
مقاربة بين رواية ” تاريخ موجز للخليفة وشرق القاهرة ” لشادي لويس وفيلم “ريش” لعمر الزهيري
ماذا يحدث حين يتحول العنف من صراخ مدو إلى صمت خانق؟
حين تصبح الأبوة نفسها ، التي يفترض أن تكون ملاذاً ، مصدراً للخوف ، ثم تتلاشى تاركة وراءها خواءٌ يتسرب إلى كل شيء؟ . في هذه القراءة نتتبع أثر العنف وتعرية صورة الأب تحت وطأة العنف الكامن ، لتكشف عن عالم مأزوم فقد إيمانه بالسلطة والحماية. العنف ، لا في مظاهره الجلية فحسب. بل في تشظية داخل الذاكرة واللغة والصورة، محاولة أن تقارب المسافة الفاصلة بين الأب الغائب والعالم المنهار .
الأب بوصفه ظلاً غائباً :
لطالما شغل ” الأب ” موقعاً مركزيا في المتخيل الأدبي والسينمائي ، بصفته حارس النظام الاجتماعي ورمز الحماية . إلا أن تحولات الواقع العربي، بما يحمله من خيبات وانكسارات ، انعكست على صورة الأب لتعيد تشكيلها في أشكال متصدعة وهشة. في رواية “تاريخ موجز للخليفة وشرق القاهرة” (2019) لشادي لويس و فيلم “ريش” (2021) للمخرج عمر الزهيري ، يحضر الأب بوصفه غائبا أو متلاشيا ، حيث تتحول الأبوة إلى عبء وتفقد مركزيتها الرمزية، كاشفة بذلك انهيار العالم القديم وانسداد الأفق أمام الأفراد.
في رواية شادي لويس ، تظهر صورة الأب عبر ذكريات الابن المبعثرة ، التي تتردد على لسانه كسارد للأحداث . يروي علاقة متوترة، ملغومة بالخوف والرفض، بينه وبين والده، إذ يقول في أحد المقاطع:
” كنت سعيداً أننا رحلنا، فلم يكن هناك ما هو أكثر مرارة من حياة تحت التهديد المزمن،
العيش مع الخوف من أنه سيرمينا زي الكلاب في أنصاص الليالي، كما يقول -بابا-“.
أما في فيلم ريش ، فالمشهد المحوري الذي يتحول فيه الأب إلى دجاجة خلال حفلة عيد ميلاد ، دون أن يعود بعدها إلى هيئته البشرية، يشكل ذروة السريالية التي يعتمدها الزهيري. يتحول الأب من كائن فاعل إلى رمز حي للعبء : دجاجة عرجاء تتطلب رعاية دون أن تقدم دعما .
هنا تبرز مفارقة حادة: الأب موجود جسديا لكنه ميت رمزيا. هذا الانقلاب السريالي لا يُفسر ، مما يزيد من قسوته وسخريته .
غياب الأب في العملين لا ينحصر في العلاقة الأسرية فقط، بل ينسحب على المشهد الاجتماعي كله.
في الرواية، توازي هشاشة علاقة السارد بأبيه انهيار القاهرة، حيث تصف الرواية المدينة كمساحة قذرة متداعية، بعماراتها المتآكلة وشوارعها المنهكة:
” كان شارعنا يقف على خط يقسم عالمين، فالحي الذي قيل إن شركة سويسرية قد أهدته لعبد الناصر في نهاية الخمسينيات ، جلب العمران لصحراء عين شمس ، وهتك ذلك الحاجز الطبيعي ، الذي -ولوقت طويل- ترك عمدا ليفصل مصر الجديدة عن المطرية وامتدادها الريفي. كانت مساكن الحلمية خليطا بين الاثنين، أو منطقة عازلة للهدنة بينهما ، أو على الأقل تقدير عتبة للولوج من عالم إلى آخر تماما. (…) برر ذلك لوالدي أن يدعي أمام المعارف البعيدين بأن الحوائط الحاملة ذا الدورين، الذي نسكنه بحديقته الخلفية وشرفته الاسمنتية ، هو فيلا . وكانت أمي أحيانا ما تدير رأسها وتمصمص شفتيها، هامسة في تبرم: ” المساكن الشعبية بقت فيلا برضو!”.
بالمثل في ريش تعاني الأم في صمت مجتمع بارد وخامل ، حيث لا يقدم لها أحد يد العون بعد غياب الزوج. على العكس يعامل الفقر كأمر طبيعي لا يستدعي الثورة أو الغضب. في أحد المشاهد اللافته، تذهب الأم باحثه عن عمل، لتجد نفسها في مصنع متداع تستغل فيه النساء بأبخس الأجور، دون أدنى شعور بالكرامة.
غياب الأب هنا يكشف عن بنية اجتماعية قاسية لا ترحم الضعفاء.
السرد مقابل الصورة :
تستخدم رواية لويس لغة سردية مشبعة بالتهكم والمرارة، تجمع بين الاعتراف الشخصي والتأمل الجماعي .
تتكرر إشارات السارد إلى إحساسه الدائم بالخذلان ، ليس فقط من والده المتغطرس والطاغية، بل من كل أشكال السلطة التقليدية: المدرسة، الجيش، الوطن. يقول في لحظة يأس:
” لم تعد الكلمات هي الأشياء ذاتها كما كانت، كن فيكون، أضحت صوراً لا تشبه الأصل إطلاقاً، رموزا متفقا عليها بما يكفي لأن نفهم بعضنا بعضاً، بالكاد، وعلى وجه الظن. (…) والتأويل أصبح لازماً ، و تقريبياً، وموضعا دائما للشك الذي يجلب معه الحاجة إلى المعاجم والمعلمين والشعراء ورجال الدين والشرطة، وبالطبع، ومن هنا، ولدت البلاغة والكذب كتوأم “.
في المقابل يعتمد الزهيري في ريش على السرد الصامت والبناء البصري الثقيل. اللقطات الطويلة، الإضاءة الخافته، والألوان الباهتة، كلها وسائل تكثف مشاعر الاختناق والغياب .
غياب الحوار أو تفسير الأحداث يجعل المشاهد يتماهى مع حالة الأم : الحيرة، الذهول، والبحث عن مخرج بلا جدوى .
الأب كظل لا يرحل:
في الرواية كما في الفيلم لا يغيب الأب تماما . بل يبقى ” ظلاً ” يطارد الشخصيات.
في رواية لويس ، تستمر ذاكرة صوت السارد في استدعاء صورة الأب حتى بعد موته، كجرح مفتوح لا يندمل.
وفي ريش ، حتى بعد تحول الأب إلى دجاجة مهملة، تظل الأسرة محاصرة بغيابه، كأنما عبء السلطة القديمة لا يختفي بل يتحول إلى طيف خانق .
في كلا العملان تتحول ثيمة الأب من مصدر للقوة إلى علامة على الانهيار. ويطرح شادي لويس وعمر الزهير ، كل بأسلوبه ، رؤيتين سوداويتين لواقع مأزوم ، حيث الغياب أكبر من الحضور، والخلاص يبدو بعيداً و شاقاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*هند الحسن – السعودية