فيينا، أيلول 1932
عزيزي البروفسور أينشتاين،
حينما سمعت أنك تنوي توجيه دعوة إليَّ لتبادُلِ وجهات النظر حول موضوعٍ يثير اهتمامك ويستحق، على ما يبدو، اهتمامَ سواك، فقد وافقتُ على الفور. لقد توقعتُ أن تختار مشكلة تقع عند حدود ما يمكن معرفته مؤخرًا، مشكلة يمكن لكلٍّ منَّا، – أنت عالم الفيزياء وأنا الطبيب النفساني، – إنْ كانت له زاويةُ رؤية خاصة بها، أن يلتقي مع الآخر عندها، وعلى الأرضية نفسها، بعد أن نكون قد جئنا من اتجاهين مختلفين. لكنك فاجأتَني بطرح سؤال عما يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها.
لقد فزعت بادئ ذي بدء بسبب عجزي – وكدت أن أكتب “عجزنا” – عن معالجة ما يبدو لي أنه مشكلة عملية، شأن من شؤون رجال الدولة. لكنني أدركت بعد ذاك أنك لم تطرح السؤال كعالم طبيعيات وفيزياء، بل كإنسان محبٍّ للإنسانية، وأنك تتابع عمليات الحضِّ على إقامة “عصبة الأمم”، تمامًا كما تعهَّد مسكتشفُ القطب، فريديوف نانسِن ، على نفسه أن يعمل ما في وسعه لمساعدة ضحايا الحرب العالمية ممَّن حُرِموا المأوى والطعام. ولقد فكرت، زيادة على ذلك، أنني لم أتلقَّ السؤال بغية وضع اقتراحات عملية، بل فقط لكي أعرض مشكلة تجنُّب الحرب كما تتبدَّى لعين عالِم نفساني. هنا أجد، مرة ثانية، أنك قلت كلَّ ما ينبغي قوله حول الموضوع تقريبًا. لكن، وعلى الرغم من أنك – كما يقال – “أفرغت شراعي من الريح”، فإنه ليسعدني أن أقتفي أثرك، قانعًا بإثبات كل ما قلته، وذلك من خلال توضيحه طبقًا لأفضل حالات معرفتي – أو تخميني.
لقد بدأتَ بطرح العلاقة بين الحق و القوة . ولا شكَّ أن تلك هي نقطة الانطلاق الصحيحة لبحثنا. لكنْ، هل لي أن أستبدل بكلمة “قوة” كلمة أقسى وأصرح هي كلمة “عنف”؟
في الوقت الحاضر يبدو لنا الحق والعنف كنقيضين متضادين. مع ذلك، فمن السهل أن نبيِّن أن أحدهما انبثق عن الآخر. وإذا ما عدنا إلى البدايات الأولى، ورأينا كيف ظهر الأول، فإن المشكلة تُحَلُّ في سهولة. ولا بدَّ لك من أن تعذرني إذا وجدتَني فيما يلي أنظِّر في الأفكار المقبولة لدى الناس عامةً وكأنها جديدة. فحجتي تقتضي ذلك إذا ما أردنا الإمساك برأس خيطها.
المبدأ العام، إذًا، هو أن يلجأ الناس إلى استخدام العنف بغية حلِّ النزاعات فيما بينهم حول مصالح معينة. وهذا ينطبق على مملكة الحيوان كلِّها، تلك التي لا يستطيع الإنسان فَصْلَ نفسه عنها. لكن مما لا شكَّ فيه أنه، بالنسبة إلى الإنسان، تحدث أيضًا صراعاتٌ في الرأي، صراعات قد تصل إلى أعلى درجات التجرد، وتبدو وكأنها تقتضي أسلوبًا آخر لحلِّها. بيد أن ذلك تعقيد يأتي فيما بعد. فمنذ البداية، كانت القوة العضلية المتفوقة هي التي تقرر، بين أفراد جماعة بشرية صغيرة، لِمَن تعود ملكية الأشياء أو مَن ينبغي أن يسيطر. هذه القوة العضلية لَحِقَ بها سريعًا، وحلَّ محلَّها، استخدامُ الأدوات: غدا الفائز مَن يملك السلاح الأفضل، أو مَن يستخدمه استخدامًا أبرع.
ومنذ اللحظة التي دخل فيها السلاحُ عالم الإنسان، بدأ التفوق الفكري تقريبًا يحلُّ محلَّ القوة العضلية البهيمية؛ لكن غاية القتال النهائية بقيت هي ذاتها: أن يُجبَر هذا الطرفُ أو ذاك على التخلِّي عن دعواه أو اعتراضه، وذلك بإيقاع الضرر به وتحطيم قوته.
وكانت تلك الغاية تتحقق على أتم وجه إذا ما استطاع عنف المنتصر أن يقضي على خصمه قضاء مبرمًا، أي أن يقتله. فلهذا العمل ميزتان: أولاهما أنه لن يستطيع تجديد مقاومته، والثانية أن مصيره سيمنع الآخرين من احتذاء مثاله. زِدْ على ذلك أن قتل الخصم يُرضي ميلاً غريزيًّا سأذكره فيما بعد.
فنيَّة القتل يمكن لفكرة أخرى أن تقابلها، هي أن الخصم يمكن أن يُستخدَم لتأدية خدمات مفيدة إذا ما أُبْقِيَ على قيد الحياة وفي حالة شديدة من الضعف والذعر. في هذه الحالة، يقنع عنف المنتصر بإخضاع الخصم بدلاً من قتله.
وهذه هي البداية الأولى لفكرة الإبقاء على حياة الخصم. لكنْ، فيما بعد، تعيَّن على المنتصر أن يأخذ في حسبانه تعطُّش الخصم المنهزم إلى الانتقام وأن يضحِّي بشيء من أمانه.
هكذا، إذن، هي الحالة الأصلية للأشياء: السيادة لِمَن يمتلك القوة الأكبر، السيادة للقوة الوحشية أو للعنف الذي يدعمه التفكير. وكما نعلم، فقد تغير هذا النظام مع مسيرة التطور. إذ وُجِدَ طريقٌ قاد الإنسان من العنف إلى الحق والقانون. لكن ما هو ذلك الطريق؟
باعتقادي أنه كان واحدًا فقط: إنه الحقيقة التي تجلَّت لناظر الإنسان، وهي أن القوة التي يتفوق بها فردٌ واحد يمكن أن ينافسها اتحادُ قوى لعدد من الأفراد الضعفاء: “في الاتحاد قوة. ” إذن، فالعنف يمكن تحطيمه بالوحدة.
وقوة أولئك الذين اتحدوا غَدَتْ تمثِّل القانون تجاه عنف الفرد الواحد. من هنا نرى أن “الحق” هو قوة الجماعة. لكنْ ظل العنف على أهبة الاستعداد لأن يوجَّه ضد أيِّ فرد يقاومه.
إنه يعمل بالأساليب ذاتها، ويستهدف الغايات ذاتها. الفارق الحقيقي الوحيد يكمن في أن السيادة لم تعدْ لعنف الفرد، بل لعنف الجماعة. لكنْ، لكي يكون بالإمكان الانتقال من العنف إلى هذا الحق الجديد أو العدالة الجديدة، كان لا بدَّ من تحقيق شرط پسيكولوجي. هذا الشرط هو أن تكون وحدة الأكثرية ثابتة ودائمة. إذ لو أن علَّة وجود هذه الوحدة كانت فقط مواجهة فرد مسيطر واحد، ثم أُلغِيَتْ بعد هزيمته، فسيكون الأمر وكأن شيئًا لم يكن. ذلك أن أول مَن يجد في نفسه القوة الكافية سيسعى مرة أخرى إلى فَرْضِ هيمنته عن طريق العنف، وستتكرر اللعبة ذاتُها إلى ما لا نهاية. من هنا كان لا بدَّ للجماعة من أن تدعم باستمرار وأن تنظِّم وأن تضع الأنظمةَ التي تتوقع مسبقًا خطر التمرد؛ كما تعيَّن عليها أن تقيم السلطات التي تشرف على تطبيق تلك الأنظمة – القوانين – وتتأكد من تنفيذ أعمال العنف المشروعة قانونيًّا.
اعتراف الجماعة بمصالح كهذه أدى إلى نموِّ روابط عاطفية بين أفراد جماعة متحدة من الناس – فكانت مشاعر الوحدة تلك هي المصدر الحقيقي لقوتها.
هنا، على ما أعتقد، تتوفر لدينا النقاط الجوهرية كلُّها: يتم التغلب على العنف بانتقال القوة إلى وحدة أكبر؛ وهذه الوحدة يتحقق تماسكُها بقيام روابط عاطفية بين أفرادها. ما يمكن قوله بعد ذاك ليس أكثر من توسيع وتكرار لهذا.
غير أن الموقف يكون بسيطًا وواضحًا مادامت الجماعةُ مؤلَّفة من عدد من الأفراد من ذوي القوة المتساوية فقط. وقوانين ارتباط كهذه تثبت بالمدى الذي يتعيَّن على كلِّ فرد فيه – إنْ كان لا بدَّ من ضمان سلامة حياة الجماعة – أن يتنازل عن حريته الشخصية، محوِّلاً قوته إلى استخدامات العنف. لكن حالة مريحة من هذا النوع يمكن فهمها نظريًّا فقط. فعلى صعيد الواقع، نجد أن الوضع يتعقد نظرًا لأن الجماعة، من البداية ذاتها، تتألَّف من عناصر غير متساوية القوة – رجال ونساء، آباء وأبناء – ثم بعد ذلك، ونتيجة للحرب والغزو، ستضم أيضًا منتصرين ومهزومين، يتحولون إلى سادة وعبيد.
عدالة الجماعة، إذن، تصبح تعبيرًا عن درجات القوة المتفاوتة الحاصلة ضمنها، والقوانين فيها تسنُّها العناصر الحاكمة، ومن أجلها، ولا يظل فيها متسعٌ كبير لحقوق الرعية المحكومين. منذ ذلك الوقت فصاعدًا، برز عاملان مؤثران في الجماعة كانا مصدر القلق فيما يتعلق بقضايا القانون، وفي الآن نفسه كانا، في الغالب، مصدر تطوير للقانون:
– أولهما هو أن بعض الحكام يحاولون تجاوُز الحدود والقيود التي تنطبق على الجميع – أي أنهم يسعون إلى التخلص من سيادة القانون إلى سيادة العنف.
-الثاني هو أن أفراد الجماعة المضطهَدة يبذلون جهودًا دائبة للحصول على المزيد من القوة ولإحداث أية تغييرات يمكن تحقيقها في ذلك الاتجاه الذي يسود فيه القانون – أي أنهم يندفعون قُدُمًا من عدالة غير متساوية إلى عدالة متساوية للجميع.
هذا الاتجاه الثاني يصبح هامًّا، خاصة إذا ما حدث انتقالٌ حقيقي للقوة ضمن الجماعة، مثلما قد يحدث نتيجة لعدد من العوامل التاريخية. في تلك الحالة، قد يتكيف الحق تدريجيًّا مع التوزع الجديد للقوة، أو، كما يحدث في الأغلب، تمتنع الطبقةُ الحاكمة عن الاعتراف بالتغير، فيعقب ذلك تمردٌ وحرب أهلية، ثم تعليق مؤقت للقانون ومحاولات جديدة لحلِّ المشكلات القائمة عن طريق العنف، تنتهي بإقامة حُكْم قانوني جديد.
مع ذلك، ثمة مصدر آخر يمكن أن تنبثق عنه تعديلات القانون، مصدر يتم التعبير عنه باستمرار تعبيرًا سلميًّا: إنه يكمن في التحول الثقافي لأفراد الجماعة. غير أن هذا يمتُّ في الحقيقة إلى رابطة أخرى لا بدَّ من إلقاء نظرة عليها فيما بعد.
بذلك نرى أنه لا يمكن تجنب الحلِّ العنيف لنزاعات المصالح، حتى ضمن الجماعة الواحدة. بيد أن الضرورات الحياتية والشؤون المشتركة التي يتحتَّم وجودُها حيث يعيش الناس معًا تحت سماء واحدة تميل إلى أن توصل صراعات كهذه إلى حَسْمٍ سريع. وفي ظروف كهذه، يكون ثمة احتمال متزايد في أن يتم التوصل إلى حلٍّ سلمي. لكن نظرة سريعة نلقيها على تاريخ الجنس البشري تكشف لنا سلسلةَ النزاعات التي لا نهاية لها بين جماعة وأخرى، أو بين جماعة وعدة جماعات أُخَر، أو بين وحدات سكانية كبيرة ووحدات أصغر – مدن، مقاطعات، شعوب، أمم، إمبراطوريات – نزاعات كانت، في صورة دائمة تقريبًا، تُحَلُّ بقوة السلاح. حروب من هذا النوع تنتهي إما بسلب أحد الطرفين، وإما بقهره وفَتْح بلاده فتحًا كاملاً.
ومن المستحيل أن نتخذ أيَّ حكم حاسم على حروب الفتوح. فبعضها، كتلك التي شنَّها المغول والأتراك، لم ينجم عنه سوى الشر؛ والبعض الآخر، في المقابل، ساهم في تحويل العنف إلى قانون، وذلك بإقامة وحدات بشرية أكبر غدا استخدام العنف فيها أمرًا مستحيلاً، وأدَّتْ إقامةُ نظام جديد فيها إلى حلِّ الصراعات. بهذه الطريقة، أدى احتلال الرومان للبلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط إلى إعطاء هذه البلدان “السلام الروماني” pax Romana الذي لا يقدَّر بثمن، وأدى طمعُ ملوك فرنسا ورغبتُهم في توسيع ممتلكاتهم إلى إيجاد فرنسا موحدة سلميًّا ومزدهرة. لكن لا بدَّ من الاعتراف – وهو أمر قد يبدو مثيرًا للمفارقة – أن الحرب قد تكون أبعد ما تكون عن الوسيلة غير الملائمة لإقامة حكم السلام “الدائم” المرغوب فيه كلَّ الرغبة، نظرًا لأنها في وضع يمكِّنها من إيجاد الوحدات الكبيرة التي يغدو من المحال قيام المزيد من الحروب بوجود حكومتها المركزية القوية.
مع ذلك، فإنها تخفق في هذا المجال، نظرًا لأن نتائج الغزو والاحتلال تكون، كقاعدة عامة، قصيرة الأجل: فالوحدات المُحدَثة مجددًا تتداعى وتتفرَّق مرة ثانية، ويكون ذلك عادة بسبب الافتقار إلى اللحمة التي تشد الأجزاء التي تم توحيدها بالعنف. بل الأكثر هو أن عمليات التوحيد التي تتم بالغزو والاحتلال، وعلى الرغم من أنها تصل إلى مدى كبير من التوحيد، فإنها لا تكون إلا جزئية؛ والصراعات بين هذه الأجزاء غالبًا ما تستدعي حلاً عنيفًا. وهكذا فإن نتيجة هذه الجهود الحربية كلِّها لم تكن سوى أن الجنس البشري استبدل بالحروب العديدة الصغيرة، التي لم تنتهِ في الحقيقة، حروبًا ذات مقياس أكبر، حروبًا نادرة، لكنها أكثر تدميرًا بكثير.
وإذا ما التفتْنا إلى عصرنا هذا، فإننا نصل إلى النتيجة نفسها التي توصلتَ إليها بسلوكك طريقًا أقصر. إذ لن تتم الحيلولة دون الحروب حيلولة قاطعة إلا إذا اتخذ الجنس البشري موقفًا موحدًا يقضي بإقامة سلطة مركزية تعطي الحقَّ في الحكم على كلِّ ما ينشب من نزاعات وصراعات مصلحية.
هنا، ثمة شرطان منفصلان تمامًا لا بدَّ من توفرهما؛ إيجاد سلطة عليا، ومنحها القوة اللازمة؛ وأيُّ شرط من دون الآخر لا يساوي شيئًا. وعصبة الأمم يخطَّط لها كسلطة من هذا النوع؛ غير أن الشرط الثاني لم يتحقق: فعصبة الأمم ليست لديها قوة بذاتها، ولا يمكن لها الحصول عليها إلا إذا وافق أعضاءُ الاتحاد الجديد، أي الدول التي تتشكَّل منها، على التنازل عنها. وفي الوقت الراهن، لا يبدو أن هناك أملاً كبيرًا في حدوث هذا الأمر. غير أن إقامة عصبة الأمم ستكون مبهمة كليًّا إنْ تجاهَل المرءُ حقيقةً أكيدة هي أنه لم تحدث محاولةٌ جريئة كهذه من قبل (أو، في الحقيقة، لم تحدث بهذا المقياس). إنها محاولة تبتغي اللجوء إلى مواقف مثالية معيَّنة للعقل لتقيم السلطة (أي النفوذ القاسر)، تلك السلطة التي تقوم في الحالات الأخرى على امتلاك القوة.
إننا نعلم أن الجماعة البشرية يشدها بعضها إلى بعض شيئان:
-القوة القاهرة التي يمثِّلها العنف
-والروابط العاطفية بين أفرادها (واسمها الاصطلاحي هو “التماهيات”).
فإذا غاب أحد العاملين يمكن للعامل الآخر أن يحافظ على وحدة الجماعة. وبالطبع، لا يمكن للأفكار التي يتم اللجوء إليها أن تكون ذات أهمية إلا إذا كانت تعبِّر عن الهموم الأساسية المشتركة بين الأعضاء. والسؤال الذي يبرز هنا هو كم يمكن لها أن تمارس من قوة. إن التاريخ يعلِّمنا أنها كانت فعالة إلى حدٍّ ما. مثال على ذلك، فكرة “الهيلينية الشاملة” Panhellenism، أي الإحساس بتفوق الإغريق على مَن يحيط بهم من البرابرة – وهي الفكرة التي تمَّ التعبير عنها تعبيرًا صارخًا في الـAmphictyonies[4] ووسطاء الوحي في المعابد وفي الألعاب الأولمپية – وقد كانت فكرة قوية بما يكفي للقضاء على عادات الحرب عند الإغريق، على الرغم من أنها لم تكن قوية إلى حدٍّ يكفي لمنع النزاعات شبه الحربية بين أجزاء الأمة الإغريقية المختلفة، أو منع مدينة أو اتحاد مدن من التحالف مع العدو الفارسي بغية التفوق على الخصم المناسب. وبالطريقة ذاتها، فإن التضامن في العالم المسيحي، على الرغم من قوته، لم يستطع في عصر النهضة أن يحول بين أمم مسيحية، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، وبين التماس مساعدة السلطان العثماني في حروب بعضها ضد بعضها الآخر. كما لا توجد أية فكرة في الوقت الراهن يُتوقَّع أن تمارس سلطة توحيدية من هذا النوع. والحقيقة أنه من الواضح تمامًا أن المثل العليا القومية التي تسير على هَدْيٍ منها الأممُ في الوقت الحاضر تعمل في الاتجاه المعاكس. بل إن بعض الناس يميلون إلى التكهن بأنه من غير الممكن وضعُ حدٍّ للحرب إلى أن تتلقَّى الطُّرُق الشيوعية في التفكير قبولاً عالميًّا. لكن ذلك الهدف هو، على أية حال، بعيد المنال جدًّا اليوم، وربما لن يكون في الإمكان التوصل إليه إلا بعد حروب أهلية شديدة الهول. من هنا، فإن المحاولة، لإبدال القوة العملية بقوة الأفكار، تبدو، في الوقت الراهن، وكأنه محكوم عليها بالفشل. ولسوف تكون حساباتنا خاطئة إذا ما أهملت الحقيقة القائلة بأن القانون هو، في الأصل، عنف وحشي وأنه، حتى في عصرنا الحاضر، لا يمكن تطبيقه من دون عنف.
الآن يمكن لي أن أمضي قُدُمًا، فأضيف تفسيرًا إلى ملاحظة من ملاحظاتك. إنك تعرب عن الدهشة من الحقيقة القائلة إنه لأمر يسير أن نجعل الرجال يتحمسون كثيرًا لحرب من الحروب، وتضيف إلى ذلك أيضًا بأن هناك شيئًا ما يعمل في داخلهم – غريزة الكراهية والتدمير – ويمضي إلى نصف الطريق تلبيةً لمحاولات صانعي الحروب.
مرة ثانية، لا يسعني إلا أن أعرب عن موافقتي التامة. فنحن نؤمن بوجود “غريزة” من ذلك النوع؛ وقد انشغلنا، إبان السنين القليلة الأخيرة، بدراسة الأشكال التي تتجلَّى بها. فهل تسمح لي بانتهاز هذه الفرصة كي أبسط أمامك جزءًا من نظرية الغرائز التي توصَّل إليها، بعد الكثير من البحث والتجريب والتقلب في الرأي، العاملون في ميدان التحليل النفسي؟
طبقًا لفرضيتنا، تتكون الغرائز البشرية من نوعين فقط: تلك التي تسعى إلى البقاء والاتحاد – التي ندعوها الغرائز الجنسية، تمامًا بالمعنى الذي استخدم أفلاطون فيه كلمة Eros في المائدة أو مع التوسيع الشديد لمفهوم الجنسية sexuality المألوف – وتلك التي تسعى إلى التدمير والقتل، التي نصنِّفها معًا تحت اسم “غريزة التدمير” أو “الغريزة العدوانية”.
وكما ترى، فهذا في الحقيقة ليس أكثر من توضيح نظريٍّ للتضادِّ المعروف عمومًا بين الحبِّ والكره، الذي قد تكون له علاقة أساسية ما بمسألة الجذب والنبذ التي تلعب دورًا في ميدان المعرفة الذي تخصَّصتَ فيه. لكن علينا ألا نستعجل كثيرًا في إصدار أحكام أخلاقية عن أيهما خير وأيهما شر. إذ لا يقلُّ أيٌّ من هاتين الغريزتين أهميةً عن الأخرى؛ وظواهر حياتنا إنما تنشأ من عملهما كلتيهما معًا، سواء كانتا في حالة اتفاق أم حالة شقاق. بل يبدو وكأن من الصعب كثيرًا أن تعمل إحداهما عملاً منفصلاً. إذ يصاحبها دائمًا – أو يمكن لنا القول، “يشوبها” – عنصرٌ من عناصر الغريزة الأخرى، يعدِّل من هدفها ويشكِّل، في بعض الحالات، ما يتيح لها إمكانية تحقيق ذلك الهدف. من هنا، فإن غريزة حفظ الذات، مثلاً، هي جزمًا من النوع الجنسي؛ لكن، مع ذلك، لا بدَّ من أن تتوفر لها نزعة عدوانية لتحقيق غايتها. وهكذا، أيضًا، فإن غريزة الحب، حينما تُوجَّه باتجاه هدف ما، تكون في حاجة إلى مساهمة ما من غريزة السيطرة إذا كان عليها أن تمتلك موضوع حبِّها ذاك بأية حال من الأحوال. على أن صعوبة الفصل بين نوعي الغريزتين في تجلِّياتهما العملية تلك هي، في الحقيقة، ما حال بيننا وبين التمييز بينهما هذا الأمد الطويل.
لِختنبرغ الذي كان يدرِّس الفيزياء في غوتنغن خلال مرحلتنا الدراسية – على الرغم من أنه كان مشهورًا كعالِم نفساني أكثر منه كفيزيائي. فقد ابتكر “بوصلة دوافع”، إذ كتب: “إن بالإمكان تصنيف الدوافع التي تقودنا إلى فعل أيِّ شيء على غرار الرياح الاثنتين والثلاثين، كما يمكن إعطاؤها أسماء وفق النمط نفسه: مثال على ذلك طعام–طعام–شهرة أو شهرة–شهرة–طعام.”
وهكذا، حين تندفع الكائنات البشرية إلى الحرب، فقد يكون لديها العدد الكامل من الدوافع الخاصة بالموافقة – بعضها نبيل وبعضها وضيع، بعضها يعبِّر عن نفسه علنًا وبعضها الآخر سرًّا. وليس ثمة من داعٍ لتعدادها كلِّها. لكن من المؤكد أن من ضمنها شهوة العدوان والتدمير: والقطاعات التي لا عدَّ لها، في التاريخ وفي عصرنا الحاضر، إنما تشهد على وجودها وقوَّتها. وبالطبع، فإن إرضاء هذه الدوافع التدميرية يتيسَّر من خلال امتزاجها بالدوافع الأخرى ذات الطبيعة الجنسية والمثالية.
لكنني أخشى أن أعمل بكلامي هذا على الحطِّ من الموضوع الذي يشغل بالك، ألا وهو اهتمامك بمنع الحرب، لا بنظرياتنا. مع ذلك، بودي أن أتابع الكلام قليلاً عن غريزتنا التدميرية، التي تُعَدُّ شعبيتُها غير مساوية إطلاقًا لأهميتها. لقد توصَّلنا، نتيجة شيء من التخمين، إلى أن نفترض أن هذه النظرية نشطة في كلِّ كائن حي، وأنها تسعى لأن تودي به إلى الهلاك، رادَّةً الحياة بذلك إلى حالتها الأصلية، حالة المادة الجامدة. لهذا السبب، فإنها تستحق في صورة جدية تمامًا أن تُدعى “غريزة الموت”، في حين تمثل غرائز الجنس محاولةَ الكائن البقاء حيًّا. تنقلب غريزة الموت إلى غريزة تدميرية إذا ما وُجِّهَتْ، بمساعدة أعضاء خاصة، باتجاه الخارج ونحو أهداف محددة.
فالكائن الحي يحافظ على حياته، إن جاز لنا القول، بتدمير حياة كائن خارجي. لكن جزءًا من غريزة الموت يبقى رهن العمل ضمن الكائن الحي نفسه. ولقد سعينا إلى تتبُّع عدد من الظواهر العادية والمرضية تمامًا إلى نقطة استبطان غريزة التدمير هذه. بل لقد ارتكبنا إثم الزندقة حين عَزَوْنا أصل الضمير إلى هذا “الاستدخال” للنزعة العدوانية. ولسوف تلاحظ أنها لن تكون مسألةً تافهة إطلاقًا إذا ما مضينا بهذه العملية إلى آخر الشوط: فهي قطعًا غير سليمة؛ من جهة أخرى، إذا ما تحولتْ هذه القوى باتجاه التدمير في العالم الخارجي، نجد أن الكائن الحي يرتاح، وبالتالي، لا بدَّ من أن تكون النتيجة ملأى بالفائدة.
إذ يقوم هذا العمل بدور التسويغ البيولوجي لجميع الدوافع البشعة والخطرة التي نكافح ضدها. لكن لا بدَّ من الاعتراف بأنها أقرب إلى فطرة الإنسان من مقاومته لها، وهو الأمر الذي لا بدَّ أيضًا من إيجاد تفسير له.
ربما يخيَّل إليك أن نظريتنا ضرب من ضروب الأساطير، وبالنسبة إلى الحالة الراهنة، قد تكون مُغِمَّة! لكن ألا ينتهي كلُّ علم طبيعي إلى ضرب من الأساطير مشابه لما انتهت إليه نظريتُنا؟ أولا يمكن قول الشيء ذاته في الوقت الراهن عن علومك الفيزيائية؟
إذن، فيما يتعلق بغرضنا المباشر، ينجم هذا، إلى حدٍّ كبير، عما قيل: لا فائدة من محاولة التخلص من الميول العدوانية لدى الإنسان. لقد سمعنا أنه، في بعض الأقاليم السعيدة من الأرض، حيث تقدِّم الطبيعة، وعلى نحو وافر، كلَّ ما يحتاج إليه الإنسان، ثمة شعوب تمضي حياتها في هدوء وطمأنينة ولا تعرف القَسْر ولا العدوان؛ لكنني لا أستطيع تصديق ذلك، وإنْ كان يسرني أن أسمع المزيد عن هذه الكائنات المحظوظة البلاشفة يأملون، أيضًا، في أن يتمكَّنوا من دفع النزعة العدوانية إلى الانقراض، وذلك بأن يضمنوا تلبية كافة الحاجات المادية وإقامة المساواة في المجالات الأخرى بين أفراد المجتمع كلِّهم.
لكن هذا، في رأيي، وَهْم. فهم أنفسهم مسلَّحون في الوقت الحاضر بأشد أشكال الحذر ريبة؛ ولعل الطريقة التي لا تقل أهمية عن الطرق الأخرى التي يُبقون بها أنصارَهم متلاحمين معًا إنما هي كراهية كلِّ نظام خارج حدودهم. على أية حال، وكما لاحظت بنفسك، لا مجال البتة للتخلص تخلصًا كاملاً من الدوافع العدوانية لدى الإنسان؛ بل حسبنا أن نعمل على حَرْفِها إلى درجة لا تعود معها في حاجة لأن تعبِّر عن نفسها بالحرب.
إن نظريتنا الأسطورية عن الغرائز تجعل من اليسير علينا أن نجد صيغة خاصة بالطرائق غير المباشرة لمقاومة الحرب. فإذا كانت الرغبة في شنِّ الحرب ناجمةً عن غرائز التدمير، فإن أبسط خطة هي أن نجعل الـEros – عدوَّها الأكبر – يعمل ضدها.
أي ينبغي تفعيل أيِّ شيء يشجِّع نموَّ الروابط العاطفية بين الناس ضد الحرب. وهذه الروابط العاطفية قد تكون من نوعين مختلفين: ففي المكان الأول قد تكون علاقات تماثِل تلك الموجَّهة باتجاه شيء محبوب، دون أن يكون له هدف جنسي. وليس هناك من داعٍ لأن يخجل المحلِّلون النفسيون من التحدث عن “الحب” بهذا المعنى.
فالدين نفسه يستخدم الكلمات عينها: “أحبِبْ قريبك حبَّك لنفسك.” ومع ذلك، فإن القول هنا أسهل من الفعل!
النوع الثاني من الروابط العاطفية هو التماهي. فأي شيء يؤدي بالإنسان إلى المشاركة في المصالح والاهتمامات العامة يحقِّق شعور الجماعة هذا، يحقق التماهي؛ وبنية المجتمع البشري تعتمد، إلى حدٍّ كبير، على هذا الشعور بالتماهي.
أما الشكوى التي أبديتَها حول الحطِّ من قَدْر السلطة فإنها توصلني إلى اقتراح آخر فيما يتعلق بالمحاربة غير المباشرة لنزعة الحرب. ذلك أن أحد الأمثلة على تفاوُت الناس الفطري، الذي لا يمكن التخلص منه، إنما هو ميلهم إلى تصنيف أنفسهم ضمن صنفين: قادة وأتباع. الأخيرون يشكِّلون الأغلبية، ويشعرون بالحاجة إلى سلطة تتخذ القرارات بدلاً عنهم، ويُبدون لها، في الغالب، خضوعًا غير محدود.
نستدل من هذا على أنه ينبغي الاهتمام، أكثر مما فعلنا حتى اليوم، بتربية طبقة عليا من الناس من ذوي العقول المستقلة، ممَّن لا يفتُّ في عضدهم شيء سعيًا وراء الحقيقة، وممَّن ستكون مهمتُهم إعطاء التوجيهات للجماهير التابعة. وغنيٌّ عن القول إن الانتهاكات التي تقوم بها السلطة التنفيذية للدولة والقيود التي تفرضها الكنيسة على حرية الفكر هي أبعد من أن تكون ملائمة لإيجاد طبقة من هذا النوع. إن الحالة المثالية للأشياء قد تكون، بالطبع، مجتمعًا يُخضِع فيه الناسُ حياتَهم الغريزية لسلطة العقل المطلقة.
ولا شيء آخر يمكن أن يوحِّد الناس توحيدًا تامًا ومتينًا كهذا، حتى وإن لم تكن هناك روابط عاطفية بينهم. لكن، في كلِّ الاحتمالات، ليس ذلك إلا أملاً طوباويًّا. ولا ريب في أن الأساليب الأخرى غير المباشرة لمنع الحرب هي أكثر قابلية للتطبيق، على الرغم من أنها لا تَعِدُ بنجاح سريع. هنا تخطر في ذهني صورة غير سارة لطواحين تطحن ببطء إلى درجة قد يقضي الناس فيها جوعًا قبل أن يحصلوا على دقيقهم!
وكما ترى، لا تكون النتيجة مجزيةً كثيرًا حين يُدعى منظِّر، مترفِّع عن التماس مع الدنيا، إلى تقديم نصيحة حول مشكلة عملية مُلِحَّة! فالخطة الأفضل هي أن يكرِّس المرء نفسه، في كلِّ حالة بعينها، لمواجهة الخطر بالأسلحة المتاحة له، أيًّا كانت. مع ذلك، أود أن أناقش مسألة أخرى، لم تتطرَّق إلى ذكرها في رسالتك، إلا أنها تعنيني بصورة خاصة: لماذا ترانا – أنا وأنت والكثير من الآخرين – نرفض الحرب رفضًا قاطعًا؟
لماذا لا نتقبَّلها كأية مصيبة أخرى من مصائب الحياة الكثيرة الإيلام؟
فهي، في النتيجة، تبدو أمرًا طبيعيًّا تمامًا. ومما لا شكَّ فيه أن لها أساسًا بيولوجيًّا أكيدًا، وعلى صعيد الممارسة، قلما يمكن تجنبها. وليس ثمة داعٍ لأن يصدمك طرحي لهذا السؤال. فمن أجل التمحيص في مسألة كهذه، ربما يُسمَح للمرء بأن يلبس قناعًا من التجرد المفترَض، فيكون الجواب على سؤالي هو أننا نقف من الحرب هذا الموقف لأن لكلٍّ منَّا الحقَّ في أن يحيا، ولأن الحرب تقضي على الكثير من الأرواح البشرية، على الرغم من أن حياتها ملأى بالأمل، ولأنها تؤدي بالإنسان إلى مواقف الخضوع والمذلَّة، وتفرِض عليه رغم أنفه أن يقتل أناسًا آخرين، كما أنها تدمِّر أشياء مادية بالغة القيمة، أشياء بَذَلَ الإنسان الكثيرَ من الجهد في صنعها. وثمة أسباب يمكن ذكرها أيضًا. فالحرب، كما هي في شكلها الحالي، لم تعد فرصة يحقِّق فيها الإنسانُ المُثُل العليا القديمة للبطولة؛ كذلك، وبسبب الكمال الذي بلغتْه وسائل التدمير، فإن الحرب في المستقبل قد تتضمن القضاء التام على أحد طرفي النزاع، أو ربما على الطرفين كليهما كلُّ هذا صحيح، وصحيح صحةً لا تقبل الجدال، إلى درجة لا يمكن معها للمرء إلا أن يشعر بالدهشة لأنه لم يتم حتى الآن امتناع الدول جميعًا عن التفكير بشنِّ الحرب.
لكن لا شكَّ في أن النقاش ممكن فيما يتعلق بنقطة أو اثنتين من هذه النقاط. ولربما يخطر ببال بعضهم أن يسأل فيما إذا كان المجتمع لا يملك الحق في أن يتصرف بحياة الأفراد، وفيما إذا كانت كلُّ حرب تخضع للإدانة بالدرجة ذاتها: فمادامت هناك دولٌ وأمم مستعدة لأن تدمِّر، من غير ما رحمة أو شفقة، أممًا ودولاً أخرى، فإن على هذه الأمم والدول الأخرى أن تستعد للحرب. لكنني لن أطيل البحث في أيٍّ من هذه القضايا؛ فهي ليست ما تود أن تناقشه معي، كما أن ما يشغل ذهني أمرٌ مختلف تمامًا.
إنني أرى أن السبب الرئيسي لرفضنا للحرب هو أنه لا يسعنا إلا أن نفعل ذلك. فنحن مناصرون للسلام لأننا مضطرون إلى أن نكون كذلك لأسباب عضوية. وبالتالي، فإننا لا نجد صعوبة في إيجاد الحجج التي تبرِّر موقفنا.
هذا، ولا شك، يقتضي تفسيرًا ما. واعتقادي هو التالي: فإبان عصور زمنية لا يمكن تقديرها، مرَّ الجنس البشري بسيرورة تطور ثقافي (وبعض الناس، بحسب علمي، يفضلون أن يستخدموا كلمة “حضاري”)؛ وإننا لمدينون لتلك السيرورة بخير ما توصَّلنا إليه، وكذلك بقسم كبير مما نعاني منه. وعلى الرغم من أن الأسباب والبدايات غامضة، كما أن النتيجة غير أكيدة، إلا أن من السهل أن نفهم بعض خصائصها.
إنها قد تؤدي إلى انقراض الجنس البشري لأنها، وبأكثر من طريقة، تُضعِف الوظيفة الجنسية. فالشعوب الأقل تحضُّرًا، أو الشرائح المتخلِّفة من السكان، تتكاثر في الحقيقة تكاثرًا أسرع بكثير من الشعوب والشرائح الاجتماعية الأرفع حضارة وثقافة. هذه السيرورة يمكن مقارنتها بتدجين بعض أنواع الحيوان: فهي، ولا شك، تترافق مع تغيرات جسمانية؛ لكننا لم نألف بعدُ الفكرة القائلة بأن تطور الثقافة هي سيرورة عضوية من هذا النوع. فالتعديلات الجسمانية التي تواكب السيرورة الثقافية مذهلة ولا لبس فيها. إنها تتركز في التحويل المطَّرد للأهداف الغريزية والتقييد التدريجي للدوافع الغريزية. فالأحاسيس التي كانت تحمل السرور لأجدادنا أصبحت جوفاء في نظرنا، أو حتى غير محتمَلة. وهناك أسُس عضوية للتغيرات التي ألمَّتْ بمُثُلنا الأخلاقية والجمالية.
لكن من بين الخصائص الپسيكولوجية للحضارة ثمة خاصيتان هما، على ما يبدو، الأهم: الأول، تقوية الفكر الذي بدأ يحكم الغرائز نفسها وحيويتها، والثاني استبطان الدوافع العدوانية، بكلِّ ما في ذلك من حسنات وأخطار لاحقة. إذن، الحرب الآن هي في حالة تعارُض تامٍّ مع الموقف النفساني الذي فَرَضَتْه علينا السيرورة الثقافية. ولهذا السبب، نحن مضطرون لأن نعترض عليها؛ إذ لا يمكن لنا قط أن نتحمَّلها. وهذا ليس رفضًا فكريًّا وعاطفيًّا وحسب؛ فنحن – المناصرين للسلام – لدينا نفور بنيوي أساسي من الحرب، أو، إذا جاز القول، فرط حساسية متضخم إلى أكبر درجة.
وفي الحقيقة، يبدو وكأن انخفاض المقاييس الجمالية في الحرب يلعب دورًا في اعتراضنا عليها يكاد لا يقل أبدًا عن الدور الذي تلعبه فظاعاتُ الحرب وأهوالُها.
لكن، كم ينبغي علينا أن ننتظر إلى أن تصبح بقيةُ الجنس البشري مُحِبة للسلام أيضًا؟ لا جواب على هذا السؤال. بيد أنها قد لا تكون طوباويةً منًّا أن نأمل أن يؤدي هذا العاملان، أي الموقف الثقافي والخوف المبرَّر من عواقب الحرب، في المستقبل، إلى وضع نهاية لعمليات شنِّ الحروب ضمن فترة زمنية قصيرة. وإذا كنَّا عاجزين عن تخمين المسالك الرئيسية أو الفرعية التي قد يتحقق بها هذا، إلا أن الأمر الوحيد الذي نستطيع قوله هو التالي: كلُّ ما يعزِّز نموَّ الثقافة والحضارة يعمل، في الوقت نفسه، ضد الحرب.
تقبل مني فائق الاحترام والتقدير، واغفر لي إذا اتفق لآرائي أن تخيب ظنك بي.
المخلص لك،
سيجموند فروي