(المطبخ)
المُرتكبون:
المغسلة
لاتستطيعُ مياهي مسحَ صرخاتِها في نوباتِها الحادة. تكدّس الصحون، الأكواب، والملاعق، والسكاكين، تُكرِّر ضرب قبضتها على حوضي، رأسُها مُرتخٍ على صدرها، تُحدِّق في دوران الماء.
في إحدى خروجاتها على مشهدها اليومي، مضت في سعار الغضب والهذيانات، رمت زجاجاتِ أدويةِ ابنِها في حضني، كسرت الصحون والأكواب، أدارت مقبض الخلّاط، اندفعت المياه وقطع الزجاج، أصبتُ بدوار، فلفظتُ القطع الكبيرة، المحشورة في ماسورتي.
ظلَّت ترفسُني بينما أسعلُ بحدّةٍ، مهشّمه بالمقلاة المزيد.
ظهر ابنُها، أمسكَ زندها ضاغطاً بحُنوٍّ، احتضنها من الخلف، انتفضت،توقفت،تنهدت ولم ترفع رأسها ولم تلتفت…
الخزانة
مللنا، حتى ابنُها ازداد تبرُّماً وكآبةً.
دائمة الصراخ،لاعنة، شاتمة، مُهدِّدةً لنا بالاستغناء كما فعلت ببعض أغراضه الأثيرة.
لايكفُّ غضبُها عن جذب أدراجي وأبوابي التي عاندتها، فباتت تشدُّها للخارج، أو تلطمُها لتغلقها بقسوةٍ تُصيبها بالكسر والشلل.
جنّت في زيارة أختها الأخيرة لها ، شكت ابنها ولعنت المطبخ، مؤكدة أنهما سببُ انهياراتها المتواصلة، حاولت أختُها تهدئَتها، فتشاجرت معها وطردتها، رغم محاولة الابن ردعها عن ذلك.
دخل،بعد ساعة، مديراً ظهرَهُ لهلوساتها، مُتشاغلاً بالبحث عن أقلامه ودفاتره التي يدسُّها في أدراجي، لكمت ظهره، بصقت شتائمها على المطبخ؛ وعلت شهقات بكائِها.
الموقد
هو القرار الصحيح، فخبالُها تزايد، لاتتقيَّد بعلاجها ولا تذهب لمواعيد طبيبها.
سابقاً تشعل عيني وتحرق مايقع بيدها من أوراقه، تمادت حاشرةً دفاتره وكتبه في فرني بشكلٍ هستيريٍّ وغير مفهوم،أهانتني ولعنتني لاحقاً، مُدعيةً أنَّ الفرن احتفظ برائحته.
مؤخراً تكاثرت انفجاراتُ هيجانها، راكلةً الخزانة، باحثةً عن علبة الثقاب، تُكوِّم صوره وأوراقه، تقاريره الطبيّة،تسخر من عيني العمياء تشعل عيوني السليمة،تدعي أنني أتراخى في مهمتي وتلعنني، وتغرق البقايا المُتفحمة في المغسلة المتوجعة أكثرنا.
و…
تشتمُنا؛ تتهمنا وكأننا كنا نستطيع ردعه، لتخرج صافقة الباب.
وعندما توعدتني بالمزيد،فجرّت كل ذعري، وتذكرت ألمي، سألتهم التعاون في خطة الخلاص، فتحمّست المغسلة جدااااا
باشرتُ
بدأب الصبورين …
وشوشت وشوشتوشوشتوشوشت
وشوشت وشوشتوشوشتوشوشت
فوافقوا على الخطة.
الابن
حطمتْ أحلامي،دفنتْها،وضعتْ فوقها حجارةً فوق حجارةٍ، حاولتُ كثيراً أن أجدَ معبراً لأحققَ درجةً من النجاح، لكنها أقعدتني جانبها،أحبطتني،ما عدتُ أستطيعُ التحررَ من حبالِ محبتها المريضة، حتى شح صداقاتي تراها خيانات واهتمام بآخرين، لم أكن مُلتزماً بأدويتي، وألتهم بنهم ،مخبئا في أمكنه خفية في المطبخ الفسيح كل ماترفض أن آكله وأعلم بضرره الفعّال، بات المكان المفضل الذي يعجبني وتكرهه ،آخذ كتبي إليه، وأتحدث مع الأشياء،أخبرها عن الأبطال ، من تجرَّدوا من الخوف، ومَضَوْا للموت وعن جُبني.
مافعلناه:
بدخولها باكيةً صباحاً، فوجِئتْ بخرير المغسلة يلمعُ على الأرض،كادت تنزلق،أمسكت بالحافة الرخامية للخزانة،اعتدلت، فتحت باب الخزانة السفلي، انحنت باحثةً عن لاصقٍ تخنق به الثُّقب،سقط البابُ العلويّ على رأسها فشجَّهُ،دائخةً وقعت على الأرض،انقض الفرن مسرباً الغاز،لتعبّ من الموتِ بسخاءٍ، لمسة اقترحها الابنُ دون أن يدري في روايته عن انتحار شاعرة .
و…
انتظرنا وحيدَها طويلاً… ولم يأتِ وما لمحناه.
المُرتبـــــــــكون:
جارةُ الشقة الملاصقة: تغيَّرت كثيراً خلال عامٍ واحدٍ، لم تعد تتصل ولا تخرج، اختفت.
حارس العمارة: هاتفتني تطلبُ ضرورةَ العثور سريعاً على من يأخذُ الموقد،قائلة:إنه يُكثرُ الهمساتِ الغامضةَ ووعدتها ببيعِهِ خلال أيام.
أختها الباكية: ابنها عانى كثيراً تعلّقها به،من إكتئابات أدت لإسرافه في الأكل، هكذا زادت هلوساتُها خلال عام من وفاته في المطبخ بشكلٍ مفاجئٍ، إثر أزمة قلبية حادة، لتنهار في هاوية التهيؤات،مُدعيةً دون سبب ظاهر أن للمطبخ دوراً في موته.
الابن: رأيتُها تتجهُ إلى المطبخ ، سمعتُ سقطَتَها، أردت لحاقَها، تجمَّدت.عرفت بعدها بسلسة اتفاقات سرت مثل تيار كهربائي ، يقودها موقد مرعوب كان يملكه رجل مهووس بالتخريب،أوهن إحدى عيونه بعطل دائم.
عامي الأثير 1984
نقفُ طوابيرَ متوازيةً، نعرفُ وجهتَنا، وندرك تقلُّص خياراتنا، وأننا مراقبون.
قالوا لنا: ستمرحون.
أدهشنا هذا الهامش من الحرية وأخافنا.
نقيمُ في مبنى 71 أقدم المباني الكالحة،بممراته الباردة،غرفه الضيقة، سجناء بتهمٍ متفاوتة.
على تلةٍ بعيدةٍ عنا،نطلُّ على مبنى مختلفٍ، يكبر ويكبر ويكبر، تزداد قببُهُ الملونةُ، وتعلو داخله قضبان أفعوانية ،برجٌ مخروطيٌّ ملوّن،حبال متشابكة، ومبانٍ عجيبةٌ تُبهرنا.
أبلغونا: سيتمُّ عملُ رحلاتٍ إليه قبل افتتاحه، وزياراتٍ أثناء خلوه من الجمهور.
سعدنا، الخروج لا تجاوره متعة.
أكملوا: فعلَ المديرُ الكثيرَ من الاجتماعات ، حدّث رُتباً عالية للحصول على التصريحات الملائمة للقيام بهذه الخطوة.
فهمنا أنه لايجب علينا التفكير بالمخالفة.
انتباه…
طابورُنا منظمٌ، أشكالُنا متشابهةٌ،الملابسُ ذاتُها، الشعر المقصوص، العيون القلقة، والجانب الأيسر الأكثر ضعفاً، إذ يبطشُ المديرُ بنا بيده العسراء، تاركاً إيانا معطوبي القلوب.
انتباه…
السيد المدير يقرأ 1984.
السيد المدير المشكوك في عكاز شهادته الجامعية في علم النفس، مقرونة بعسكريته وادَّعائه الثقافة، منحه خليطُ امتيازاته القفزات الرشيقة في الترقي.
وشوشت الشفاه بلعبته المأفونة:مايقرؤه يوقد مزاجه. ففي الشهر الماضي “الجريمة والعقاب”الأهوال اتجهت إلى عنبر السّارقين والقتلة، أما كتابه المفضل فكان”تاريخ التعذيب” لبرنهاردت .ج .هروود، يراه مرجعاً، يسرد منه وساخاتِ أساليبِ المفترسين لترهيبنا.
تجتاحنا عقاباتُهُ الاعتياديةُ أثناء حفلات التفتيش، أو غرفة الطعام الجماعية العطنة، أو عبر الاستدعاءات إلى مكتبه، أما ابتكاراتُهُ فيمارسُها من غرفٍ بعيدةٍ، ولا يتوقف الواشون عن إمدادِهِ بالأسباب.
ظهر الفطرُ في الصحراء واكتمل، حامت أحاديث حول هدفه في “اللهو والبهجة”، تداولنا اسم المبنى الجديد “المدينة الترفيهية”.
أيقظونا نمشي بأصفادنا الضيقة. نعرف اتجاهنا، ونخاف، نتعرق أكثر.
ركبنا ثلاث عربات بطيئة، تتهادى على الطريق.
منذ انتهى من كتاب 1984، تلبّسه وجه الصمت الطويل. يمرُّ على عنابرنا واجماً، يدخل زنزاناتنا، يطيل النظر لنا متأملاً ومفكراً ويخرج متكدراً.
بدأت لاحقا الزياراتُ المكوكية للمسؤولين الكبار، ازداد توجسي حول مايُرتِّبه لنا.
وصلنا…سور يكشف عن مبنى رابض، خطوط عرضية، يتعاونان البرتقالي والأبيض المنعشان على خلق الغبطة، تُطالعنا قبةٌ عظيمةٌ في الداخل، سمعنا صوتَهُ الزّاعق يأمر:
الأرقام التي سأنادي أصحابَها، تنزل من العربات.
5، 22، 108، 200، 33، 24، 48.
أُخذت بالألوان الزاهية، تنتزع قتامة نفسي.نادَوْا على رقمي مراراً، ذاهلاً لم أسمعهم، خطأ لايغتفر في دائرة سهوي.
جاء بشاربه الكث وعينيه الشرستين، نظر إليَّ طويلاً وبصوته المخيف صاح:
24.
ارتجفت، أجبته بنعم متقطعة ولاهثة.
التفت إليهم.
انتباه:
الأرقام السابقة، كلابي الطيبة.
سمعت بحماستكم الكبيرة لرؤية المبنى، أرق اثنان منكم بالأمس خوفا ألّا أصحبهما، لذايسعدُني إخباركم أنَّ الرحلة انتهت لكم جميعاً، أطيلوا النظر للبوابة فذلك ماسترونه فقط.
عودوا الآن إلى العربات.
ساروا بأكتف محنية باتجاه طريقٍ امتدَّ.
أزدادُ تعرقاً.
انتباه:
71، 12، 60، 83، 68، 30، 92، 220، 1000
كلابي الضّالة
لا أعرف متى أصبحتم جاحدين؟ ولا كيف يا أولاد الزِّنى تخونون سيدكم؟من سمح لكم بالتَّفكير؟
ضاحكاً قال:
أستغربُ اعتقادَكم بإمكانية إخفاء خطتكم الغبية.
كلُّ حرفٍ، أو رأي طرح، كلُّ وقاحةٍ شجعت على الفرار وصلت إليَّ.
بوجهٍ حائرٍ أكَّد قائلاً:
أنا يتمُّ استغفالي…؟
مهدت رحلة لم تحلموا بها، حاولتُ إسعادَكم فاستقبل بالعصيان ونكران الجميل؟كيف يا سفلة تستغلون هديتي للهروب؟
حسناً يا كلابي الحمقاء، سأظلُّ كريماً وأمدُّكم يا أوغاد بمفاجأتيْن:
الأولى: أن أعيدكم إلى واقعكم الدنيء.
نزل من العربة الثالثة، حرّاس أشداء، بوجوهٍ تميّز كراهيتها
بهدوءٍ أمرهم:
ابدؤوا.
شرعت حفلة الرَّفس، الرَّكل، والصَّعق بالعصيِّ المُكهربة، حُمى التَّكسير والوجع استمرت ترسم خرائطها، انهار البعض نائحاً ضياع الحلم والمهانة، وتجلّد البعض غاضباً لخيبتِهِ.
فجأة اخترقتنا صيحة:
انتباه:
24
نظروا إليَّ، اقتربَ، شعرت بألمِ مثانتي. وضع ذراعه على كتفي قائلاً:
نتيجة لما قدَّمته، سأجعلُ الأولويةَ للدُّخول واللعب لك أيها الواشي.
مذعوراً لكشفِهِ خديعتي لهم، دفعني حراسٌ تفوح منهم زناخة القسوة.
أدخلُ مُتعثراً المدينة الترفيهية، بخطىً مذعورةٍ، مُترددةٍ، مُلتفتا تجاه بؤرة كلابٍ مسعورةٍ، دائرة عيون تبرز من وجوه نهشتها أنيابُ الهزيمة،تنبض بالكراهيةِ والبطشِ.
أخذوني إلى كهفها الحالك، عرفت أن تشكيك البعض بزيف شهادتِهِ كذبة حقيرة.
أجلسوني، قيِّدوني.
ببراعة الخوف، سمعت تكّات تشغيل اللعبة، المعنونة بـ”سندباد” الرحالة، في العربة الصَّغيرة، المرسومة عليها وجوهاً كارتونية مُتوعدة، أكزّ على أسناني، راغباً بقضم أظافري، فأسمع صريرها مُقترباً من فوهة الظلام.
عرفت أنَّ هذه اللعبة هي الغرفة101 في كتاب 1984، تهبط فيها أقسى رهابات وعذابات السجين، مواجهاً أكثر مخاوفه فزعاً، لايعرفُها إلا أقرب الرِّفاق، فتأكدت أنَّ صاحبي في زنزانتي الضَّيقة، واشٍ آخر.
انتباه:
مقيداً في العربة، يُواجهني فكُّ مغارةٍ بالسَّواد الذي أخشاه، أرتجفُ، ببطءٍ شديدٍ، ندلفُ، ننغمسُ في زوايا خرساء، تبزغ شخصياتٌ كارتونيةٌ، تقفُ ضاحكةً، تثب، تسقط من أعلى صارخة يُواجهها هلع وجهي الدامع، أسمع زئير خوفي في صدري يزدادُ ضجيجاً،يتوالى مسيرنا مابين بقعٍ داكنةٍ وزاويا ضوء تهذرُ بالتفاصيل،يزدادُ ظهور الإعتام، يترددُ نحيبي قبالة أفواه كهوفٍ تمضغ طمأنينتي.
أطبقت أصابع الذُّعر عليَّ ما إن سكنت العربة، أفلتت حنجرتي صرخة، حاولت فكَّيدي،ومنسوب رعبي يرتفع إزاء همساتٍ متداخلةٍ، تدنو أضواءُ مصابيح كهربائية.
وكانت مفاجأتُهُ الثَّانية…
وجدتني أمام وجوه زملائي السجناء الذي غرَّرت بهم، أمسكوني، خارت مثانتي،وانهالت قبضاتُهم.
سأخبرُكم أنَّ ذلك أصبح العام الأثير:
عام: تمَّ نقل المدير بسبب هذا المشهد.
عام: افتتاح المدينة الترفيهية.*
عام: خلّدت فيه صرختي الشهيرة في اللعبة، تك تك تك تأتي العربة الصغيرة، تندفع، تتباطأ عند كلِّ بقعةٍ مُعتمةٍ، ضوء يكشف عن جبل دنانير ذهبية لامعة، أو شخصية معصوبة العين الواحدة لأحد اللُّصوص، يُحركها زنبرك معروف التوقيت، فتثِب للأمام بوجهها المتوعّد، بعدها…
وحدهم المصابون برهاب الظَّلام مثلي، عند وقوف المركبة في زاويةٍ دامسةٍ، تُباغتهم مخاوفُهُم، يُبصرون مصابيحَ كهربائيةً ساطعةًوهمسات تردد كلمة”الواشي”، فتمتزج صرختُهُ طويلاً مع صرختي اللانهائية، التي أديتُها لزملائي أثناء هروبي إلى السماء.
*افتتحت المدينة الترفيهية في منطقة الدوحة عام 1984.