نيكوس كازانتزاكيس – مقطع من كتاب تصوف..منقذو الآلهة

نأتي من هاوية مظلمة وننتهي الى مثيلتها .. أما المسافة المضيئة بين الهاويتين فنسميها الحياة . 
لحظة ان نولد تبدأ رحلة العودة . الانطلاق والعودة في آن . كل لحظة نموت .. لهذا جاهر كثيرون إن هدف هذه الحياة هو الموت . 
ما أن نولد حتى تبدأ محاولاتنا في ان نخلق ونبتكر ، ان نجعل للمادة حياة .. كل لحظة نولد .. لهذا جاهر كثيرون إن هدف الحياة الدنيا هو الخلود . 
في الأجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران : 
الصاعد ، نحو التركيب ، نحو الحياة ، نحو الخلود. 
الهابط ، نحو التحلل ، نحو المادة ، نحو الموت .

صوت في داخلي يصيح آمراً : 
احفر .. ماذا ترى ؟ 
ـ بشراً وطيوراً، مياهاً وحجارة . 
احفر أيضا .. ماذا ترى ؟ 
ـ أفكاراً .. وأحلاماً.. بروقاً .. وخيالات . 
احفر أيضا .. ماذا ترى ؟ 
ـ لا أرى شيئاً..!! ثمة ليل عاصف غليظ كالموت ، لعله الموت . 
احفر أيضا..!! 
ـ آه لا أستطيع أن اعبر شبه الجدار المظلم ..!! اسمع أصواتاً ونحيباً ، اسمع حفيف أجنحة آت من الضفة الأخرى . 
لاتبك .. لاتبك .!! إنها ليست من الضفة الأُخرى . كل هذه الأصوات والنحيب وحفيف الأجنحة هي قلبك . 
بعيداً عن العقل ، وفي الهاوية المقدسة للقلب أتوازن مرتجفا . 
إحدى قدميّ تحط على تراب حقيقي ، والأخرى تبحث عبر الظلام عن الهاوية . 
أستشعر خلفي كل هذا الجوهر المكافح يصارع من خلف الظاهر ليلتحم بقلبي ، لكن الجسد يقف حائلا بيننا ليفرقنا ، والعقل يقف حائلا بيننا ليفرقنا . 
ما هو واجبي ؟ 
واجبي أن أحطم الجسد ، أن أتدفق وألتحم باللامرئي، أن يصمت العقل لكي اسمع صياح اللامرئي . 
أسير على حافة الهاوية وأرتجف.. هناك صوتان في داخلي يتهدجان . 
ـ يقول العقل : لماذا نتوه بحثاً عن المستحيل ؟ يجب ان نعترف بحدود الإنسان داخل السور المقدس للحواس الخمس . 
لكن صوتاً آخر بداخلي ولنسمِّه الحاسة السادسة او لنسمِّه القلب يقف معترضا ويصيح: 
لا، لا / لا تعترف أبداً بحدود الإنسان ..!! عليك ان تحطم الحدود ان تنكر ما تراه عيناك ..!! ان تموت وأنت تردد لا يوجد موت .!!! 

أنا مخلوق مؤقت وضيف ، مصنوع من طين وأحلام لكني أدرك أن في داخلي تصطخب كل قوى الكون . 
أريد للحظه واحدة ، وقبل أن تحطمني هذه القوى ، أن افتح عينيّ فأراها أمامي .. هذا هو هدفي الوحيد في الحياة . 
أريد أن أجد مبررا لكي استمر على قيد الحياة ، ولكي أتحمل المشهد اليومي المرعب للمرض والقبح والظلم والموت . 
بدأت من نقطة مظلمة هو الرحم، وأسير نحو نقطة مظلمة أخرى هي القبر.. إحدى القوتين تقذفني من هاوية مظلمة والأخرى تسحقني، بلا انقطاع ، في هاوية مظلمة .

عليك أن تموت كل يوم . 
وأن تولد كل يوم . 
وأن ترفض ماعندك كل يوم . 
فالفضيلة الكبرى ليست في أن تكون حراً .. وانما في أن تناضل من أجل الحرية . 
لا تتواضع وتتساءل (( هل سننتصر ؟ هل سنهزم ؟ )) بل حارب . 
وفي كل لحظة من حياتك أجعل من مغامرة العالم مغامرتك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى