المجموعة الشعرية “الخروج من الحبيبة” للمصري أحمد محجوب .. رسائل في البطء واللذة
في عالم سريع تغيب فيه اللحظة الكاملة، التي تعلق في العقل، ويدوم أثرها مع الزمن، يفقد الإنسان أكثر مما يكسب. عندما يحين وقت كساد الجسد، لا يبقى إلا لحظة بطيئة، مرت على الحواس فتشبعت منها، وتلقفتها كاملة.
حينما سلط ميلان كونديرا بصيرته نحو ذلك وجد أن ما يعلق بالذاكرة يعتمد على البطء، وما يفلت منها، فقد داسته السرعة: “ثمة وشيجة سرية بين البطء والذاكرة، كما بين السرعة والنسيان”.
في هذا الإطار يفرد الشاعر المصري أحمد محجوب تأملاته في البطء واللذة، والتفرد بالحبيب، في مجموعته الشعرية” الخروج من الحبيبة” عن دار رواشن للنشر 2019.
حيث تتعدد في قصائد الشاعر الأساليب المتنوعة ما بين التقرير، والنفي والنهي والأمر والتعجب، والأسئلة في وضعها المباشر، أو بالتلميح، حسبما تتطلب العاطفة المنوطة بالجملة.
فيما تبرز لغة محجوب الشعرية بثوبها الصوفي تجاه العشيق، بما تحمله من سمو في انتقاء الكلمات، وجزالة وعمق في صياغة العبارات.
كما ويعمل الشاعر في مساحة من التجريب على مدار 71 صفحة من القطع المتوسط، وبتنوع في الصياغة، ما بين التفكيك للعبارة أحيانًا، والتكثيف، وتكثر العبارات التي يتقصد وضعها بين أقواس، إما للاقتباس، أو لإظهار الصوت الآخر، أو حتى لإظهار صوت مغاير لنفس المفكر في الحالة.
أوكسجين
بجنون الحالة، يجد المرء في العشق أنفاسًا جديدة تسري في جسده، وتخرج رؤية الحياة عن سطحيتها المعتادة. فيصل الإنسان إلى عمقه، كما لم يحدث قبل ذلك.
تلك البراءة من العالم التي تتملك الجسد حينها، براءة من كل شيء، تعمل على تنقية الخلايا من المآسي فيما مضى، والخوف مما هو قادم. عن هذا التصالح مع المجريات يكتب محجوب:
“حين تقول “عتب الحبيبة”
اعتمد على رئتيك في النطق،
ولترفع لسانك المتوجس،
إلى آخر درجة في النشيج
قل:
“حافظة الوعد الخشبية..
وبادئة العاشق بالوله”.
رفع اليدين
براءة للعاشق من العالم
باختصار بدء الحسرة
يقول العاشق:
الجلوس
ترقيق المسافة
الجلوس
عتبة
الجلوس
عاشق بيدين
والعاشق طاولة”.
فضل البطء
إن الإنسان بغريزته باحث دائم عن اللذة، ذاك الشعور من الارتخاء أمام حدث ما، أو في ذروة ذلك الحدث. هذا الطريق الذي في كل مرة يفتتح بوابات جديدة، أمام الذهن، لعل هذا ما يبقي الشغف على الدوام يتجدد داخل المرء. تلك التجربة التي ينقب من خلالها كل واحد منا عن أسلوبيته في تنغيم لذته، هي خصوصية لا تتشابه مع الآخرين، وإن تطابقت الأدوات.
ولا يمكن أن يكون لذة مؤثرة في تلك اللحظة الخاطفة السريعة. فالإدهاش الناتج عنها، يضيء كومضة في العقل، لكن البطء هو ما يؤكد حياة تلك اللحظة واشتعالها في الذاكرة. يختصر هذا أحمد محجوب في نص “فضل البطء على ما سواه”، ويكتب:
“الأصل أن يبدأ الطريق
انظر بنفسك
طائر يفرح لضربة حاسمة؟
كعاشق في الطريق
كشجرة عامرة بذاتها
وسع مكانك للعوام.
صدقني
الطريق هو التدبر
بطء التحرك
من “يريد” إلى “يجد”
وانتهاء الحسم
كن بطيئًا هائلًا
وسع مكانك للعوام
الطريق هو التردد
اسمع لعاشق
الطريق هو التودد
مسح البدن بالمني
وانهيار اللحظة الخاطفة”.
حرب في الداخل
وعلى طريقة التعاليم المقدسة، يبدأ الصوت العلوي للنص في تلقين الكائن الحديث الدخول على العالم. رسم الخريطة الكونية هذا، هو بمثابة الوعي الذي يلاحق الإنسان تفاصيله لتنقية قناعاته، وطهيها. فتدور العشوائية في الداخل، وتشتعل الحرب بين الأفكار، وتكبر النقطة العمياء، حتى تصير رؤية.
هذه التسلسلية التي يُبنى من خلالها هيكل النص، مظهرًا حركة ضمنية بين الكلمات، ونموًا مثيرًا للعاطفة مع مجاراة البعد اللفظي للكلمات المتماسكة سوية، تتأتى بفضل مقدرة الشاعر.
حيث يقول محجوب في نص “في ذكر القبل وأيام السعد”:
“كنقطة عمياء في أول الخلق.
يتعلم العاشق من سنديانه:
“هذا أنا
كنت.. فبنت
لكن الوحدة ناقصة
والمرء كثير”
بخفة ضع التفاحة في المنتصف، فهي الوجاء.
ضع التردد في اليمين فهو الإشارة.
ضع المشاهد في الزاوية، فهي المدد”.
ويكمل في ذات النص:
“كنت أحدث نفسي:
“ما لضدين اتحدا كي يزولا،
ما لضدين اتحدا .. ما لضدين”،
وكان العالم يبدأ من نقطة عمياء
بين فرث ودم،
حيث الروح لماعة، والنجاة نجاة”.
ستارة بين العين والعالم
ويكمل الشاعر طريقته المنزهة في تناول العشيق، بالتجريب الصوفي في التعرف على الذات من خلال الإيغال في الآخر، وترك الأمور في الواقع على حالها، ومخاطبة الروح، كأنما ستارة بين العين وبين العالم. ليس نوعًا من أنواع العزلة هذا، إنما فردانية وتوحيدًا للعاطفة تجاه النقاء والسلام.
بلغة تبعث على التجلي، وتتغلغل في الحواس، فتتفعل لحظة الطرب، بكل ما تحمله العبارات من معازف.
يكتب محجوب:
“سلام على قلبك من لذة في وصال، حتى تعلم أن العشق أكبر،
وسلام عليك من الفجاءة
وخير ما فيها أن غيرك فيها،
وشر ما فيها، أن يوقظ العاشق فيه خشيته من الفوات.
فسلام عليك يا سليل التلصص، وساكن البين البين،
يا خاسر الهناءة لأجل الهناءة، وحامل العلامات طوعًا بلا طاعة، وشوقًا بلا وصل.
وسلام الله عليك يا كتلة العالم، ودفينة ما ضدين في آن “.
أحجية
بينما يتأرجح المرء، لا أرض تحمله، ولا هوية يمكن حفظها. ولا ثبات في زاويته التي يتخذها من العالم. ففي هذا المنحى تتفعل الحواس نحو الآخر إلى الخارج، ليبقى الكيان المعلق مثل رأس بندول في حركته المستمرة. هذه الأحجية التي يطرحها التعلق بالآخر، يأتي بها الشاعر بمواصفات خاصة، يوردها خلال نص”عن الطبطبة وما إلى ذلك”،
فيكتب:
“يا حبيبي
هذا دليل العوالق بالمحب:
“الخفة سلعة الغافي، حصة المذبوح من دمه، تبعية الأسماء للأسماء، قصر الخطى، وجُل التلامس وارتباك الخط. التفكه والتفرس والتأخر والحنو. العنفوان، الصقل تطمين المسالك بالكمين، رسم الفجاءة، التمهل للتمهل، عين رأت، مضي وتورد، التردد بالإشارة والخسارة واللذائذ والهدد. طمس المعالم بالكمين، ،الارتقاء، السهو، تمجيد الخسارة، هدم اللهاث، رد الصبر، نصح المعرف للسمي: الآن صبرك/الآن صمتك/الآن فضلك/ الآن فر”.
حسام معروف