صعدت إلى غرفتي بمجرد أن سنحت لي الفرصة. كنت في حاجةٍ إلى أن أنعزل لأفكر في الأمر. ظللت حائرا لمدةٍ طويلة، وأنا جالس على السرير أنظر إلى شجرة التين دون أن أراها. فكرت: “يتيمًا، سأصبح يتيمًا” إحساسٌ غريب، إحساس بالحسرة والضياع (ليس أمراً سهلاً أن تبقى بلا أم في الثانية عشر من عمرك)، وإحساس أيضًا بأنني أنتقل إلى حالة جديدة. لا يوجد أي يتيم بين أصدقائي. سأغدو أنا أول يتيم. حتى أختي ستغدو يتيمة، ولكنها صغيرة جدًا ولن تحس بذلك كثيرًا. ظللت هناك أبكي لمدة، ولكني لست متأكدًا أن بكائي بسبب موت أمي المنتظر أم بسبب يتمي الوشيك.
حينئذ سمعت صوتًا يقول: ” ما بك؟ لماذا تبكي؟ ” وأحسست أن شخصًا ما يتجسس عليّ ويعتدي على خصوصيتي. رأيت فتاة في أعلى التينة تنظر إلي. فتاة لا أعرفها. سألتها من هي فقالت لي أن اسمها ريتا وأنها ابنة خالة نوربيرتو. كانت تكبرني بعامٍ أو عامين. أخذت تتحرك عبر الأغصان ببطءٍ، حتى وصلت إلى نافذتي ثم نزلت داخل غرفتي. استطعت أن أرى من خلال دموعي أنها جميلة إلى حدٍ كبير، وأن نظرتها حلوة وأن ساعة يدها – والتي هي أيضًا إسورة – تشير إلى الثالثة وعشر دقائق.
وضعت يدها على كتفي وعادت تسألني ” ما بك؟ ” فقلت ” ماما ستموت “، مبدياً غمّاً أشد من الذي كنت أحس به. فقالت ريتا مدلية برأيها: “كلنا سنموت”. “ولكن ماما ستموت قريبًا” وأضفت: “وهذا سرٌ لا يعرفه أحد. لا يجب أن تقوليه لنوربيرتو، لأنك إذا فعلت ستعرف الحارة كلها، ابتداء من القسيس”. “اطمئن. لن أقول شيئًا. تصور أنه ليس لدي حتى قسيس أعترف له”. وهذا الكلام جعلني أثق بها.
جلست بجانبي على السرير وقالت: ” لا تخجل من البكاء فهو مفيد. لأنه يخلص الجسم من التوكسينات. لذلك نعيش نحن النساء أكثر من الرجال. لأننا نبكي أكثر “. كلامها المليء بالحكمة أصابني بالذهول. ولكني توصلت إلى استنتاجاتي: أبي لا يبكي إلا نادرًا وأمي تبكي كثيرًا، ومع ذلك، ورغم التوكسينات التي تخلصت منها، فإنها ستموت قبل أبي. ولم أقل شيئًا عن هذا الاستنتاجات لريتا، فقط لكيلا أحبطها. حينئذ مررت هي يدها ( الناعمة ذات الأصابع الدقيقة الباردة بعض الشيء ) على وجنتي التي ما تزال مبللة بالدموع، وباليد نفسها شدتني قليلًا حتى ألصقت رأسي بصدرها. أحسست بالمواساة والراحة.
واعتراني شعور غريب بالطمأنينة (غير ثابت، بل نشيط). تلك اليد التي طمأنتني داعبت صدغي وشفتي وذقني. أحسست أنني في الجنة وأن أحزاني قد تلاشت أو تكاد أن تتلاشى، ولكني أدركت إدراكا غامضا أن كآبتي، برغم كل شيءٍ، استثمارٌ جيد، ولذلك استمررت في إبداء حزني.
عندئذٍ قامت ريتا بشيء كان فعلًا نقطة النهاية لطفولتي: قبلتني. على وجنتي، عند زاوية الشفتين، وأطالت قليلا تلك القبلة. فأصبح لدي انطباع بأن ذاك كان أول مسودة لسعادتي. ثم قالت: ” كلاوديو، أنت تعجبني. نوربيرتو يقول عنك كلامًا طيبًا. أنت أحسن صديق لديه “. ” حتى أنتِ ستكونين صديقتي”. ” طبعا، أنا الآن صديقتك. ولكني سأسافر غدًا، للأسف. ” آه، الجحيم بعد الفردوس. ” إلى أين ستسافرين؟ “. ” إلى قرطبة، في الأرجنتين، أنا أعيش هناك “. ” وهل سترجعين إلى هنا؟ “. ” لا أظن “. عندئذ قبلتها أنا أيضا في خدها، قرب الشفتين، فابتسمت. كم هي طيبة جدًا. أظن أن القبلة أعجبتها. أحسست باضطراب كان جديدًا علي، بنشوة شبه بطولية. لم يكن لأسباب بينة، هيجانًا جنسيًا، لنقل إنه كان انفعالًا ما قبل جنسي. انفعالًا، على كل حال، أقوى من الذي سببته لي أنطونيا في زمنٍ ماضٍ. ووقفت ريتا واقتربت من النافذة، وبحركات سريعة بين أغصان التينة عادت إلى فناء نوربيرتو. لوحت لي من الأسفل. واكتفيت أنا بالنظر إليها، بكثيرٍ من الأسى.