ياسين عاشور – المالينخولي السَّعيد (4) – رجل لا يدري ويدري أنَّه لا يدري

أشخاص:
بلدان:

“العجزُ عن دَرْك الإدراك إدراكٌ”، هي كلمة حقّ أُريد بها باطل، جاءت على لسان أحد الأسلاف كي يُبرهن على حدود الإدراك الإنسانيِّ وبالتَّالي كي يُلجِمَ النَّاس عن الخوض في الإلهيات، لقد كانت مقالات أهل اللاَّهوت في البرهنة على عجز العقل – ومازالت – إحدى المقالات المُثبّتة لأرضيَّة تقبُّل العوام لكلِّ ما يُملى عليهم من تعاليم وعقائد، فكُلَّما ضاقت حدود المعرفة، اتَّسعت مساحة اليقين، وبما أنّكَ عاجزٌ عن المعرفة، عليكَ أن تُؤمن دونَ أن تسألَ، هكذَا يجري استعمال مقالة حدود الإدراك استعمالًا أبولوجيًّا لحراسة العقائد وتثبيتها في ضمائر المؤمنين، وهو في الأصل تثبيتٌ لنسقٍ لا يلزمُ حدود الفضاء الدِّينيِّ وحده بل يتجاوزه ليخترق الثّقافيَّ والاجتماعيَّ و السّياسيَّ.

أمَّا صاحِبُنا المالينخولي السَّعيد، فهو يفهم قضيَّة حدود المعرفة غير الفهم الَّذي يرتضيه أهلُ اللّاَهوت ومن تَبِعهم من المؤمنين، بل يقلبُ غاياتهِم قلبًا، إذا طلبوا اليقين والثّبات، طلبَ صاحِبُنا القلقَ الدّائم والارتياب اللَّامُتناهي، خاصَّةً تجاه تلك “الأسئلة الكُبرى” الَّتي تُحيّر الدّنيا وتشغل النَّاس: بدءًا بالآلهة والسِّحر والرّوح مرورًا بالتّاريخ والعقل والنَّفس والأخلاق والعدالة والسَّعادة، وصولًا إلى الجيوبوليتيكا والاستراتيجيا والمُؤامرات الَّتي تُحاكُ والسّياسات الكُبرى الَّتي تُرسمُ بعيدًا …

بعيدًا يقفُ صاحِبُنَا مدهوشًا أمامَ هذا الكمِّ الهائل من الأسئلة، …، ليُسلّمَ – من بعد ما أرهقهُ التأمَّلُ – بأنَّهُ لا يستطيعُ أن يحيط علمًا بكلِّ هذه المسائل، لأنَّ أُمورًا كثيرةً تحولُ بينهُ وبينها، أخصُّها غموضُ هذه المسائل وقِصرُ الحياةِ. هكذَا صرَّحَ الحكيم بروتاغوراس بالموقف ذاته تجاه مسألة وجود الآلهة.

لقد أفضى التَّأمُّلُ بالمالينخولي السَّعيد في موضع سابق إلى أنَّ الإدراك الإنسانيَّ قائمٌ على تمثّلِ العالم تمثّلًا محكومًا بإكراهات متعدِّدة تؤُولُ به إلى التَّوهُّم، لأنَّ العالمَ كما هوُ قائمٌ في ذاته بمعزلٍ عن الوعي به، والوعيُ به لا يكون إلّا وعيًا واهمًا مُحاطًا بالتَّخيّل والرَّغبة والحُلمِ والأهواء، وهو وعيٌ فردانيٌّ غارقٌ في الخصوصيَّة إذ لا يمكنُ أن يتطابقَ وعيُ أحدهم بوعيِ آخر. لذلكَ فإنَّ صاحبنَا يتحدَّثُ عن الإنسانِ بألف التَّعريف ولامها قاصدًا نفسه، ولا يقصد الإنسان بإطلاقيَّته المنفلتة عن الضّبط. إنَّ الإنسان الفرد هو مقياسُ الأشياء جميعها، و قد سبق للحكيم بروتاغوراس أنْ صرَّحَ بأنَّ “الأشياءَ هي بالنِّسبة إليَّ على ما تبدُو لي، وهي بالنّسبة إليكَ على ما تبدو لكَ، وأنتَ إنسانٌ وأنا إنسانٌ”، كما أنَّ كلَّ قضيّة في العالمِ تحتملُ مجموعةً من الأحكامِ الَّتي تتعادلُ قوَّتها سلبًا و إيجابًا بالعودة إلى حصافة النَّاظر فيها وقوّة الحجج الَّتي يحشدها لها.

تَبدُو معرفة الإنسانِ بنفسه وبالعالم المُحيط به، معرفةً محدودةً لا يسعهُ الإحاطةُ بها كُلًّا جامعًا، بل إنَّ نصيبه منها لا يتجاوزُ نُتفًا وشذراتٍ وتخمينات ممزَّقة، فكيف يتدبَّر المالينخولي السَّعيد نفسه في مواجهة العالم والحالُ أنَّهُ محدود المعارفِ؟ وكيفَ يُواجهُ تلك الأسئلة الكُبرى الَّتي لا محيد عن مُواجهتها، بل إنَّ بعضها حاضرٌ بقوَّة في أشدِّ تفاصيل حياته حميميَّة؟

إنَّ تلكَ الفترة الفاصلة بين لحظتيْ الولادة والموت، لا تزيد في نظر صاحبنَا عن كونها مُزحة ثقيلة الظلِّ لا ينبغي التّعَامل معها بجديَّة مفرطة، لذلكَ فإنَّ تدبير الأسئلة ينبغي أن يكون على نحوٍ جزئيٍّ، كُلٌّ بحسب ما يقتضيه حالُهُ ومِزاجُهُ ووضعُهُ ورَاهِنُهُ، وليس على المرء أن يتنطّع في إيجاد الأجوبة النّهائيَّة أو أنْ يتكلَّفَ تشييد الأنساق الَّتي تدَّعي الإحاطة بكلِّ ما هو كائنٌ وما ينبغي أن يكون. بل إنَّ بعض القضايا تستدعي لامبالاةً ساخرةً، فعدمُ الاكتراثِ في حدّ ذاته إجابةٌ شافية عن كثيرٍ من المُزحِ الثّقيلة الَّتي يعتَبُرها أهلُ النَّسقِ قضايَا لا تستقيمُ الحياةُ إلاَّ باستكناه جوهرها، وما همُّ صاحبنَا إنْ استقامت الحياةُ أو لمْ تستقمْ؟

اللاَّأدريَّة موقفٌ وجوديٌّ نبيلٌ جدًّا، موقفٌ حصيفٌ اتَّخذهُ المالينخولي السّعيد في غمرة قلقه، فوجد فيه خلاصهُ الخُلُقيَّ من كلِّ أوزار العالم وآلامه وتناقضاته، ونال من خلاله سكينةً تُردُّ إلى تلك التَّعطيليَّة المُطلقة، حيثُ يُخيِّمُ صمتٌ رهيبٌ، وتوقّفٌ تامٌّ عن الحُكم، ويأسٌ مُغتبطٌ من المعرفة البشريَّة.

أن نقُول في نبرة سقراطيَّة واثقة “كُلُّ ما أعرفهُ هو أنِّي لا أعرفُ شيئًا”، أنْ نَزهدَ في المَعْنى، أنْ نقتصدَ في الغاياتِ، أنْ نعِي بلاأدريّتِنَا، أن نتوقَّفَ عن الحُكْمِ، أن نُعطِّلَ الأسئلة البعيدة، تلك هي الفضائل الوجوديَّة الَّتي يرمي إليها المالينخولي السَّعيد، والَّتي تُؤدِّي به إلى ضربٍ من الشّكوكيَّة المُطمئنة. وكيف يكُونُ الشَّكُ مُطمئنًّا؟ ذلكَ هو البرزخُ الَّذي يقفُ في رحابهِ صاحبُنَا، تلك هي المُعادلة الَّتي تحكمُ سيرته الوجوديَّة، أوَ لمْ نسأل منذ البداية: كيفَ تكُونُ المالينخوليا -وهي مزاجٌ سوداويٌّ حادٌّ- كيف تَكونُ سعيدةً؟

المصدر: الأوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى