من أعمال بورخيس الشعرية

الألغاز

إذاً سأكون غداً الموت واللغز،
أنا الذي أسير مبتهجاً اليوم.
لن يكون لي قبل ولا بعد، مقيماً
أبدياً في مدارٍ سحري ومنعزل.
إنه شرط التزهّد. لا أظن أني
أهل بالجحيم ولا موعود بالمجد،
لكني أشك في عدم قدرتي على التنبؤ. قصتنا
تتغير مثل بروتيوس وتخفي قوانينها.
من يدري أي متاهة تائهة، أي حرق
أعمى من البياض سيُدهش قدري،
حين تُعلِمُني تجربة الموت الغريبة
عن نهاية المغامرة؟
لو يمكنني عندها أن أشرب من نهر “ليتي” الصافي،
أن أكون دوماً، وما كنتُ.

النوم

لو كان النوم هدنة،
استراحة بسيطة،
لماذا تشعر، حين تستيقظ فجأة،
بأنه سُرق لك ثروة؟
لماذا نكره النهوض عند الصباح؟
لأننا نخسر سحراً خارقاً،
حميماً لدرجة لا يمكن فيها تلقّيه
إلا مستتر تحت ذهب الأحلام
المحيّر، هبة الليالي، ربما البرهان
الغامض لفلكٍ غير زمني وليس له
ما يُسمّي سحره، فضيلة قصوى
يشوّهها الصحو في مراياها.
حين يفتح النوم لك جداره الأسود،
ماذا ترى؟ من ستكون هذا المساء؟

جندي

طلقة تصيبه في جبهته. لن يعرف
اسم مجرى الماء الذي كان يسير بمحاذاته.
(القصة حقيقية، وأكثر من شخص كان هو)
سقط على وجهه فاتحاً ذراعيه.
يتأرجح الهواء الذهبي عند أوراق
غابة الصنوبر. تميل الشمس بنصفها؛
الساعة رقيقة. بدقة تتسلق النملة
على الوجه الخليّ. ستصعد الزغردات.
كل شيء يتحوّل ويتحول
حتى ذلك اليوم من المستقبل الذي سأناديك فيه،
أنت وحدك، لم يسهر عليك أحد ولم تعرف حظوة
الدموع، سقطتَ كما يسقط الرجل الميت.
لن يحفظ ذاكرتك أي رخام.
ست أقدام من الأرض هي كل مجدك القاتم.

إلى الابن

أنا لستُ من يُنجبك، إنهم الموتى.
إنه أبي وأبوه، سلسلة طويلة
من الآباء، متاهة حبٍّ
متلهفة. تنطلق من آدم، من الندم الأخوي،
من الصباحات الأولى التي سيخضع لها الإنسان،
والتي أصبحت أساطير لدرجة قدمها، حتى يبلغ،
دماً ولبّاً، ذلك اليوم من المستقبل،
الثانية الآنية التي أنجبك فيها يا بنيّ.
هذا الحشد، أشعر به بقربي.
إنه نحن جميعاً، إنه أسلافي وأنت،
وأطفالك وأطفال آدم الأحمر.
هؤلاء هم أنا أيضاً. إنها إرادة الطقس
الأبوي. الأبدية هي لأشياء الزمن،
في ذلك الذي يُسرع ويعبر ويتحرك.

من “الآخر”، ذاته

حنا 1421

لن تكون هذه الصفحة أقل غموضاً
من صفحات كتبي المقدّسة
أو الكتب التي ترددها
الأفواه الجاهلة،
معتبريها من عمل الإنسان، وليس مرايا
معتمة للروح.
أنا الكائن الذي كان وسيكون
ما زلتُ أتنازل واستخدم اللغة
التي هي زمن متوال وشعار.
من يلعب مع طفلٍ يلعب مع شيء
مألوف وغامض؛
لطالما أردتُ اللعب مع أطفالي.
كنتُ بينهم بدهشة وحنان.
بفعلِ سحرٍ
وُلدتُ بغرابة من أحشاء.
عشتُ مسحوراً، مسجوناً في جسدٍ
وفي تواضع نفس.
عرفتُ الذاكرة،
تلك العملة المتغيرة دوماً.
عرفتُ الأمل والخوف،
وجهيّ المستقبل الحائر.
عرفتُ السهر والنوم والأحلام
والجهل والشهوة
ومتاهات العقل الفظة،
وصداقة الإنسان،
وإخلاص الكلاب الغريب.
أُحببتُ وفُهمتُ ومُدحتُ وسُمّرتُ على صليب.
شربتُ الكأس حتى مرّها.
رأيتُ بعينيّ ما لم أره من قبل:
الليل ونجومه.
عرفتُ الأملس والرملي والمتفاوت واللاذع
وطعم العسل والتفاحة،
والماء في حلق العطش،
ووزن معدن في الكف،
والصوت البشري، ووقع أقدامٍ على العشب،
ورائحة المطر في الجليل،
وصراخ العصافير.
عرفتُ أيضاً المرارة.
اقترفتُ هذه الكتابة لرجل عادي؛
لن تكون أبداً ما أريد أن أقوله،
ولن تسمح أن تكون انعكاسه.
أبديتي توقع هذه العلامات.
فليكتب القصيدة شخص آخر، غير الذي يخط رموزها الآن.
غداً سأكون نمراً بين النمور،
مبشراً بشريعتي في غابته؛
أو شجرة كبيرة في آسيا.
أحياناً أستحضر بحنين
رائحة محترف ذلك النجار.

الهبة التي لا نهاية لها

رسامٌ وعدنا بلوحة.
أُعلمتُ اليوم، في نيو إنغلاند، بوفاته. مرة أخرى، شعرتُ بحزن من يفهم أن جوهرنا يشبه قليلاً جوهر الأحلام. فكّرتُ بفقدان الرجل واللوحة.
(فقط الآلهة قادرة على الوعد، لأنها خالدة.)
فكّرتُ للوحة بمكانٍ مقرر سلف لن تحتله.
ثم فكّرتُ: لو كانت هنا لأصبحت مع السنين شيئاً إضافياً، شيئاً مألوفاً في المنزل؛ الآن لا حدود لها، إنها دائمة الحضور؛ قابلة لأي شكل ولأي لون وغير مربوطة بأي منهما.
موجودة بشكل ما. ستعيش وتنمو كموسيقى، ستبقى معي حتى النهاية. شكراً، جورجي لاركو.
الناس أيضاً قادرون على الوعد، لأن في الوعد شيئاً من الأبدية.)

المتاهة

حتى زويس غير قادر على كسر زردة واحدة
من هذه الشباك الحجرية، قدري إلى الأبد.
الرجال الذين كُنتُ يتلاشون في البعيد.
بلا توقف أسير بمحاذاة سورٍ
رتيب ومكروه. مفترقات طرق كاذبة،
أروقة يفسّرها نظري المشوِّه
كدوران بطيء وسرّي،
حواجز متصدّعة بفعل الزمن.
أحياناً أكتشفُ في الغبار الشاحب
وجوهاً قديمة مُفزعة. أحياناً يأتيني
المساء المقعَّر بصوت يأسٍ،
نزير هلاكٍ، صدى حشرجة عميق.
أعرف أن الظل يخفي آخرَ، قدره
الإنكباب على دراسة جهنم
بلا كلل، إغاظة وحدتي،
اشتهاء دمي، التهام موتي.
محتّماً، يبحث واحدهما عن الآخر مغرياً إياه.
فليكن اليوم آخر يوم انتظار.
أسطر كان ممكن أن أكتبها وأضيعها نحو عام 1922
معارك الغروب الصامتة
عند الضواحي الأخيرة،
هزائم أبداً قديمة لحربٍ في السماء،
فجر هدّام يأتينا
من العمق القاحل للفضاء
ومن عمق الزمن،
حدائق المطر السوداء، لغز كتاب
كنتُ أخاف فتحه
ترجع صورته في أحلامي،
الفساد والصدى الذي سنكونه،
القمر والرخام،
أشجار ترتفع وتدوم
كآلهة مطمئنّة،
الليل المتبادل والمساء المرجو،
والت ويتمان الذي اسمه بحجم العالم،
السيف الباسل لملكٍ
في المجرى الصامت من نهرٍ،
السكسونيون والعرب والغوطيون
الذين أنجبوني بدون أن يدروا،
هل أنا هذه الأشياء وتلك
أم أنها مفاتيح سريّة ومعادلات عسيرة
لما لن ندركه أبداً ؟

من “مديح الظلام” هـ. و.

الدرب القديم أصبح محظوراً،
الباب، الرقم، الجرس،
ماذا تبقّى في نفسي المهزومة؟
طعم فردوس مفقود.
عملي منجَز، حين يتجوّف الأفق،
ينتظرني صوت لطالما انتظرته
في تشتت اليوم السرّي
وفي سلام ليلة العشق.
هذه الأشياء غير موجودة. آخر قدري:
الأيام الغامضة والذاكرة الملوّثة،
الإسراف الطويل في الأدب
وذلك اللغز قبل الموت، الموت.
لا أريد سواه، وأريده كاملاً
مطلقاً. مع التاريخَين على قطعة الرخام.

الحارس

يدخل الضوء فأستيقظ؛ إنه هنا.
يبدأ بقول اسمه لي، الذي هو طبعاً اسمي.
أخضع لهذه التبعية التي دامت أكثر من سبعين عاماً.
يفرض عليّ ذاكرته.
يفرض صغائر كل يوم، الوضع البشري.
أنا ممرضه العجوز: يجبرني على غسل رجليه.
يراقبني في المرايا وفي أثاث الأكاجو وفي زجاج الدكاكين.
لو صدّته هذه المرأة أو تلك، عليّ مشاركته شقاءه.
يملي الآن عليّ قصيدته، التي لا تعجبني.
يتطلّب مني أن أتعلّم عناد الأنغلو سكسوني.
هداني إلى عبادة جنودٍ موتى ربما لا يمكنني أن أتبادل معهم
كلمة واحدة.
نهاية الساحل تقترب ولا زلتُ أشعر به.
إنه في خطواتي، في صوتي.
أكرهه بدقة.
ألاحظ بمتعة بأنه بالكاد يرى.
أنا في غرفة مستديرة والجدار اللا متناهي يضيق.
لا أحد منا يخدع الآخر، ولكن كلٍّ منا يكذب على الآخر.
كلانا يعرف الآخر جيداً، يا أخي الذي لا فراق معك.
تشرب الماء من كأسي وتلتهم خبزي.
باب الانتحار دائماً مفتوح، لكن علماء اللاهوت يؤكدون بأنه في الظل القادم من المملكة الأخرى سأكون هنا، في انتظار ذاتي.

من “ذهب النمور”

العودة

في نهاية سنوات المنفى
أعود إلى دار طفولتي
وأشعر بأني ما زلتُ في بلد غريب.
لمست يداي الشجر
كملامسة شخص نائم
وكررتُ دروباً قديمة
كما لو أني أستعيد من النسيان بيتاً من الشعر
وحين انتشر الظل
رأيتُ القمر الجديد النحيل
يأوي الى أحضان
نخلة ذات أوراق عالية،
كما يأوي الطير إلى عشه.

أي حشد سماوات
عليه معانقة الدار بين جدرانها،
كم من غروبٍ بطولي
سيناضل في عمق الشارع،
كم من قمر جديد هش
سيلقي بحنانه في الحديقة
قبل أن تعرفني الدار من جديد
وتصبح مألوفة!
ليلة مار يوحنا
روعة الغروب الشديدة
عند حد السيف حطّمت المسافات.
رقيقة هي الليلة كباقة صفصاف.
نيران الفرح المباغتة
تزفر في حمرتها، خشب أضحية
ينزف حتى الموت في لهبه العالي،
راية حيّة، كياسة عمياء.
الظل ساكن كنظرة نحو البعيد؛
اليوم يتذكر الشارع
ماضيه الريفي.
طوال الليلة المقدسة تُسبِّح الوحدة
نجومها المتناثرة.

سبت

لا حب فيك
لكن جمالك
يسدّ الزمن بأعجوبته.
السعادة فيك
كما الربيع في الورقة الجديدة.
لستُ شيئاً تقريباً،
فقط تلك الرغبة
التي تضيع في المساء.
اللذة تكمن فيك
ككُمون القسوة في السيوف.

تطريق

كضرير بأيدٍ ممهّدة
تفتح الجدران، تشاهد السماوات،
ببطء مضطرب وخائف أسير متلمساً
في شقوق الليل
قصائد المستقبل.
عليّ حرق ظل مكروه
بشعلتها الصافية.
على ظهر الزمن المجلود
سأولد كلمات أرجوانية.
سأحصر بكاء المساءات
في جوهر القصيدة الصلب.
لا يهمني أن ترحل النفس
عارية فارغة كالريح
لو أن عالم قبلة مجيدة
ما يزال يفهم حياتي.
تتحول الليلة إلى حقل حراثة
لزرع بيوت شعر فيها.

الوداع

بيني وبين حبي تقف
ثلاثمائة ليلة كثلاثمائة جدار
وسيكون البحر كسحر بيننا

لن يكون لي إلا ذكريات.
يا مساءات بجهدٍ مستحقة،
أن أنظر إليك، أمل الليالي،
حقل دروبي، سماءٌ
أستعيدها وأفقدها…
نهائيٌ كرخامٍ
غيابك سيحزن مساءات أخرى.

ترجمة : أنطوان جوكي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى