المعرفة الخالصة وأعلى من الإرادة والألم والزمن”.