ما اعترفت به ‘روزورا كاناليس’
الملقبة ب ‘مُحَطِّمةُ الأسرةِ’ إلي الأب ‘شازان’ *
أقولُ لكَ الحقيقة أيها الأب : لقد كذبتُ عليكَ دائماً ، وأنتَ طيبٌ كالخبزِ ، أنتَ تعرفُ ضعفَ الخاطئينَ والخاطئات . أيها الأب ، فتياتٌ مسكيناتٌ ضائعاتٌ تائهاتٌ في غمارِ الشهوةِ والهوى والنفاقِ والكذبِ ، يتخبطنَ في الخطايا السبع الكبرى ، ولكنكَ لا تستطيعُ أن تتصورَ أيها الأب الماءَ المالحَ الذي يملأ قلبي بالْخِرَقِ العفنةِ النتنةِ . إنهُ سوءُ الطالعِ هو الذي دفعني لامتِهَانِ مهنةِ البِغَاء ، وهذهِ المهنةُ لها جوانبها الحسنةُ ؛ فمنهَا نأكلُ ونشربُ جيداً . وبينَ الرجالِ يوجدُ مِن كُلِّ الأجناس ثورةُ وجنونُ كبارِ المهووسينَ بالجنسِ ، والمنتكسينَ مِنْ مُمَارسةِ الفحشاءِ ، أولئكَ الذينَ يُضاجِعُونَنا دُون الشعورِ بأيةِ متعةٍ أو لذة .
أيُّهَا الأبُ ، إن مرارةَ الصبرِ لا تكفي لوصفِ هذه الحياة . ففي مهنَتِنَا الكذبُ فضيلةٌ وإحسان . فالتعساءُ الذينَ يُلقي بِهم مَدُّ وجزرُ الإدمانِ على المسكراتِ الناتجِ عن البؤسِ والشقاءِ ؛ لا يَدفعونَ لكي يقطفوا زَهرَتَهُم الحزينةَ فحسب ، بَل لِكي نَقولَ لهم بأنَّ ما يُعطَى لَهم لا يُعطَى لأَنَّهمْ يَدفَعُونَ ثَمَنه ، بَل بِدَافعِ الحب . حسيات حزنٍ وكآبةٍ نبذتها أنثى شريرة .والله العادلُ الذي يرى كُلَّ شيءٍ لا يُمكنُ أن يُعَاقِبَنِي ، فَأنا عِندمَا كُنتُ أواسي وأقولُ الأكاذيبَ ، كُنتُ دَائمَاً مُخلِصةً وجَادةً . وَأنا لا أشكو ولا أتذَمرُ ، ولكني فِي هذهِ الأيامِ لَمْ أعدْ أستطيعُ النومَ وقتَ ارتكابِ الأخطاء . نَظُنُّ أنَّ الأمرَ ليسَ جِدِّياً ونشعرُ بِرَغبَةِ الحصولِ على إحدى المجوهَراتِ وبعضِ النقود ، وخاصةً إذا كانتْ جُنيهاتٍ ذهبيةً .
ثُمَّ ذلكَ الشابُّ المشؤومُ ، ذلكَ الجميلُ الغامضُ يا أبانا . أنتَ لَمْ تَعرف ‘ماكو ألبورونوز’ . أنتَ صالِحٌ طيبُ القلبِ . قِطعةٌ مِنَ الْحَلوى الْحَقِيقيةِ .
يَا أبانا، الخاطئونَ والخاطئاتُ يعرفونَ أنكَ ماءٌ نقيٌّ طَاهرٌ لا يُخَالطُه نَتَنُ المستنقَعَاتِ . خَطَايا النفسِ والروحِ هيَ أسوأُ الْخَطَايا . أكادُ أَسمعُ صوتَ المحزونينَ الساقطين على القَذَارَاتِ ، إنَّهم يُتَمتِمُونَ : الأبُ ‘شازان’ يَفهَمُنا ، صَوتُهُ كالعسلِ . وبشأنِ شُرُورِي أنتَ تَعرِفُهَا. ومَا هُوَ الشيءُ الذي لاَ تَعرِفُه ؟ وَلَكِن ‘ماكو ألبورنوز’ لَمْ تَعرِفُه. رُبَّمَا تكونُ قَد رَأيتَهُ فِي حَفَلاتِ العِمَادَةِ وَالأعيادِ والمواكبِ الدينية الاحتفاليةِ . إنكَ ماءٌ نَقيٌ طاهرٌ لَمْ تَحتَرقْ أَبدَاً بِجَمرِ تِلكَ العَينَينِ الْخَضرَاوَينِ الفَاسِقَتَينِ الْجَمِيلتينِ .
‘مَاكو’ لَمْ يَكن أبيضَ ، كَانَ أسودَ . لَيسَ سَحابةً إِنَّهُ حَجر . لَم يَكن ‘ماكو’ كانَ ‘ماكا’ . كَانَ يكرَهُ الرِّجالَ ، يَكرَه كُلَّ النساءِ ، يَكرَهُ الأشجَارَ ، يَكرَهُ الوُرُودَ ، يَكرَهُ الظِّبَاءَ ، يَكرَهُ الماءَ والهواءَ ، يَكرَهُ الكَرَاهِيةَ ، يَكرَهُ الله ..!
يَا أبانا ، لأنَّ الشيءَ الوحيدَ الذي كانَ هذا الوحشَ ، هذا التنينَ ، هذا الحيوانَ الأسطوريَّ ؛ الشيءَ الوحيدَ الذي كانَ يُحِبُّه هوَ أخوه ‘روبيرتو’ الذي لَو استطاعَ في هذهِ اللحظةِ بالذاتِ لكانَ فتحَ البابَ المؤدِّي إلى كُرسيِّ الإعترافِ بركلةٍ مِن قَدَمِه ، وَلطَمَ الملاكَ الحارسَ الذي يَحمِي بَراءَتَكَ أيُّهَا الأب ، ثُمَّ سَرَدَنا بِالعِيَارَاتِ النَّاريةِ ، ومَاذا يَهُمُّني ذلكَ ؟ كُلُّ مَا أخشَاهُ هُوَ قَصَاصُ الربِّ . أنتَ لم تعرِفُه ذلكَ الجميلُ الغامضُ. ولِشَغفِي الشديدِ بالْحُلي والمجوهراتِ عِندَمَا يحينُ زَمنُ الشيخوخةِ ، مَاذا يُمكِنُها أن تُزَينَ سوى جِلدٍ قاربَ البؤس . ذلكَ الذي ما هو إلا نحنُ رجالاً ونساءً . عندما نَبلغُ نِهايةَ المطافِ يا أبانا لا نكونُ سوى هيكلٍ عَظمي .
أنتَ لَمْ يقترب مِنكَ ‘ماكو البورنوز’ أبداً . لَمْ يَقُلْ لكَ ‘زوروا’ البشريةُ الجاهدة. تُلقِّبُنِي ‘محطمةُ الأسرة’ . أولئكَ الذينَ يَضحَكُونَ ويسخَرونَ ، ولكِن مَن يَضحَكُ وَيسخَرُ إنْ لَمْ يَكن عَلى ‘مُحَطِّمِي الأمهات’ ؟ لأن تَحطِيمَ نَوابِضَ فِراشٍ شيءٌ ، وتحطيمَ قلبِ إحدى الأمهاتِ شيءٌ آخر . وهذا مَا يَفعَلُه ليلاً ونَهارَا وعلى الدَّوَام أولئكَ الأوغاد .والجميلُ الغامضُ قالَ لي يا ‘روزورا’ إن اسمكِ يُذكِّرُنِي بالزمنِ الذي كنتُ فيهِ صَالِحاً.
‘روزورا’ سوفَ أمنحكِ عشرةَ جنيهاتٍ ذهبيةٍ كهديةٍ ، فَسَألتُهُ: أنا ؟ وَلِمَنْ يَجبُ عَليَّ أنْ أدسَّ السُّم ؟ فانفَجَرَ ضَاحِكَاً وقال : لَسنَا هُنا لِمُعَانَاةِ الألمِ والأوجَاعِ ، بَلْ للتَّمَتُّعِ بالمسرَّات والملذاتِ ، فالعَالَمُ يَتكَرَّرُ وَيُعِيدُ نَفسَهُ .
وَسألني : ألاَ تشعُرِينَ بالمللِ أنتِ ؟ فَأجبتُهُ : بالتأكيدِ أنَا أشعُرُ بالمللِ ، فَقالَ لي: سَوفَ تربحينَ عشرةَ جنيهاتٍ ذهبيةٍ يا ‘روزورا’ ، وأَنَا سَأحصُلُ على مِئةٍ ، والموضوعُ يتعلقُ برهان. هنالكَ حَفلٌ رَاقِصٌ مساءَ هذا اليوم لدي آل ‘دياز’ . فَسألتُه : ومَاذا عَليَّ أن أفعلَ ؟ فقالَ لي : عليكِ أن تصطَحِبي مَعكِ ابنتك ‘ميرسيديتاس’ . فَقلتُ لَهُ : أنتَ سَكران ، مَا هَذهِ الأفكارُ المخيفةُ التي تُلقِي بِها عَليَّ ؟ صغيرتي..! كَنزي الثمين ، العذراءُ كالطفلةِ الرضيعةِ ، مَاذَا تُريدُ أَنْ تَفعَلَ بِهَا ؟ فَقالَ لي الجميلُ الغامضُ : إنَّ أخي ‘روبيرتو’ هُوَ الذي يُرِيدُهَا ، إِنَّهُ لَمْ يَعدْ يَستَطِيعُ النومَ مِن شِدَّةِ حَرارةِ رَغبَتهِ بالنومِ مَعَ ‘ميرسيديتاس’ ذاتِ الثديَينِ الصَّغِيرَينِ الْجَمِيلَينِ ، وَالبَطنِ الصَّغِيرِ الضَّامِرِ ، والرِّدفَينِ الرَّائِعَينِ ، وَأنْ يَلحَسَ ‘حَمَامَتَها’ تِلكَ القَرَنفُلَةُ الصَّغِيرة .
فَقلتُ لَهُ وأنَا أتصَنَّعُ الغَضبَ : اذهبْ وابحثْ عَمَّن يَفعَلُ بكَ الفِعلَ الشنيع .
قالَ لي وهُوَ يبتسمُ تلكَ الابتسامةَ التي تَعرفها : عَاجِلاً أم آجِلاً تُسلِمُ النساءُ أخيراً غشاءَ بَكَارَتِهِنَّ الرقيقَ ، رُبَّما إلى عَجُوزٍ مَجهُولٍ ، بَينَمَا أمنحُكِ أنَا عِشرينَ جُنَيهَاً مُقابِلَ ثمرةِ شجرَتِكِ الصَّغيرةِ .
وأَنا كُنتُ شَاحِبةً كَالْمَوتى مِن شِدَّةِ الغَضَبِ والْخَوفِ والْخَجلِ . عِندَ ذَلكَ أخذَ هُوَ ذلكَ الجميلُ الغامضُ يُسقِطُ العشرينَ لِيرةً الذهبيةَ الواحدةَ تِلوَ الأُخرى . آهِ يَا أَبانَا ، لَقد سقطتْ هُنا عَلى الْمِنضَدَةِ وَكَأنَّها قَطَراتٌ مِنَ الشمسِ . كُنتُ أموتُ حَسرةً ورغبَةً . أخذتُ أتصورُ كُلَّ الْحُليِّ والأطواقِ والأقمشةِ الحريريةِ التي يُمكِنُ شِراؤهَا بتلكَ الليراتِ القذرةِ . فِي ذلكَ الزمن ، كَانَ يُمكِنُ شِراءُ إِحدى المزارعِ بأقلَّ مِن ذَلِكَ المبلغ .
وقال لِي : إذن ثلاثون . فَصرختُ : وَلاَ حَتى مُقابِلَ أربعين . فَقالَ : إذن ليكن خمسين. وَهكذا قَبِلتُ وَوَافَقتُ عَلى هَذهِ الجريمةِ التي لَنْ يَغفِرَها ليَ الله . فابتَسَمَ الجميلُ الغامضُ وقالَ لي : ‘روزورا’ لا تَقلَقي ، سَوفَ يَغفِرُ لكِ اللهُ ، فَهوَ أيضاً لديهِ مَصَاريِفُهُ ونَفَقَاتُه ، وليسَ لدى أحدٍ مزيدٌ مِن المالِ لإنارةِ كَنائِسهِ . يَحتَاجُ رَبُّنا تَعالى لشُمُوعٍ وَشمعِدَانَاتٍ ، وأنتَ تُدرِكُ يَا أبانَا شَنَاعةَ تَدنِيسِ الْمُقدَّسات . وأنا قُلتُ له : أيها الوغد ، أيها الوغد . فِي أيةِ سَاعةٍ يَجبُ أن أُحضِرَ الصغيرة ؟ فَقالَ لي : اغسلِيهَا جَيداً ، سَرِّحِي لَها شَعرَهَا ، عَطِّرِيهَا ، وألبِسِيهَا هذا الفستانُ الذي يجبُ أَن تَحتَفِظَ بهِ للمُستَقبَلِ عِندَمَا تَتَزَوج ، وَأحضِرِيها إلى حَفلةِ آل ‘دياز’ . فَقلتُ له : خيرُ البرِّ عَاجِلُه .
عِندَ ذلكَ قالَ لي: يا للقذارةِ ، مِمَّ تَشكِينَ ، فَصَغيرَتُكِ ‘ميرسيديتاس’ ستعودُ إليكِ سَليمةً لَمْ يَمَسَّها أحدٌ تَمَامَاً ، كَمَا كَانت عِندَمَا وَلَدَتْهَا تلكَ العاهرةُ أمُّها. فقلتُ له : أوضح مَا تقول ، إِنِّي لاَ أفهمُ مِنهُ شَيئاً . فَقالَ لِي : أَنَا لا أدفعُ لكِ لِكَي تَفهَمِي . أَبلِغِي التعليماتِ إلى ‘ميرسيديتاس’ في اللحظةِ المحددةِ التي يَحمِلُهَا فيهَا إلى السريرِ بالضبط ، ويُعَرِّيهَا مِن مَلاَبِسِهَا ، وَيلحَسُهَا وَيُمَصمِصُهَا وَيَعُضُّها وَيُقَبِّلُها ، ثم َعِندَما يشرعُ ‘روبيرتو’ بتسلقِ جِذعِ قَضيبِهِ ؛ عَندَ ذلك على ‘ميرسيديتاس’ أن تقولَ له : اسْمَح لي ، إنِّيْ أشعرُ بالحاجةِ للتبول . ثُمَّ تَخرُجُ . فَقلتُ لَهُ : أنتَ تُريدُ أَن يُحرِقَ لِي أَخوكَ كُوخِي ، وَيثقُبَ فِراشِي مُقَابِلَ خَمسينَ ليرةٍ بائسةٍ أتخلى بِهَا عَنْ جِلدي؟
والجميلُ الغامضُ أخذَ يمزحُ ويضحَكُ ، وقالَ لي : لَن تَكونَ هُنالكَ خَسارةٌ كَبيرة، بَل رُبَّمَا يَجنِي مِنَّها الناسُ بَعضَ الرِّبح . فَأجبتُهُ : وَهلْ تَعتَقِدُ أَنَّ أخاكَ سَوفَ يَبقى عِندَ ذلكَ هناكَ، هَوَ وَدَبُّوسُه جامدٌ كَشجَرةِ الكِينَا ؟ فَقالَ لي : لاَ تَهتَمِّي بذلكَ ولا تقلقي ، فلديَّ امرأةٌ أخرى جَاهِزَةٌ تَمَامَاً لتقدِيْمِهَا له . فَقلتُ له : يا الله ! وَصغيرتي ‘ميرسيديتاس’ مَاذا عَليهَا أن تَفعَلَ ؟ وأيةُ رَقصةٍ سترقُصُ فِي تلكَ الحفلة ؟ فقال لي : ومَا دَخلُكِ في ذلكَ أنتِ ؟ عَليكِ أن تُهَيِّئِيهَا لِي فقط ، وفِي اللحظةِ المناسبةِ سوفَ ترينَ امرأةً ترتدي ثياباً كَثيابِها ، تَقولُ لَها أنا قادمةٌ لأقومَ مقامَكِ . وَهَذا مَا حصلَ بالفعلِ ، فَفِي تلكَ الساعةِ المشؤومةِ ذهبتْ صَغيرَتِي ‘ميرسيديتاس’ إلى الحفلةِ فاقتادها ‘روبيرتو’ إلى الغرفةِ الرئيسيةِ ، وَعندَ مُنتَصَفِ الليلِ خَرجتْ مِنَ الغرفةِ وَدَخلتْ إليها امرأةٌ أخرى بملابسَ كمَلابِسِها ، جميلةٌ مِثلُها ، قَلِقَةٌ مِثلُها ، لِدَرجةِ أن ‘روبيرتو’ لَمْ يُخَالِجهُ أيُّ شَكٍّ بَأنَّها ‘ميرسيديتاس’ .
وفِي حِمى رَغبَتِه ، وخِلاَلَ الظلامِ الدَّامسِ ، عَانَقَها وقَبَّلَها وأخذَ يَلحَسُهَا وَيَعُضُّها، وَدَخلَ بِهَا ، ومَزَّق عِفَّتَها . وكُنتُ أنا أسمعُ قَعقَعَةَ أسلحةِ الجسمينِ المتحدينِ في حَشرَجةِ وشهيقِ اللذةِ ، وحَربِ الأحبةِ والعشاقِ الذينَ يشتهونَ بَعضَهم بعضاً مِن قَبلِ أن يُولَدُوا ، مَع ضَوضَاءِ اللَّذةِ التي لاَ يستطيعُ ضَجِيجُ أيةِ جُوقَةٍ مُوسِيقِيةٍ أن يَطغى عَليها وَيُخفِيهَا . اللذةُ التي يُعطِيها المشمشُ للمِشمِشَةِ ، والصَّقرُ لأنثَاهُ ، وذَكَرُ السمكِ للسمكَةِ ، والأخُ للأختِ ، إذ هاكَ الحقيقةُ يا أبانا . الحقيقةُ التي أَدمَتْ حَنجَرَتِي ومَلأتْ بِلعُومِي دَماً.
فـ’ميرسيديتاس’ خَرَجتْ ، كَي تَستَطِيعَ الدخولَ شقيقةُ أخِ الأخت ، لِكي تَكُونَ الشقيقةُ المزيفةُ لِمُتعَتِهِ شَقِيقَتُهُ الْحَقِيقِيةُ دُونَ أَنْ يَعرِفَ ذلك .
كَانتِ الحفلةُ مُستَمِرَّةٌ ، وقبلَ بُزُوغِ الفجرِ خَرجتْ ‘ماكوماكا’ وَدخلتْ ابنتي ‘ميرسيديتاس’ فاستلقَتْ بِجانِبِ النائمِ ، وَرأيتُ مِن خلالِ النافذةِ بُزوغَ يومِ سُقوطِ بابلَ ، وصباحَ يومِ الدَّينُونَةِ والحسابِ الأخيرِ الْمُكفَهِرِّ الذي يَنفُخُ فيهِ الملاكُ بالبوقِ. كَانتِ الحفلةُ قَد بَرُدَ جَوُّهَا وأَشرَفَتْ عَلى نِهَايَتِهَا ، وَأخذَ السُّكَارى يَتَسَاقَطُونَ، وَكانتِ الشمسُ قَد أَصبحَتْ عَالِيةً ، فَجَلَبتُ لَهُمَا طَعامَ الإفطارِ لـ ‘ميرسيديتاس’ ولـ ‘روبيرتو’ اللذينِ كَانَا – وَهُمَا بِمُنتَهى السعادةِ – جالسينِ تَحتَ العريشةِ . أَحضرتُ لَهُمَا شَرائِحَ مِنْ لَحمِ الْخِنزِيرِ ، وَبيضَاً مَقلِياً، وَخُبزَاً مِن خُبزِ ‘ميشيفلكا’ ، وَقهوةً ثَقيلَةً . ثُمَّ ظَهرَ ‘ماكو ألبورنوز’ الذي عَادَ فَأصبحَ كَما كَانَ جَمِيلاً غَامِضَاً. وَرأيتُ في عَينَيهِ نذيرَ الخطرِ ، فقلتُ لِنفسِي : تَجاهَلي ذلكَ يا ‘روزورا’ و اخفيه ، فَلو بَدا عليكِ الشحوبُ لتعرضتْ حياتُكِ لِلخَطَرِ. وَجَلسَ هُوَ وَقالَ لي : اسكُبي لي مَزيداً مِن القهوةِ ، وَلاََحظتُ أنَّ بَشرَتَهُ قَد لَوَّحَتهَا السُّمرةُ ، لَيسَ بتأثيرِ شمسِ الوادي الضئيلةِ الحرارةِ ، بَل بِفعلِ حَرارةِ غَضَبِهِ البالغةِ الشِّدةِ التي كَانتْ تَشعُّ مِن عَينيه اللتينِ تُحيطُ بِهمَا هَالةٌ سَودَاء ، وَلكِن ‘روبيرتو’ كَانَ عَلى العَكسِ مِنهُ ، يَبدو مَرِحَاً جِداً ، وَقد وَضعَ رِجلَهُ اليُمنَى عَلى حَافِّةِ الْمِنضَدةِ بَينَمَا كَانت ‘ميرسيديتاس’ تَزقُّه الطَّعام ، وَيدُ ‘روبيرتو’ الْمَكسُوةُ بالشعرِ تُعَبِّرُ عَن شُكرِهِ بِمُدَاعَبةِ فَخذي صَغِيرَتي ‘ميرسيديتاس’ العُذرِيينِ . أَمَّا ‘ماكوماكا’ فَقد اشتدَّ شحوبُ وَجهِهَا ، وقالَ لي ‘روبيرتو’ اسكبي لِي مَزيدَاً مِن القهوة يَا حَمَاتِي . فَسكبتُ لَهُمَا ، بَينمَا كَانَ هُو يَقلبُ فنجَانَه . وَوَضعَ ‘روبيرتو’ قليلاً مِنَ السُّكرِ بِوسَاطَةِ الملعَقةِ الفِضِّية الصغيرةِ ، وعِندَ ذلكَ أخذَ يَحترقُ دونَ أن يشعرَ بذلك . وتَابعَ تحريكَ قَهوَتِه بالملعقةِ الصغيرةِ كَمَا لو أَنَّهُ لَمْ يَكنْ قَد غَطَّاهُ زَغَبُ لَهبٍ أَزرَقٍ كَلَهبِ شَرابِ ‘الرومِ’ عِندمَا يشتعل .
ألقى ‘روبيرتو’ الملعقةَ الصغيرةَ وأخذَ يرشفُ قهوتَهُ بِجُرعَاتٍ صَغِيرَةٍ بَينَمَا كَانتِ النارُ الْمُخِيفُةُ تَلتَهِمُ سَاقَيهِ ، وهُوَ مَازَالَ مُبتَسِمَاً ، وفِي تلكَ اللحظةِ بَدتْ فِي البابِ عَينَا القناص ‘ديكستر’ الجاحِظَتَانِ ، وكَانَ ‘روبيرتو’ قَد نَهضَ مُبتَسِمَاً واللهبُ يَتصَاعَدُ مِنْ صَدرِهِ ، وَمَشى وَهوَ مَازالَ يَبتَسِمُ بَاسِطَاً يَدَهُ لِشَرِيكِهِ وَرَفِيقَهِ ، وَعِندَ أوَّلِ خُطوَةٍ خَطَاهَا سَقَطَتْ سَاقُه وَقَد تَحَوَّلت إلى جَمرٍ مُتَفَحمٍ بِجَانِبِ الْمِنضَدَةِ ، وَأرادَ التُّقَدُّمَ وَهُوَ مَازالَ يَبسِمُ ، وَلَكِنَّه تَحَطَّمَ وَسقطَ تَحتَ أنظارِ ‘أخيهِ أختهِ’ الذي ألقى بِنَفسِهِ بَينَ ذِرَاعَيهِ وَهُوَ يَصرُخُ بَأعلى صَوتِه : أريدُ أن أَحتَرِقَ مَعكَ ، أُريدُ أن يَحتَرِقَ العالَمُ بِكَامِلهِ . وَكانتْ تِلكَ هيَ بالضبطِ النارُ التي كَانت تَخرُجُ من جِسمِ ‘روبيرتو’ ، وَتَمتَدُّ إلى الْحَوَاجِزِ الْخَشَبِيةِ وَدُرفَاتِ النوافذِ ، وَإِطَارَاتِ الأَبوابِ ، وتَلتَهمُ كُلَّ المنزلِ . بَينما كانت البشريةُ جَمعَاءَ تُولِّي الأدبارَ هَارِبةً مُوَلوِلَةً ، كَما أنَّ الأشجارَ المثمرةَ كَانت تَحتَرِقُ أيضاً.
في البَاحَةِ كَانَ القَنَّاصَةُ الْمَذعُورُونَ يَصرُخُونَ عَالِياً : الماءَ الماءَ . وَلكِن أيُّ نَهرٍ كَانَ يُمكنُ أن يُطفِيءَ هَذا الحريق الذي كَان يَلتَهِمُ كُلَّ شَيء ؟ وَلم يَبقَ بعدَ ذلكَ سِوى الرمادْ . وَعندَ ذلكَ فقط استَطَاعَ القناصةُ أن يَدخُلُوا ونحنُ فِي أعقَابِهم ، وحِينَئِذٍ وَجدنَا جِسمَ القِدِّيسةِ سَلِيمَاً لَمْ يُمَسَّ . كَانتْ رَاكِعَةً عَلى رُكبَتَيهَا وقَد أحنَتْ رَأسَها وَضمَّتْ يَدَيهَا مُتَضرِّعَةً إلى الله وطَالِبةًَ الغُفرانَ لِخَطايَاهَا .
مِنَ المؤكدِ أنَّ الله قَد غَفَرَ لها ، وحَصلَتْ عَلى عَفوِهِ ورِضَاهُ ، و إلاَّ لَمَا استَطَعنَا أنْ نُفَسِّرَ لِمَاذا وَجدنَا جَسدَ العذراءِ سَلِيمَاً لمَ ْتَمَسَّهُ النارْ . أليسَ كذلكَ يَا أبانا ؟
من رواية ‘ ضريح الأمل ‘ الصادرة حديثا عن دار ‘ورد’ بدمشق للكاتب البيروني : مانويل سكورزا (1928 -1980) . مناضل اجتماعي هاجر بعد سنوات من السجن إلي باريس عام 1970 .
ترجمة:علي باشا