تبدو مفردة الحب بحد ذاتها كون خاص في الجمال والاحساس الصادق بالوجود، والدينامية البشرية التي تشكل نجمات ساطعة في سماء تلك المفردة النابضة بالحياة، وتغيب تلك المفردة بلا عودة في عوالم الأشكالات الأجتماعية التي تتأزم نحو تدمير الذوات والوجود، ويشكل ذلك الغياب أسرار انسحاب الإحساس بالوجود مع تلك التأزمات و نكهة الشعور بالسعادة في الحياة .
وشغلت تلك المفردة عوالم الأدباء في مساحات الإحساس المرهف، وعوالم السيكولوجيين في دراسة الدينامية المحركة لتلك المفردة الهادئة الصاخبة في الآن ذاته في حياة البشر، وماهية دوافع تلك المفردة في تحريك الوجود، وما يؤول معها إلى أسرار ساحرة، في اكتسائه بالورد والسلام، وألق تجليات المعاني السامية بين الآنام، وروعة تألقه بطيور الحب المسافرة بلا حدود في اطياف حياتنا المتنوعة .
وبعيداً عن الرؤية المقارنة لتنظيرات المدارس النفسية التي تعاطت مع هذه المفردة العذبة علمياً، فإنها تؤطر جميعاً بعيداً عن صخب الأقوال وتناقضاتها، في اعتبار تلك المفردة دافعاً محفزاً في أن يكون للفرد علاقة حميمة بآخر يبادله المحبة ويفهمة ويتجاوب معه، وهي سمة فطرية نولد بها، في عوالم الأحساس والمشاعر، وليس لها أسباب فسيولوجية، وتؤول انعكاسات فيما نبديه أو نتلقاه من معاملة طيبة وحنان ورعاية، أو قد تظهر في حرارة اللقاء والمصافحة باليد، وقد تترجم فيما يرتسم على ملامحنا من سرور وحبور وكلام مؤثر يؤطر تلك المشاعر المرهفة، وقد نسقطها على الوجود شعراً، وقد تكون مناجاة مع الطبيعة بكل موجوداتها الجميلة، وقد يعبر عنها بالتقبيل والاحتضان، وقد تؤول مع أوج الإنفعالات إلى دموع غزيرة في لغة الفرح، وهنا تبدو هالة المساحة التي شغلت المفكرين بين الفرح والحزن في الخط الفاصل بينهما، عندما يؤول أوج الفرح إلى صورة شكلية للحزن من خلال الدموع ، والعكس صحيح عندما يؤول اوج الحزن والصدمة إلى لغة شكلية للفرح عبر جنون الضحكات ، وهو الجدل بحد ذاته القائم بين العبقرية والجنون في الخط الفاصل بينهما، حيث تختلط المفردات جميعا في جدلية هذا الحد الفاصل بينهما سواء بين الفرح والحزن أو العبقرية والجنون .
لذلك فإن الحاجة إلى الحب في حياتنا هي عين الحاجة في أن يكون إلى جوارنا من يشبع فينا حاجات متنوعة ترتقي من الحاجات الحسية التي تتعلق بالحواس كلها، إلى أن تغدو مجردة عند نضج الإنفعالات فتصبح حاجات معنوية تتعلق بالمعاني والجوهر، بعيداً عن الشكل المحسوس والمظهر الخارجي المادي، وهذه المعادلة تخضع لجدلية واسعة لأن الصورة التعبيرية للحب تبقى حالة وسط بين لغة الحواس ولغة المشاعر، ويصعب أن تتجرد إلى المعنى المطلق دونما أن تختلط بحراك حسي يعبر عنها، سواء في لغة المعاملات البشرية الرقيقة أو الصورة الأوج من خلال اللغة الجنسية، وفي ظل تلك الجدلية تبرز طروحات السيكولوجيين في تفسير مضامين اللغة الصوفية وما يعتريها من معاني الحب الإلهي ولغة التوحد بالوجود، حيث تعبر عن المعنى المطلق في لغة الحب والتجرد بلا حدود، حيث تغدو الذات والوجود في هالة تلك المفردة حيث تكتسي بالقداسة في البدء والإنصهار والختام .
ويقابل هذا النمط من المشاعر الصوفية المتفردة في الجوهر المطلق في أعلى درجاته، النمط المادي البحت في أعلى درجاته، فيما يعرف بالحب من النظرة الواحدة، إذ يعتبر ضرب من الشهوة، وذلك لأن اتصال النفوس وتلاقيها على حد قول ابن حزم الأندلسي لايكون إلا بعد أن تتهيأ لهذا الإتصال وتسعد له بعد ايصال المعرفة اليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي تخفى على المحب من محبوبه بما يشابهها عنده، وحينئذ يكون اللقاء صحيحاً ويحدث أثره، وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الإستحسان الجسدي فهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة، فإذا تجاوزت المحبة الشهوة إلى توافق الطبائع يكون العشق، وهنا تدخل إشكالية أن يحب المرء اثنتين ويتزوج اثنتين، فالأولى لاتتحقق، لأنه ليس للمحب من وقت وجهد يصرفه على غير محبوبه من أسباب دنياه، فكيف يشتغل قلبه وفكره بحب ثان في الآن ذاته، و إنما الزواج يصح لأنه يقرأ من خلال الشهوة ويسمى محبة على الظاهرفهو كناية مجازية تحت مضمون المحبة لا على وجه الحقيقة، ولا تتحقق على وجه الحقيقة إلا لامرأة واحدة لااثنتان أو اكثر في الآن ذاته، وهنا أنوه بأن ما ذكر سابقاً هو حول نوعية الحب التي تدور فطريا بين الرجل والمرأة في الزواج وفلك العلاقات التي تدور في هذا الإطار، لا مشاعر الحب التي تدخل تحت مظلةالأمومة والرحم، لأن هناك أغصان متنوعة لشجرة الحب في الحياة، بدءا من المفردة التي تكتسى بالقداسة في لغة الإيمان والروحانيات، أو حب الأباء أو الحب الأخوي، وهناك الحب المرتبط بالجنس فقط، وهناك الحب الموضوعي عندما يشحن الوجود بمشاعره وجدانيا، يقابله الحب الذاتي الذي يتمركز في الطفولة نحو دائرة الأم، وهناك صور سلبية تنطلق من مشاعر الحب عندما ينحرف عن السوية فيكون في صورة الحب الجنسي المثلي، الذي يعد شذوذاً جنسياً، والحب العصابي الذاتي عندما يحب الشخص نفسه كما لو كانت موضوعاً خارجياً وهو عندما يتعاطى مع الطرف الآخر كأن يكون زوجاً مثلاً فهو في الصورة الخارجية يشبع بمشاعره الطرف الآخر ظاهراً، ولكن في الواقع يشبع كل منهما في الآخر ناحية عصابية، وليس تعلق أحدهما بالآخر، وهناك الحب الشفاف الذي يتجاوز حدود الموضوع الجنسي ليؤول في إطار المحبة المتجردة الشفافة، التي تتشكل مدادها من التوافق وارادة كل من الطرفين، على تأطير تلك العلاقة بالطهر والشفافية ولغة الاستمرارية رغم كل الحواجز المعيقة، وتعنون بصورة الحب الزوجي الحقيقي أو المنشود في الديانات، حيث ينطلق إلى الجوهر ويتجاوز الحقيقة الشبقية المحضة، وربما تفتقد تلك المعاني حقيقة في واقعنا مع كافة اشكال الأزمات التي تهدد العلاقات بين البشر، وربما نجدها ولكن في مساحة جد ضيئلة في واقعنا المتخم بالماديات ولغة المصالح وتضخم الأنا والنزوات الشخصية المحضة .
وما سبق ذكره يؤكد تلك الجدلية السيكولوجية التي تميز بين الحب كعاطفة وبين ان يكون علاقة بدنية، وهنا الخط الفاصل لمعاني الطهر والشفافية في العلاقات، ولغة النزوة والأنا في ادارة تلك العلاقات، او ما يعرف بلغة الأسقاطات السيكولوجية في هذا الصدد .
وفي اطار تجلية تلك المفردة سيكولوجياً، تبرز تساؤلات حول لغة الشعوب في التعاطي معها، فالمشاعر واحدة في البشر، ولكن اشكال التعبير عنها متفاوت بحسب لغات العالم، وما تترجمة تلك اللغات من انعكاس في الواقع الأجتماعي، لأن اللغة ليست موضوعا خارجاً عن المجتمع؛ انما هي من رحم المجتمع، والعلاقة متداخلة بينهما، فكل منهما يفد إلى الأخر في علاقة دورية لاتنتهي .
فالمرأة الفرنسية تمارس الحب على طبيعتها، في اطار التلذذ والسيكولوجيا المفتوحة، ولاتستنكف ان تظهر عواطفها علناً، وتنأى عن لغات الكبت في مشاعرها، في حين تكتنف لغات التعبير عن عاطفة الحب لدى الأسبان والأيطاليين بعض التحفظات، وهذا يؤكده الأدب الفرنسي حول مفردة الحب الذي كتب فيه حتى الثمالة، في حين لم تظهر بجلاء مشتهرلدى الأدب الأسباني، وربما يفسره في ادبهم تأثرهم بالحضارة الأسلامية، التي حافظت لديهم على حمرة الخد عند مخاطبة المرأة بمفردة الحب ومتعلقاتها، كما يسجلها تراثهم الأدبي، اما في البعد الأيطالي فتحفل لغة المآسي والألم مقارنة مع هذه المفردة العذبة وانعكاساتها الأجتماعية، الذي اتخمته الملاحم والألالم والحروب والتناقضات الأجتماعية .
وترتبط مفردة الحب لدى الألمان بسيكولوجيا الحرمان والعذابات، وهذه لغة انعكاساتها في الأدب الألماني، وربما التراث الألماني احدث انعكاساته بجلاء في هذا الصدد، والقرءاة المتأملة له عبر رحلة الصراعات الدموية، والقومية المتفردة .
وفي الأدب الأنكليزي هناك تقدير لمفردة الحب في اللغة الشعرية، ولكنها لغة عملية ترتبط بالمادة اكثر، وهي لاتخلو من مشاعر رقيقة، ورسالة متميزة احدثت اثرها في الأدب العالمي عامة .
أماالمرأة الأمريكية فهي أقل نساء العالم الغربي معرفة بالحب الحقيقي، الجوهر المطلق، وربما أثرت حركة البراجماتية التي قادها ديوي، في إحداث انعكاساتها على المجتمع والسياسة، في ظل لغة المنفعة والمصالح المتوقعة، ومن هنا وردت على مساحات علاقات الحب لغة تجربة الحبيب وفيما بعد تقرر المرأة اعجابها به، بناء على العلاقة الجسدية المحضة، والمنافع المادية وقد تتزوجه وسرعان ما يحدث الأنفصال في ظل العلاقات المحكومة بالأنا والنزوات على غرار السياسة الأمريكية لتيار المحافظين، فهي تحتفي بحلفائها وسرعان ما تجهز عليهم بسياسة العزل والحصار والأنفصال حتي القتل بنخب الثمالة، كما تعكسها سياسة بوش والمحافظين العاشقين لمفردة الحرب مقابل مفردة الحب والفرق بينهما راء ولكنها تعني للسياسة الأمريكية الشئ الكثير في تدمير الذوات والأرض والحضارة معاً .
وعلى سبيل الإستطراد تعد امريكا من أعلى دول العالم في معدلات الطلاق، ويعد الأمريكي من أكثر الناس قصورا في النضج الإنفعالي في موضوع الحب، وأشدهم جهلا في مشاعر الأنوثة ومتطلباتها سيكولوجيا، لأنه يعي الحب وسيكولوجيته في ظل الموضوع الجنسي ونزوات الذات وتلذذها في لغة الأنا المحضة على الوجه الأغلب لا التعميم بالطبع .
وفي التراث العربي حفلت مفردة الحب بمساحات واسعة في لغة الشعراء والعاشقين، وبلغت حد الجوهر المعنوي في التعاطي مع المحبوبة ولغة الإسقاطات بكافة تجلياتها على ديار المحبوبة ومتعلقاتها المادية، وفي الواقع العربي، الذي نحيا مخاضه الآن، لايمكننا أن نجد سمة فاصلة لتلك المفردة في الواقع العربي الذي أتخم بالتبعية، بحيث يصعب سيكولوجيا ايجاد سمة سيكولوجية فاصلة له، فهو متأثر بلغة ماضوية سلبية كبلت المرأة وبالتالي كبلت تلك المفردة وخضعت لإطار حرمان تلفظها والخوض في أبعادها إلا في أطر معينة، أو انسحبت لتغدو موضوعا جنسيا بحتاً كما في مساجلات بعض الفقهاء وربما لعبت الحركة الفنية عبر صورها الدرامية المتنوعة في ترسيخ تلك الرؤية القاصرة لتلك المفردة، وربما تطرفت لتغدو في بعد الأباحية المطلقة حينا كما هي في اللغة الفرنسية أو اللغة الأمريكية البراجماتية النفعية، وربما نجدها متأثرة بسيكولوجيا الحرمان والألم كما هي في التراث الشيعي، وربما وجدناها محددودة المجالات في إطار الهي مقدس، يحرم الخوض بها في مجالات أوسع و أكثر رحابه لأن ذلك خروجا عن الثوابت كما في اطارها السلفي، وما زال الإطار الإسلامي المعتدل يحوم حول الدائرة السلفية ولم يخرج إلى مجالات أكثر رحابة في التعاطي معها، والجدلية الدائرة هنا تعود للخط الفاصل بين تلك المفردة ومضامين الثقافة الجنسية وما يعتري تلك الثقافة من كبت في التعبير والمداولة الواقعية تحت مظلة التأصيل والإنفتاح معا .
وما سبق ذكره يعزز عدم إمكانية تحديد سمات فاصلة لتلك المفردة في واقعنا العربي المعاصر رغم أننا نستطيع استخلاص سمات فاصلة لها في التراث الثقافي والأدبي على وجه التحديد للحضارة العربية الإسلامية .
د. سعاد جبر / الأردن
كاتبة وناقدة في مجال سيكولوجيا الأدب