نيكوس كازنتزاكيس – مقتطفات من رواية زوربا

أشخاص:
بلدان:

13638187 نيكوس كازنتزاكيس - مقتطفات من رواية زوربا

إنني جالسٌ في الكوخ.أنظر إلى ‏السَّماءتتكدَّر، وإلى البحر يتألَّق ببريقٍ رماديٍّ أخضر.
ومن طرف السَّاحل إلى طرفه الآخر، ليس ثمَّة إنسان، ليس ثمَّة شراع، ليس ثمَّة ‏طير.

رائحةُ الأرض وحدها تدخل من النَّافذة المفتوحة.ونهضت، ومددت يدي إلى المطر كأنني متسوِّل.وفجأة، رغبت في البكاء.
كان ثمَّة ‏حزن، ليس من أجلي، ليس لي، أعمق، وأظلم، يتصاعد من الأرض النديَّة.
إنه كالرُّعب الذي يتملَّك الحيوان الذي يرعى، بلا مبالاة، ثم يشمّ ‏حوله فجأةً، في الفضاء، دون أن يرى شيئاً، أنه مُحاصَر، لا يستطيع أن يُفلت.
وكدت أُطلق صرخةً، مدركاً أن ذلك سيعيد الهدوء إلى نفسي ‏لكنني خجلت.
وكانت السَّماء تنخفض أكثرَ فأكثر.ونظرت من النافذة: كان قلبي يرتعد بهدوءٍ.إنها للذيذةٌ، وحزينةٌ جداً، تلك السَّاعات ‏من المطر النَّاعم، تعيد إلى الذِّهن جميع الذِّكريات المُرَّة، المدفونة في القلب: فراقُ الأصدقاء، ابتساماتُ نساء قد انطفأت، آمالٌ قد فُقدت ‏أجنحتها كفراشاتٍ لم يبقَ منها إلا الدُّود.
ولقد وقف هذا الدُّود فوق أوراقِ قلبي وراح يقرُضها.ورويداً رويداً، عبرالمطر والأرض ‏النَّديَّة، صعدَت من جديد ذكرى صديقي، المنفيّ هناك، في القوقاز.
وأخذتُ ريشتي، وانحنيت على ورقي، وأخذت أحدِّثه، لأمزِّق شبكة ‏المطر وأتنفَّس.
((أيها العزيز جداً، أكتب إليك من شاطيءٍ منعزلٍ في كريت، حيث اتَّفقنا، أنا والقدر، أن أبقى عدة شهور لأمثِّل، أمثِّل دور ‏الرأسماليِّ، مالك منجم للينيت، رجلَ أعمال.
وإذا نجح تمثيلي، فسأقول آنذاك إنه لم يكن تمثيلاً، بل إنني اتخذت قراراً كبيراً، قراراً بأن أغيِّر ‏حياتي.
((أنت تذكر أنك دعوتني، وأنت مغادرٌ، ((بالفأر قارض الورق))فأثرتَ غضبي، وقررتُ آنذاك، أن أهجرَ القِرطاس لفترة من ‏الزَّمن-أو دوماً؟-وألقي بنفسي في العمل.
فاستأجرتُ تلاً صغيراً يحتوي على الِّلينيت، وتعاقدت مع عمَّال، واشتريت ‏معاولَ، وأرفاشاً، ومصابيح الإستيلين، وسلالاً، وعربات، وحفرت أنفاقاً ودفنت نفسي فيها.
هكذا، كي أثير غَضبك.وتحوَّلت، بسبب الحفر ‏وشقّ الدَّهاليز في الأرض، من فأرٍ قارض للورق إلى خُلد.
فأرجو أن تُسَّر لهذا التحوُّل .
((إن أفراحي هنا كبيرة لأنها في غاية ‏البساطة، مصنوعة من عناصر خالدة: هواء صافٍ،شمسٌ، وبحر، وخبزُ حنطة.وعند المساء، يُحدِّثني، وهو جالسٌ أمامي، سندبادٌ بحريٌ ‏رائع، يتحدَّث ويتَّسع العالم كلَّما تحدَّث.وأحياناً، عندما لا تَسدُّ الكلمة حاجته، ينتصبُ قافزاً ويرقص.وعندما لا يكفيه الرَّقص نفسه، يضع ‏السانتوري على ركبتيه ويبدأ بالعزف.
((أحيانا، يعزف لحناً وحشياً، فتحسّ بأنك تختنق لأنك تفهم فجأة أن الحياة تافهة وبائسة، غير لائقة ‏بالإنسان وأحياناً يعزف لحناً مؤلماً فتحس بأن الحياة تمرُّ وتنساب كما ينساب الرَّمل من بين الأصابع وبأن الطُّمأنينة لا وجود ‏لها.
((ويذهب قلبي ويجيء، من طرف صدري إلى طرفه الآخر كمكّوك حائكْ إنه يُحيك هذه الأشهر القلائل التي سأمضيها في كريت ‏وإنني أعتقد-ليسامحني الله!-إنني سعيدْ.
((يقول كونفوشيوس: ((كثيرون يبحثون عن السَّعادة فيما هو أعلى من الإنسان، وآخرون فيما ‏هو أوطأ منه.لكن السَّعادة بطول قامة الإنسان)).
هذا صحيح.إذن فهناك عددٌ من السَّعادات بصدد ما للإنسان من قامات.تلك هي يا ‏تلميذي ومعلِّمي العزيز، سعادتي اليوم،إنني لأقيسها، وأعيدُ قياسَها، قلقاً لأعرف ماطول قامتي الآن.لأن قامة الإنسان، كما تعلم، ليست ‏دائماً واحدة.
((إن البشر يبدون لي، هنا، أنا أنظر إليهم من عزلتي، لا كالنَّمل .لكن على النَّقيض من ذلك، كوحوشٍ هائلة، من نوع ‏الزَّواحف السَّامة الضَّخمة الطَّائرة المتحجِّرة، تعيش في جوٍ مشبعٍ بحامضِ الفحم وبعفونة المستحاثَّات الكثيفة.غابٌ غير ‏مفهوم، عبثيٌ، مُعول.
إن مفاهيم ((الوطن))و((العِرْق))التي تحبها، ومفاهيم((الوطن الأعلى))و ((الإنسانية))التي جذبتني، لها قيمةُ نفحةِ الهدْم ‏الفائقة القوة.إننا نحسُّ أننا صعدنا من جديد لنقول بضعة مقاطع، وأحيانا حتى ليس مقاطع، بل مجرد أصوات لا تلفظ مثل((آ))و ‏‏((او))!-ومن ثم نتحطَّم.
وأسمى الأفكار، لو بُقرت بطونها، لتبينَّا أنها، هي أيضا دمىً محشوَّة بالنِّخالة، ثم نجد نابضاً من التَّنك مخفياً في ‏النِّخالة. ((أنت تعرف جيداً أن هذه التأمُّلات القاسية، وهي بعيدة عن أن تجعلني استسلم، إنما هي على النَّقيض من ذلك، أعواد ثقاب لا ‏بد منها لشعلتي الداخلية.
لأنني،وكما يقول معلمي بوذا، قد((رأيت)).بما أنني رأيت واتفقت بغمزةِ عينٍ مع المخرج المسرحيِّ ‏اللامرئيِّ، فإنني أستطيع من الآن فصاعداً، وكلي مزاجٌ رائقٌ ورغبةٌ في أن أفعل مالا داعي له، أن أمثِّل دوري على الأرض حتى ‏النِّهاية، أعني بانسجامٍ وبدون أن تُثبط عزيمتي.
ذلك بما أنني رأيت، فقد اشتركت، أنا أيضاً، في العمل الذي أمثِّله على مسرح الله.
((وهكذا‏، أراك، وأنا أنقِّل نظري في المسرح الكونيِّ، هناك في مغاور القوقاز الأسطورية، تمثِّل أنت أيضاً، دورك، إذ تجهد نفسك لإنقاذ بضعة آلاف ‏من أرواح عرْقِنا الذي يواجه خطر الموت.
إنك بروميثيوس آخر، لكنه يتحمَّل عذابات حقيقية وهو يناضل ضد قوى الظَّلام : ‏الجوع،والبرد،والمرض،والموت.
لكنك تُسَّر أحياناً، لما فيك من كبرياء، من أن قوى الظَّلام كثيرة إلى هذا الحدّ وغير مرئيَّة، وهكذا يصبح ‏هدفك في أن تكون بلا أمل تقريباً، أكثر بطولة، وتدرك روحك عظمةً أشدَّ فجيعة.
((إن هذه الحياة التي تعيشها تعتبرها، بلا ‏شك، سعادة.ولمَّا كنت تعتبرها هكذا، فهي كذلك.لقد فصَّلت، أنت أيضا، سعادتَك على قدِّك، وقدُّك الآن –ليتمجد الرب!-يتجاوز ‏قدِّي.
والمعلِّم الصَّالح لا يريد مكافأةً أروع من هذه : أن ينشيء تلميذاً يتجاوزه.
((أما أنا، فأنسى غالباً، وأنتقد، وأتيه، وما إيماني إلا ‏فسيفساء من الجحود المستمِّر، وقد اشتهي أحياناً أن اقوم بمقايضة: أن آخذ دقيقة صغيرة وأعطي حياتي كاملة.لكنك، أنك تمسك بالدَّفة ‏بحزم، ولا تنسى إلى أين أنت متَّجه، حتى في أعذب الَّلحظات المميتة.
((أتذكُر ذلك اليوم الذي كنَّا نعبر فيه معاً إلى إيطاليا، ونحن عائدان ‏إلى اليونان؟لقد عزمنا على الذهاب إلى منطقة((بونت)) التي كانت في خطر آنذاك، أتذكر ذلك؟ وفي مدينة صغيرة، نزلنا من القطار ‏بسرعة، إذ لم يكن أمامنا إلا ساعةً واحدةً قبل وصول القطار الآخر.
ودخلنا إلى بستانٍ كبيرٍ كثيف، قرب المحطَّة مملوء بالأشجار ذات ‏الأوراق العريضة، وبأشجار الموز، وبقصب لونه معدنيٌّ قاتم، وبنحلات كانت متشبثة بغصن مزهر يرتجف، لأنه يراهاتمتصّ.
( (وتقدَّمنا ‏بصمتٍ وقد أخَذتْنا النَّشوة، وكأنَّنا في حُلم.وفجأة، عند منعطف الدَّرب المُزهر، ظهرت فتاتان تمشيان وهما تقرآن، لا أذكر إن كانتا-‏جميلتين أو قبيحتين.
أذكر فقط أن إحداهما كانت شقراء، والأخرى سمراء، وإنهما كانت ترتديان ثوبين ربيعيين.
((وبجرأة الإنسان عندما ‏يكون حالماً، اقتربنا منهما وقلت لهما ضاحكاً:
((مهما كان الكتاب الذي تقرآنه،فسوف نتناقش حوله)).
كانتا تقرآن غوركي.وعند ‏ذاك، تقدمنا بسرعة لأننا كنا مستعجلين، وأخذنا نتحدث عن الحياة، والبؤس، وتمرُّد الرُّوح، والحب…
((لن أنسى أبداً فرحنا وألمنا.كنا قد ‏أصبحنا، نحن وتانك الفتاتان المجهولتان، أصدقاء قدماء،أحبَّاء قدماء.كنا على عجلةٍ من أمرنا، وقد أصبحنا مسؤولين عن روحيهما ‏وجسديهما:
فبعد دقائق سنغادرهما للأبد.وفي الهواء المرتجف، كانت رائحة الإغتصاب والموت.
((وصل القطار وصفَّر.وقفزنا كأننا ‏استيقظنا.وتصافحنا.كيف ننسى تعانق أيدينا الشديد واليائس، والأصابع العشر التي لا تريد أن تنفصل.كانت إحدى الفتاتين شاحبة ‏جداً، والأخرى تضحك وترتعد.
(( وأذكر أنني قلت لك عندئذٍ:
((هي ذي الحقيقة.أما اليونان، والوطن، والواجب، فهي كلمات لا تعني ‏شيئاً.
وأجبتني أنت: ((اليونان، والوطن، والواجب، هذا لا يعني شيئاًبالفعل، لكننا من أجل هذا اللاشيء سنذهب عن طواعية ‏لنموت)).
((لكن لماذا أكتب لك هذا؟لأقول لك أنني لم أنس شيئاً مما عشناه معاً.ولأتيح لنفسي أيضاً فرصة كي أعبر عما كان مستحيلا ‏علي التَّعبير عنه عندما كنَّا معاً، بسبب تلك العادة الحسنة أو السَّيئة التي كنا نتقيَّد بها والتي كانت تُلزمنا بتمالك أنفسنا.
((والآن وأنت ‏لست أمامي ولا ترى وجهي، وأنا لا أُخاطر بأن أبدو سخيفاً، فإني أقول لك إنني أحبُّك كثيراً)).
وختمتُ رسالتي .لقد تحدَّثت مع ‏صديقي وعاد الهدوءُ إلى أعصابي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى