ياسمينا سعد _ سر العتمة

كنتُ أخاف العتمةَ، إلى أن أصبتُ ذات يوم، بالتهاب خطير في عيني، بقيتُ بعدها مدّة من الزمن عمياء بالكامل، في الأسبوع الأول، لم أصدق ما حصل لي، كان بكائي صامتًا بالنسبة لنشيج البكاء الذي كنت أسمعه من حولي، ثم تأقلمت مع وضعي الجديد، وطلبت من أمي أن لا تساعدني بشيء، حسب آراء الأطباء أن الالتهاب أصاب القرنيتين ولم يعرفوا سببًا له، لم تنفع لبخات الشاي ولا البابونج ولا الخبيزة، ولا رقوة جارتنا على الرصاصة التي صبتها فوق رأسي، كان صوت فرقعتها مرعبًا، وكانت صرختي أكثر رعبًا حين طردت الجارة وأمي والجميع من غرفتي، بعدها استبدلتُ عينيّ بكفيّ، وحفظت زوايا البيت باللمس، وشكل الصحن والملعقة والكوب باللمس، حتى أنني حفظت شكل دموع أمي وأخوتي باللمس. في الأسبوع الثاني، حفظت شكل العتمة، وصرت أكتب عليها حروفًا لكي تضيء، أنارت العتمة دروبًا كنتُ أجهلها بي، أدركتُ حينها أن اللون الأسود ليس أسودَ بالفعل، بل هو المادة الخام للألوان كلها، هو نهارٌ بزيّه الأسود، وعليّ أن أكتشف النهار الليليّ، في الأسبوع الثالث، لم أعد أخاف العتمة، صرتُ أشعر بالأشياء من حولي أكثر من ذي قبل، تنبهّتُ أن يدي أمي دافئتان كطعم دموعها على يدي، وأن مسكة باب غرفتي الصغيرة جدًا، فيها زخرفات جميلة تتعرج تحت أصابعي لتشكّل أوراق أشجارٍ معدنية، وأن مكتبتي ملتصقة بجزء من حافة السرير، وأن قدميّ اللتين كنت أرفعهما على حافة النافذة الوطيئة أصبحتا تتسلقان الحائط قبل أن تستقرا عليها، لم أدرك برودة الحائط من قبل، حتى أنني لم أكن أنتبه أن غطاء وسادتي مطرز بخيوط منمنمة، رأيت في العتمة أيضًا تراب أصص الزهور الذي لم أكن أسقيه إلا حين تذبل أوراقه، تعلمت أن ألمس ترابه لأعرف عطشه، لم تعد غرفتي صغيرة ومملة، صارت كونًا قائمًا بذاته، تأقلمت مع عتمتي، وصار صياح الديك هو الفجر عينه، والوقت صار مفعمًا بالتقاط كل شاردة وواردة لم أعرها اهتمامًا من قبل. اكتشفتُ مثلًا أن جارتنا امرأة تخبئ حزنها في بحّة صوتها، وأن الخادمة في المبنى المجاور تنفض مع السجادات غضبها من الظلم اللاحق بها، وأن الرجل الذي يصرخ دائمًا تحت عمارتنا هو شخص وحيد، وابن الحدّادِ عاشقٌ ولهان، أظنني تعلّمت الإصغاء منذ اللحظة التي لم أعد أصغي فيها لما تقوله عيناي، بل ما أحسه بأذني وقلبي، تنبهّت لذبذبات الصوت من حولي، ورحت أكتب على العتمة حروفًا كي تضيء. ليس كل ما نراه حقيقيًا، وفي العتمة يكمن سر الضوء.
في الأسبوع الرابع، اكتشف الأطباء علاجًا ، فحرروا عينيّ من الضمادات فقط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى