يبدو أنّ “الإبداع” لا حدود له، من هنا تتأتّى أهميته ومكمن جوهره. ولعلّ المبدع الحقيقيّ كالطائر الغنّاء في تنقّلهِ من غُصنٍ لآخر، ومن شجرةٍ أو غابةٍ لأُخرى. طالما أنّ من يُبدع في مجال ما قد يتجاوزه إلى مجالات أُخرى عديدة، وإن كان الأول احترافياً، فيما الأخرى لا تعدو عن كونها أشبه باستراحة “المحارب بين معركتين” أو أكثر قليلاً.
في مجموعته الشِعريّة “ريح وأوراق”، الصادرة في طبعتها العربيّة عن منشورات المتوسط (إيطاليا- 2017)، ينحو الشاعر والمخرج السينمائي العالمي عبّاس كيارستمي إلى “ترسيخ رؤيته الشعرية عبر قصائد موجزة تذهب نحو اليومي والوجودي والطبيعة واللحظات العاطفية العميقة التي تكاد تكون توثيقاً شعرياً للّقطة السينمائية. أو مؤسّسة لها”.
كيارستمي (المولود في طهران، 1940)، لا تقلّ موهبته الشِعريّة الفذّة عن عمله الاحترافيّ في السينما، حيثُ يُكمل إحداهما الأُخرى، سواء من جهة الشِعريّة في السينما أو العكس، وليطغى الجانب التأمّلي/ البصري/ التصويري على أجواء جُلّ قصائده: “توقّفت الثلوج عن التساقط/ حينها بدأ المطر/ انقطع المطر/ حينها غرّد الطائر”.
المزج بين رؤيتين
تقترب قصائد “ريح وأوراق” من النموذج العالمي للهايكو الياباني وكذلك تتقاطع مع أجواء القصيدة الصوفيّة أو ما يُسمّى بالشطحات، من خلالِ مزجٍ حميمٍ بين الرؤيتين. وقد عمل كيارستمي سابقاً على تشذيب أبياتٍ من الشعر الكلاسيكي الفارسي، وتحديداً الصوفيّ منه، ونشرها بطريقة شِعر الهايكو؛ حيث قدّم مختارات للشيرازيَّين حافظ وسعدي، وأخرى لجلال الدين الرومي. وقد لاقت ترحيب البعض واستهجان البعض الآخر.
من المقاطع التي تأتي في هذا الاتجاه، نقرأ: “ورود الصحراء/ لم يشمّها أحد/ لم يقتطفها أحد/ لم يبعها أحد/ لم يبتعها أحد”، “ترى كيف تنظر الأشجار الكبيرة/ للشجيرات الصغيرة؟”، “ثمّة حريق في الغابة،/ أشجار الصفصاف السامقة/ تتأمّل المشهد”، “شجرة سرو واحدة/ طائر قمريّ واحد/ السروة في التراب/ القمري فوق السروة”.
معجم الطبيعة
تذخر مجموعة “ريح وأوراق” بمشاهد الطبيعة الصامتة؛ الصمت لا بوصفهِ سكوناً بل كحالةٍ من الإدهاش، الصادم والمُؤثّر. مُحققاً بذلك أحد أبرز شروط كتابة الهايكو. يقول في أحد المقاطع: “لقد حصدوا الحنطة/ القمر/ يضيء القشّ”. وفي مكانٍ آخر يقول: “أرقٌ/ في ليل أضاءه القمر./ حتّى الفجر،/ حوار غير مثمر مع الذات”.
من جهةٍ أخرى، يكاد لا يخلو أي مقطع ضمن المجموعة من مفردات تخصّ الطبيعة أو على علاقة وثيقةٍ بها، وكأنها الحبر الذي يكتب به. حيثُ يجد الشاعر في الطبيعةِ نَفسها مرآة لروحه، تعكس رغباته وكل ما يجول في خاطره من فرحٍ أو شجن، حيثُ نجده يقول: “تحت ضوء القمر/ كانت الكأس فارغة/ والقلب خاوياً”، وكذلك: “صمتُ القمر/ يحطّم قلبي”.
مشاهد بصريّة مشذّبة
المعرفةُ الحقَّة بالكتابة، والعمل السينمائي المكمّل لتوسعة آفاق ما يُدوَّن على الورق، كفعل إبداعي، يتبدّى الأمر هذا واضحاً لدى كيارستمي، لتأتي معظم نصوصه كمشهدٍ سينمائي جاهز للبَدء بتصويره دون أيّة محسّنات بصريَّة، فالمشهد البصريّ داخل النصوص مشذّب لدرجة الإتقان الفعليّ، وكأنّ مخرجاً– وهو كذلك فعلاً- يمتلك عيناً ثاقبة يتمعّن ملياً قبل أن يبدأ: “بين أشلاء السحب السود/ للقمر رغبة في الاستعراض”.
هذه اللعب السينمائيّة التي يجيدها كيارستمي، تمنح نصّه/ ومضته بُعداً، وتمنح القارئ ما يشبه الاسترخاء بعد عملٍ ذهني طويل، بفعل صفاء المشهد آنَ الكتابة، شيء حسّي لا يراه سوى الشاعر ببصيرته النفّاذة مانحاً الهدوء والسَكينة.
“في حياتي التي لم تكن قصيرة/ في حياتي التي لم تكن طويلة/ تساقطت الثلوج على مدار عشر سنوات” يقول كيارستمي.
الشِعرُ الحِكمة
متخفِّفاً من الحكمة، ينطلق الشاعر/ السينمائي نحو التقاط المشهد، أحياناً يدوّن كيارستمي ما يدلّ على حكمةٍ ما، إلّا أنّها ليست ذات بُعدٍ تنظيريّ فلسفيّ، إنّها فقط الكتابةُ التصويريَّة التي تأتي على إثر تمعّنٍ ما في العالم، في الثورات، لكن وفق منظورٍ مختلف ومُغاير: “ثائر دون سبب/ جرى إعدامه/ مع إعلان السبب”.
لا يمكن للشِعر الآن أن يكون حاملاً لنظريَّات فلسفيّة، هذا ما يراهن عليه كيارستمي وينجح في ذلك، بعدَ أن يجمع عناصر الطبيعة في تقاربٍ محبّذ، تقاربٌ هو في الحقيقة الصياغة الأسمى والأكثر “حقيقيَّةً” والتي تلعب دور الدالَّ الأساسي– غير المزيَّف- على مفردة “الشعر”، دون رتوش أو إحالات، ثمة مشاهد واضحة للعيان، ولا تحتاج سوى إلى من يدوّنها دون تجميلٍ أو تزييف: “الذئاب تعوي/ الكلابُ تنبح/ أنا أتجمَّد”، بهذه البساطة يمضي كيارستمي نحو الشعور الحقيقي، الإحساس كما هو مدوَّناً دونما حكمةٍ أو فلسفة!.
زوايا عزلة الشاعر
يمكن الاستدلال من خلال الجمل القصيرة التي يدوّنها كيارستمي، تلك التي تكون أشبه بملاحظاتٍ يوميَّة لعين الرائي، على عين الشاعر الثاقبة، مضافاً إلى ذلك حساسيَّة السينمائي في التقاط اللحظويّ ضمن تفاصيل الحياة اليوميّة، زوايا لا يمكن أن يفتّش أحدٌ منّا عنها في الأنحاء القريبة منه، زوايا من الصعب التقاطها إلّا باستخدام حدقة الشاعر ذاته أو أذنه أو استعارتهما ربمّا: “صوت نمو العشب/ أيقظني”. دقّة ملاحظة تنسحب على كافّة أعضاء الجسد، ليغدو جسد الشاعر كتلةَ مجسّاتٍ لاقطة لأدقّ التفاصيل.
كلّ الشعراء يكتبون قصيدةً واحدة، لكن الأسلوب متغيّر، وهذا ما يُنجِز المختلف، الذي يمكن أن يُراهَن عليهِ كتابةً وغوصاً في عالم العميق. العزلةُ الدائمة التي تتيح رؤيةً أصفى للمشهد، هذا ما يريد أن يقوله كيارستمي عبر النصوص/ الومضات التي تخبّئ داخلَ كل مفردةٍ واضحةٍ منها معاني غامضة تستوجب التأمّل فيها بتأنٍ.
الكوابيسُ شِعراً
يطغى على مجمل نصوص المجموعة الأخيرة، خوفُ الكوابيس، المفردةُ الأخيرة التي يبدع فيها كيارستمي من خلال رسم تلك الكوابيس كلاماً مدوّناً، تلك الكوابيس التي من الممكن النظر إليها على أنّها- ربما- كانت مشاهدَ سينمائيَّة يودّ لو أن ينفّذها حقيقةً: “حلمتُ أنني قطعتُ رأس زوجتي/ يا له من كابوس غريب!”.
رغم المعنى المهلك لمفردة “كوابيس”، غير أنّ الشاعر يجعل منها مفردةً يصوغُ على ضوئها تعابيرَ شعريَّة أخّاذة: “حلمتُ أنّني أسكن مع الغرباء/ يا له من كابوس!”.
الخوفُ، القلق، دقّة الملاحظة، والغوص في العوالم الداخليَّة للأشياء، يمنح نصوص “ريح وأوراق” بعداً جماليَّاً ليكونَ منجزاً مهمّاً في الكتابة، الاتّكاء على العناصر البصريَّة ومن ثم إعادة خلقها عبر اللغة المتفرِّدة، اللغة التي تبدو من بعيد وكأنّها نقلٌ لما هو واقعيّ، غير أنّ التعمّق والدنوّ منها يظهران النقيض من ذلك، اللغةُ ناقلة وصانعة للجديد: “نصفُ أصدقائي ماتوا/ أصدقاء المدرسة الابتدائيَّة/ قنّينة نصف فارغة/ ما تزال الأحزان والأفراح على ذات الشاكلة/ أستيقظ وأستلقي/ أستيقظ وأستلقي/ حتّى مطلع الفجر”.
المجموعة الأخيرة
مجموعة “ريح وأوراق”، (نقلها إلى العربيّة محمد الأمين الكرخي، وجاءت في 96 صفحة من القطع المتوسط)، الإصدار الشِعريّ الثالث في رصيد عبّاس كيارستمي، الذي توفي العام الماضي في باريس عن 76 عاماً، إلى جانب مجموعتين شِعريتين سابقتين له، هما: “مع الريح (1999)” و”ذئب متربّص (2004)”.
هذه المجموعة تحديداً، وبحسب المترجم، رسّخت مكانة كيارستمي في المشهد الشِعري الفارسي عن جدارة، بعيداً عن شهرته الواسعة في الحقول الإبداعية الأخرى، لاسيما في المجال السينمائي كمخرجٍ له ما يزيد على 40 فيلماً.