كلّما أنام أصبحُ المطلق- فهمي بلطي.

كلّما أنام أصبحُ المطلق، كلّما أفيق أصبح أقلّ من المطلق بقليل، أضحك كثيرًا و أنا أرى أجساما متحرّكة في كلّ مكان حين أشيح بعينيّ هنا و هناك عبر بلّور سيّارة الأجرة، أجساما ليست عارية، فوقها أقمشة تتّبع بدقّة غريبة تجاويف الذّراعين و السّاقين ..من هؤلاء و ماذا يفعلون هنا؟ و من أنا أنا نفسي؟ و إلى أين أنا ذاهب و من هذا الجسم الذّي يمسك عجلة نحيفة و صغيرة بجانبي و يحدث أصواتا غريبة :” الله يرحمك يا بورقيبة، كنت تعطي بالكفّ و ترجّع كلّ واحد منين جا، برّكتوها تونس “؟ عندما أشرب قهوتي، أتقلّص أكثر من ذاك الذّي هو أقلّ من المطلق بقليل، أستعيد الذّاكرة: أنا إنسان، لا أعرف بالضّبط ما معنى ذلك و لكن، هو هكذا ، أنا إنسان و هؤلاء الذّين كنت أراهم هم أيضا أجسام من فصيلة الإنسان و نحن كلّنا هنا في نفس المكان منذ أوقات متفاوتة و كلّ منّا له قصّة و لا أحد يعرف قصّة الجسم الآخر الذّي يتقاطع معه هنا أو هناك، و لكن هو هكذا، كلّ واحد منّا له شيء يعمله و نحن تربطنا ببعضنا علاقات غامضة لا أحد يفهمها تماما حتّى أنّ الكثيرين منّا ممّن وجدوا قبلنا و اختفوا أو ممّن يوجدون معنا الآن، يبحثون عن تفسير لهذه العلاقات و يكتبون مجلّدات في ذلك ثمّ يتخلّون عنها و يجدون تفاسير أخرى يكتبون فيها مجلّدات ثانية و هكذا …ور غم ذلك كلّه ، كلّ جسم فينا يدرك جيّدا و هو متأكّد جيّدا أنّه من هذه الفصيلة: إنسان، حتّى أنّ الأمر يصبح عاديّا جدّا و لو أنّ أحدا يصرخ في الشّارع فجأة بكلّ ما أوتي من إحساس بالغربة و الخديعة: من نحن، ربّما يُزجّ به في مكان غريب اسمه المورستان يؤوون فيه كلّ من شذّ عن ذاك الإدراك العجيب: أنّه إنسان، رغم أنْ لا أحد في الحقيقة يعرف ماهو كنه هذه الفصيلة و ماهو أصلها و فصلها.. و هذه حكاية طويلة…في آخر الليل أصبح شيئا أقلّ من المطلق بكثير، شيئا يبدو أنّ الكلمة المناسبة له و التّي لا أفهمها تماما هي :شبح ….
عند الفجر، و قبل أن أتحوّل من جديد إلى ” المطلق”، لا أصبح أفهم أصلا ما هو المطلق، و يبدو أنّني أشِذُّ تماما عن تلك الفصيلة غير أنّ شيئا ضئيلا داخلي يتبقّى و يمنعني من الصّراخ بكلّ طاقتي داخل ذلك الصّمت الرّهيب: من أنا و ماذا أفعل هنا أيّتها الكائنات المرعبة؟ …ثمّ يحملني المطلق و أنام و أحلم أنّ ذلك الشّيء الذّي منعني من الصّراخ و من ثمّ الذّهاب إلى المورستان هو الخوف، و أنّ الخوف هو أصغر ما يمكن أن أتحوّل إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى